سير ذاتية ومذكرات

رأس حافظ الأسد: قصة زيارته إلى إدلب وسحارة البندورة  

في يوم ما، وبالمصادفة، اهتديتُ لحل هذه اللغز الذي استعصى على الحل

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم

درستُ الابتدائية والتي كانت على زماننا ست سنوات تبدأ من الصف الأول حتى الصف السادس في مدرسة “النهضة الإسلامية” على تخوم التلة الشرقية في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، وكان معلم صفنا في مادة الاجتماعيات (التاريخ، الجغرافيا، التربية الوطنية) مصطفى الحسين شيوعياً من بلدة “الفوعة” الشيعية والتي تبعد بضعة كيلو مترات إلى الشمال من مدينة إدلب، وكانت جدران صفوفها تلك الأيام خالية من صور حافظ الأسد الرئيس السوري الذي جاء إلى السلطة حديثاً.

ولكن دوام الحال من المحال كما يُقال، فقد بدأت صور حافظ الأسد تأخذ مكانها بخجل على الجدران، ومنها جدران مدرسة “الثورة” الإعدادية للبنين والتي كنتُ أحد طلابها والواقعة بين كروم الزيتون في حارتنا في المساكن الشعبية الجنوبية من مدينة إدلب. وظاهرة انتشار صور حافظ الأسد قبل تماثيله بدأت بذورها تنمو بعد حرب السادس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 حيث شاعت أكثر وصارت تُرفع في المسيرات الطلابية، وقبل صور حافظ الأسد كانت صور جمال عبد الناصر هي الشائعة على واجهات الدكاكين وفي بيوت السوريين.

كُنت أنظر تلك الأيام إلى صورة حافظ الأسد فتخطر في بالي صورة أخرى لأحد شباب حارتنا في المساكن الشعبية الجنوبية “أحمد أبو عيون السود” معلم تمديدات صحية، وسياسياً: ناصري الهوى -من جماعة جمال عبد الناصر ما مات- كان يُجادل والدي راشد دحنون أمام الدكان في صيف عام 1971 لشراء “سحارة” بندورة ناضجة أكثر من اللازم، فسأله والدي: ماذا ستفعل بسحارة بندورة وهي كثيرة على عائلتكم؟ قال ضاحكاً: لن نستعملها في الطبيخ، بل سنرمي حبات البندورة على حافظ الأسد الذي سيلقى خطاباً من شرفة منزل قرب ساحة إبراهيم هنانو.

كانت تلك زيارة حافظ الأسد الأولى والأخيرة إلى إدلب صيف عام 1971، ولم يعد إلى إدلب ثانية، وغضب من أهلها غضباً شديداً وحقد عليهم بعد رميه أثناء خطابه بالبندورة وبالأحذية والشحاطات. ولكن بقيت صوره تُرافق أهل المدينة في الدوائر الحكومية والمدارس. كنتُ أنظر إلى صور حافظ الأسد ومن ثمَّ إلى تماثيله الشائعة بأشكالها الكثيرة، وأنظر إلى صور شقيقيه رفعت وجميل، وأيضاً إلى صور صلاح جديد وغازي كنعان وإلى صور العديد من الشخصيات العسكرية والسياسية التي حكمت سورية وكانت ولادتها في جبال الساحل السوري في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، فلا أجد تفسيراً معقولاً لهذا الشكل من الرأس الذي يحملونه على أكتافهم. ما السر يا تُرى؟ هل لأنهم من طائفة دينية واحدة؟ كنتُ أتساءل، فرأس حافظ الأسد وشقيقيه -خاصّة رأس رفعت الأسد- يتميّز بتكوين عظمي خاص، فالعظم الخلفي للجمجمة، أو القذال، يتسطح مكوناً مستطيلاً مع العظم الجانبي، أو الجداري، بزوايا قائمة ويصبح الرأس مرتفعاً وعريضاً والجبهة مسطحة وأعرض مما يجب، وفي العامية الدارجة نقول عن ذلك: رأسه “بطش”.

في مرحلة الثانوية العامة في مدرسة المتنبي بإدلب سألت -همساً- العديد من الزملاء والأصدقاء ومن ثمَّ سألت والدي راشد دحنون وكان -رحمه الله- من جماعة خالد بكداش عن هذا الشكل الغريب لرأس حافظ الأسد فكان الجواب ملتبساً في العموم. وبعد أن درّسنا الأستاذ “حافظ إبراهيم” مادة الوراثة في كتاب العلوم الطبيعية في الثالث الثانوي العلمي الشعبة الرابعة صرت أرجّح بأنّ السبب يعود إلى حالة وراثية، لأنّ جماعة حافظ الأسد من طائفة دينية واحدة ولا يتزوجون من خارج جماعتهم في الغالب وهم يعيشون في قرى منعزلة نسبياً في الريف البعيد في جبال الساحل السوري.

ولكن في يوم ما، وبالمصادفة، اهتديتُ لحل هذه اللغز الذي استعصى على الحل. فبعد أن جاء عصر الإنترنيت، وشاعت الكتب الإلكترونية، وجدت كتاباً بديعاً بترجمة عربية أنيقة عنوانه: “أرض الذكريات”. حملّتُ الكتاب على حاسوبي، وكان من تأليف الطبيب والرّحالة الفرنسي “لورتيت” عميد كلية الطب في مدينة ليون الفرنسية حيث زار سورية ولبنان وفلسطين والأردن مع فريق من الرسامين والمصورين والباحثين واستغرقت رحلتهم خمس سنوات بين عامي 1875- 1880 ومن المُشاهدات المميّزة التي سجلها الطبيب في كتابه طريقة سكان جبال الساحل السوري في تربية أطفالهم الرضّع وتغذيتهم. ويبدو أنها طريقة توغل في قدمها إلى عهود بعيدة. وهنا اتضح السر، فالأم لا تحمل رضيعها على ذراعيها مدثراً بقماطة، بل تمدده على ظهره، منذ ولادته في مهد، أو سرير ذي شكل خاص ومميّز. وعند الرضاعة تجثو قربه وتحنو نحوه بثديها متكئة على خشبة تُثبّت في السرير لهذه الغاية. أما بول الرضيع فيجري التخلص منه بواسطة قناة خاصة تمرُّ عبر الفراش وتنتهي إلى دلو من المعدن أو الفخار موضوع تحت السرير. والطفل في كل هذا تغطيه ملابس خفيفة، أو مجرد غطاء بسيط. هذه الطريقة الفريدة والمميّزة نابعة من حرص صحي سليم يحمي الطفل من عناء الحمل والاحتكاك وكثرة الملابس، فيبقى هادئاً مرتاحاً في سريره. يبقى أن إبقاء الطفل ممدداً على ظهره لمدة قد لا تقل عن السنتين ورأسه على مخدة قد جعله يتميّز بتكوين عظمي خاص للرأس، حيث يتسطح القذال أو العظم الخلفي للجمجمة ويصبح مستطيل الشكل من الاستلقاء الطويل وهو في طور النمو. وبكل تأكيد لا يعود الأمر إلى حالة وراثية في تشكل رأس حافظ الأسد بل إلى طريقة تربية الأطفال في جبال الساحل السوري تلك الأيام، وحافظ الأسد ولد في السادس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1930.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى