العربي الآن

أبو محمد الجولاني أم أحمد الشرع؟

الرجل الغامض الذي اقتحم أبواب التاريخ السوري

همام البني – العربي القديم

تغير كل شيء في سوريا خلال أيام. الطريق بين حلب ودمشق شهد تاريخا مليئا بآلاف المعارك والفتوحات، مرَّ على هذا الطريق طامحون وحالمون وقادة خاضوا معارك طريق الحرير. معركة إسقاط الأسد جاءت أسرعها وأقلها دموية. أكثر الخبراء الاستراتيجيين عبقرية في العالم، وكل المتفائلين والمتشائمين في سوريا، لم يكن لهم توقع حتى جزء يسير من هذا السيناريو الأخير. قال لي صديق حمصي في جيش التحرير السوري، بعد يوم من الخلاص: “كان حلمنا الأسبوع الماضي الوصول إلى مورك فوجدنا أنفسنا في دمشق”، رجل واحد كان يعرف الطريق، وكان مستعدا لهذه اللحظات، إنه (أبو محمد الجولاني)، ذلك الرجل الغامض الذي اقتحم أبواب التاريخ السوري.

في يوليو عام 2016. كنت مشرفا تحريريا في تلفزيون أورينت الشهير، جاءني اتصال من مراسلنا في إدلب، الزميل العزيز محمد الفيصل، “هُمام، أبو محمد الجولاني أعطانا تصريحا خاصا بوجهه الحقيقي، سيظهر بلا حواجز للمرة الأولى، استعدوا لبثه على نشرة التاسعة”‘.

 أذكر تماما تفاصيل تلك الدقائق، كان رئيس التحرير بالطائرة، لا يمكن الوصول إليه، يجب أن اتخذ قرارا تحريريا سريعا بهذا الحجم في دولة ليست على وئام مع تلك الجماعات، الساعة تشير إلى الثامنة وخمسة وثلاثين دقيقة، من يستطيع الانتظار ليرى أبا محمد، الرجل الذي يقود الفصيل الذي أعيّا نظام الأسد لسنوات وفتح إدلب (بمصطلحات الجماعة) وحررها بعيون السوريين. العالم كله ينتظر رؤيته، جهزوا الاستوديو، احجزوا خبراء الجماعات الإسلامية. السبق للصحفي هو فتح من نوع آخر.

اكشف هنا سرا، لم أشاهد المقطع المرسل عبر الأقمار الاصطناعية كاملا، تأكدت من جودة الصورة والصوت، وعدم احتوائه على مشاهد خطيرة، وانطلق البث قبل موعد النشرة بعشرة دقائق. جاء المشهد مربكاً ومغايراً لما كنا ننتظره، كان يمكن لهذا الشاب الظاهر على الشاشة أن يكون بدل أحدنا في الاستوديو لو رسم له القدر طريقا آخر، ظهر الرجل سوريا أكثر من المتوقع بكلام يبدو معقولاً. في هذه المقابلة، أعلن فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وتغيير اسم الجماعة إلى جبهة فتح الشام. كانت هذه الخطوة تُعتبر جزءًا من محاولة لإعادة تشكيل صورة الجماعة وفك ارتباطها بالتطرف العابر للحدود، والتركيز على القتال الوطني داخل سوريا.

ظهوره بوجهه الحقيقي كان لافتاً لأنه كان معروفاً بارتداء قناع أو عدم الظهور علناً في المقابلات السابقة، مما أضفى طابعاً خاصاً على هذه الخطوة وأثار الكثير من النقاش حول أسبابها ودلالاتها.

كل شيء في سوريا كان سوريالياً. نظام يدعي العلمانية والتحضر، يقتل ويعذب الجميع، مقاتلون بميول إسلامية متشددة يدافعون عن حقوق الجميع، رفاهية الاختيار لم تكن موجودة، فالسوريون بعد مقتلة المظاهرات الكبرى لم يملكوا إلا الصمت، طوابير البطاقات الذكية وبكائيات الأطلال. جاء اختيار أبو محمد وجبهته، على مضض،  لأكثر السوريين المعادين للاسد.

حياة الرجل الممتلئة بتفاصيل وقصص سببت الخوف لدى السوريين، مثله كان يمكن أن ينتهي به المطاف بأي لحظة، سجينا يائسا في سجن بوكا الشهير في العراق، جهاديا مطاردا في أحد كهوف تورا بورا، مقصوفا من تحالف دولي لا يرحم أصحاب الأفكار الجهادية الحالمة، أو كمجاهد سابق عاطل عن العمل في مدينة أو قرية نائية، بأفضل الأحوال. كيف لم يحصل معه كل ذلك؟ أتقن الرجل مهارات البقاء، كان ناجيا سوريا آخر، لكن على طريقته. بين “التكيف والمرونة”، سر البقاء كما اخبرنا داروين، والتوقيت السليم واقتناص اللحظة كما علمته الحياة، حاك أبو محمد الجولاني مسيرته.

تحجرت كل أطراف المشهد السوري، ذابت معارضة الخارج في مشاكلها وخصوماتها، خسر الأسد العنجهي فرصه وحلفاءه الواحد بعد الآخر، وتغير أبو محمد. قرأ مآلات الإقليم، بنى علاقاته في الداخل والخارج بفن الصبر الإستراتيجي، كان يعرف خطورة الخطأ القاتل في ساعات صناعة التاريخ. وصل إلى نسخته التي نراها اليوم، أحمد الشرع، قبل وصول طائرة الرئيس المخلوع إلى موسكو وقبل دخوله هو نفسه إلى دمشق برمزيتها التاريخية.

ترك الرجل، “الجولاني” خلفه هناك في إدلب الخضراء، سنوات توحيد الفصائل ولململة الجراح، وصناعة فريقه المقرب الذي كان بحاجته. في اتصال مع إحدى الزميلات الإعلاميات لاستقراء وقائع المقابلة الأولى للسيد الشرع مع الإعلام، وهي إعلامية متمرسة، وسيدة حذرة في التفاؤل، قالت :”لقد شعرنا بالراحة لم يكن الهواء ثقيلا، نظر الرجل بعيني عندما سألته عن مستقبل سوريا وتحدث مطولا. يبدو الرجل واثقا جدا، وحالما أكثر” قلت لها: ” أنه من النوع الذي يحقق أحلامه بحذافيرها كما رآها وتخيلها، سنكون ممنونين لله حقا لو استشرفنا أو أخبرنا بأحلامه القادمة، آملين أن لا يتخلى عن مهارات البقاء فسوريا بحاجة لتاريخ يُكتب من رجال دولة، بيوتها وجوامعها على مدار التاريخ كانت ممتلئة بقصص رجال الدين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى