خلدون زين الدين: من الجيش الحر إلى كتيبة سلطان باشا الأطرش
كان يُشكل وجوده توازناً بين السهل والجبل، وصمام أمان لتجنّب الفتن التي سعى النظام إلى إشعالها
رامي زين الدين – العربي القديم
“الكرامة يا أهل سويدا الكرامة”.. سقط النظام وهرب الأسد يا خلدون..
لبّت السويداء النداء يا خلدون.. دماؤك الطاهرة التي روت ثرى الوطن لم تذهب سدىً.. صُورك تُزيّن “ساحة الكرامة”، والعقيد رياض الأسعد بضيافة أهلك، والسوريون يحتفلون بالنصر.
من بين آلاف الصور التي شاهدتها بعد سقوط النظام، والهروب المذل لبشار الأسد، كانت أبلغها تأثيراً صورة العقيد رياض الأسعد، مؤسس الجيش الحر في منزل عائلة الشهيد خلدون زين الدين في السويداء، لتعود بي الذاكرة إلى العام الأول للثورة، إلى أبطالنا الذين لولاهم لما كانت الثورة، ولا استمرت، ولا تُوّجت بالنصر، ليتنفس السوريون الحرية أول مرة منذ عقود.
حتى أيلول سبتمبر 2011، كان عدد العسكريين المنشقين في سوريا لا يتجاوز أصابع اليدين، بعد أن شكّل الشهيد المقدم حسين هرموش “حركة الضباط الأحرار”، كأول فصيل عسكري ضد النظام، وفي الـ 15 من ذلك الشهر شهدت الثورة السورية تحولاً كبيراً بعد انشقاق أول ضابط درزي.
من محافظة درعا جنوب سوريا، أعلن الملازم أول المهندس خلدون زين الدين (ابن قرية شعف جنوب شرق السويداء) انضمامه للجيش الحر، ما شكّل آنذاك صفعةً مدوية لنظام الأسد الذي ادعى “حماية الأقليات”، ومواجهة ما كان يُطلق عليه زوراً “العصابات الإرهابية المتطرفة”.
بعد انشقاقه بوقت قصير، أسّس خلدون كتيبة “سلطان باشا الأطرش”، وانضم إليها عدد من المتطوعين من أبناء درعا والسويداء، وسرعان ما بدأت العمليات العسكرية ضد مواقع تابعة للنظام. ولحوالي العام ونصف العام خاض خلدون الكثير من المعارك، وتعرض لأكثر من إصابة، كاد يفارق الحياة في إحداها قبل أن يخضع لعملية جراحية معقدة في مستشفى ميداني بقرية الحراك، استمرت لساعات، ما دفع الثوار إلى تشكيل طوق عسكري، وإقامة حواجز لتأمين مكان إجراء العملية التي تكلّلت في نهاية المطاف بالنجاح.
وبعد تعافيه، عاد خلدون إلى المعارك، وشارك في تحرير العديد من النقاط العسكرية، ثم قرر فتح جبهة السويداء وتنفيذ عملية ضد موقع عسكري، واستعد مع حوالي 120 مقاتلاً، تحت مسمّى “تجمع أحرار السهل والجبل”، وذلك بداية يناير كانون الثاني عام 2013.
بعد أن اتخذوا 3 مقرات لهم جنوب سد الروم بمنطقة ظهر الجبل، اضطر خلدون ورفاقه نتيجة ظروف الطقس القاسية، وتساقط الثلوج إلى تأجيل العملية عدة أيام، لكن لسوء حظهم، تم اكتشاف مكانهم من قبل عملاء النظام، فباغتتهم أجهزة الأمن وحدثت المعركة الأولى بتاريخ 10 كانون الثاني يناير، استشهد خلالها المساعد أول سامر البنّي وهو من أبناء السويداء، فصمد الثوار لساعات، ثم اضطروا للانسحاب، وبعد يومين من المواجهات المتقطعة، اندلعت معركة أخرى يوم 13 يناير، أصيب فيها قائد تجمع “أحرار السهل والجبل خلدون زين الدين برصاصة قناص في الرأس، عند تل شرقي قرية سليم، ما أدى إلى استشهاده فوراً، عن عمر (28 عاماً).
وتحت ظروف المعركة والطقس، اضطّر شقيقه الملازم أول فضل زين الدين ورفاقه إلى دفن جثة خلدون تحت الثلوج التي تجاوزت سماكتها آنذاك المتر، حيث تعذّر الوصول إلى التراب وسط الرصاص الكثيف، وكان من المفترض أن يأتي ناشطون من السويداء لنقل الجثة ودفنها في مكان آمن، لكن النظام استطاع الوصول إليها قبلهم، ولا يزال مكانها غير معروف.
وبحسب شهادات مقاتلين شاركوا في تلك المعارك، لم يتلقّ المحاصرون في ظهر الجبل أي دعم أو مؤازرة، باستثناء “فزعة” بعض نشطاء السويداء الذين عرّضوا أنفسهم للخطر، كما تحركت أرتال عسكرية من “لواء العمري” في درعا ومقاتلين من بدو السويداء، ساندوا الثوار وأسعفوا الجرحى. وخلال تلك المعارك استشهد 20 مقاتلاً من أبناء درعا على الأقل، من بينهم طالب الطب باسم فواز الزعبي من بلدة طفس.
كالأم التي ترعى ابنها، احتضنت درعا خلدون طيلة فترة انشقاقه، وكانت بيوت أهلها مفتوحة له، كما عقد قرانه في قرية “الكرك” على فتاة من السويداء، اسمها أميرة أبو حصاص، كانت متطوعة في الجيش برتبة ملازم أول، قبل أن تنشق وتنتقل إلى درعا.
حظي خلدون بتقدير كبير بين أهالي درعا لانضباطه وسمعته الحسنة، وكان يُشكل وجوده توازناً بين السهل والجبل، وصمام أمان لتجنّب الفتن التي سعى النظام إلى إشعالها. كما لم يكن انشقاقه موقفاً وطنياً وأخلاقياً فحسب، بل كان أيضاً يعكس وعياً سياسياً بالدور الحقيقي لأي جيش، يُقسم على حماية شعبه.
وخلال الفترة التي قضاها على جبهات القتال، حاول نظام الأسد عبر أذرعه الأمنية الضغط على عائلة خلدون حتى تتبرأ منه، لكن مساعيه فشلت وخابت؛ لأن خلدون تربى ونشأ في منزل يعشق الكرامة والحرية، فوالده ووالدته لم يفارقا ساحة الكرامة يوماً واحداً منذ عام ونصف تقريباً، وكانا في مقدمة التظاهرات التي أقلقت راحة الأسد، وظلت عامرة بأبطال وبطلات السويداء.
ويكفي أن نرى كيف رد سامي زين الدين (والد خلدون) على طلب بعضهم تسمية “ساحة الكرامة” باسم ابنه الشهيد، إذ قال: “خلدون لكل سوريا، ولم يقدم روحه من أجل تسمية ساحة أو إقامة تمثال له”، تخيلوا كيف يُفكر هذا الإنسان النبيل وكم من سوريين فقدوا فلذات أكبادهم يفكرون مثله، بينما حكمتهم عائلة مجرمة وفاسدة بالحديد والنار، مشيّدة تماثيلها من أقصى البلاد إلى أقصاها.
كغيرها من المناطق السورية، قدّمت السويداء التضحيات خلال سنوات الثورة، سواء من استشهد من أبنائها في المعتقلات تحت التعذيب أو في ميادين القتال، وهم أكثر من أن يتسع لهم مقال أو بضع صفحات، لكن مع الاعتذار ممّن لن يتسنى ذكرهم، سأشير إلى مجد زين الذي استشهد على ثرى مدينة الرستن، وهو يقاتل إلى جانب الجيش الحر، وحسام ذيب قائد كتيبة يوسف العظمة بريف دمشق، الذي توفي عام 2015 بحادث سيارة بين ألمانيا والنمسا، والمخرج تامر العوام، والناشط صلاح صادق اللذين استشهدا في حلب، حيث كان الأول يُوثق جرائم النظام، والثاني يشارك في فعالية لدعم الأطفال بأحد المخيمات. ولا ننسى وافد أبو ترابة، أحد أبطال الجيش الحر، وشهيد السويداء الذي غدر به النظام وعملاؤه، والعقيد مروان الحمد، والمقدم حافظ فرج، والعسكري المنشق سمير أبو فخر، والشاب باسل الشمندي الذين استشهدوا في غوطة دمشق، وغيرهم الكثير ممّن انحازوا إلى الحق ودافعوا عن أهلهم السوريين في كل مكان.
وبعد سقوط نظام الأسد، عاد الكثير من السوريين إلى وطنهم، مثل أمير الجبر الذي قاتل إلى جانب خلدون زين الدين، ومهند العيسمي أحد ضباط الجيش الحر المنشقين، الذي تولى قيادة “لواء الشهيد مازن” بريف إدلب في السنوات الأولى للثورة، وفي ساحة الكرامة حملها الناس على الأكتاف مرحبين بقدومه ومحتفين بشجاعته، عندما وقف إلى جانب أهله السوريين.
بدءاً من التظاهرات السلمية عام 2011، ومساهمة الضباط والمتطوعين في كتائب الجيش الحر، والمعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، وصولاً للدور الكبير الذي لعبه الشيخ الشهيد وحيد البلعوس، ومن تبعه في منع النظام من جعل أهل السويداء حطباً لحربه الإجرامية ضد السوريين، ثم عودة الحراك السلمي في “ساحة الكرامة”، أفشلت السويداء مؤامرة الأسد الطائفية، وأسهمت مع باقي السوريين بإسقاط نظامه البائد.
هذه التضحيات التي صانت تاريخ دروز سوريا، ليست إلا استمراراً لإرث سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية ضد الفرنسيين، الذي لبى نداء الوطن والواجب، ورفع شعار “الدين لله والوطن للجميع”.
_________________________________________
من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024