أرشيف المجلة الشهرية

الشهيد العقيد يوسف الجادر… هنيئاً لك النصر

شكّل واحة أمل لكل أحرار الثورة السورية، وعلى أكثر من صعيد

د. خولة حسن الحديد – العربي القديم

أبو فرات.. الاسم المعروف للشهيد “يوسف الجادر”، الشهيد الرمز، الشهيد الذي بكته أعين السوريين الأحرار حين استشهاده، عقب تحرير مدرسة المشاة في حلب مباشرة، وبقيت كلماته الأخيرة التي قالها قبل استشهاده بدقائق، تدق في رؤوس الوطنيين الأحرار من أبناء سوريا الجريحة، التي فقدت خيرة رجالها، ونسائها، والكثير من أطفالها بإجرام متعدد الأوجه لنظام الأسد البائد.

من هو أبو فرات؟

هو يوسف الجادر “أبو أحمد”، المولود في مدينة جرابلس عام 1970، ينتمي إلى عشيرة الجوادرة العربية المعروفة من قبل أهالي المنطقة، وذات الامتداد العربي في دول الجوار، ودرس في إحدى المدارس المحليّة بالمدينة، وتخرج من ثانوية أحمد سليم ملا، ثم التحق بمعهد إعداد المدرسين في مدينة حلب، ليترك المعهد بعد عام، ويلتحق بالكلية الحربية في حمص في الأوّل من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1990، والتي تخرّج منها برتبة ملازم أول عام 1993، وتدرّج في الرتب العسكرية حتى رتبة مقدم، حين أعلن انشقاقه عن نظام الأسد، عندما كان قائد كتيبة المدرعات في اللاذقية.

انشقاق أبي فرات عن جيش نظام الأسد

يقول أبو فرات في أحد الفيديوهات المنشورة، عقب انشقاقه عن جيش نظام الأسد، وانضمامه إلى الجيش الحر، بتاريخ 15/7/2012: (نحن الضباط لم يترك لنا الأسد خيار، أما تقتل شعبك، يا أما تدافع عن شعبك، وتقتل من يقتل شعبك، ولم يترك لنا خيار ثالث، ولو ترك لنا خيار أن نقدم استقالة ونذهب للجلوس في البيت كنا فهمنا، لكن لم يترك لنا خيار، أنا قائد كتيبة دبابات، كلفني بمهمة قصف الحفة، أي أما أن أقتل الناس أو أهرب، وإن ذهبت سأُقتل، لذلك اخترت أن أصف مع هذا الشعب وأساعد الناس).

رفض يوسف الجادر تنفيذ المهمة التي أوكلت إليه بقصف مدينة الحفة، وتواصل مع عناصر من الجيش الحر في الحفة، ونسق معهم خطوات انشقاق، وانتقل إلى مناطق سيطرة الثوار، ولم يذهب إلى بيته ومسقط رأسه، بل انضم فوراً للثوار، وبقي في مدينة الباب، ولم يغادرها إلا بعد تحريرها، فالتحق بلواء التوحيد، وأصبح  قائد أركان اللواء، وأحد أهم ضباطه، وله الكثير من الإنجازات، أبرزها تحرير حي صلاح الدين في حلب، ومدرسة المشاة.

لماذا أحب السوريون أبا فرات؟

لا شك أن كل إنسان فقده أحرار سوريا، كان مهماً، وترك جرحاً غائراً لا يندمل أبداً لدى أهله، ومحبيه ومحيطه وبيئته، ولكن كان لفقدان “أبو فرات” معانٍ ودلالات كثيرة؛ لأن الرجل -رحمه الله وأحسن مثواه- شكّل واحة أمل لكل أحرار الثورة السورية، وعلى أكثر من صعيد، فعدا عن كونه ضابطاً متمرّساً، ويمتلك من الخبرات الميدانية، ما كانت تحتاجه الثورة في حينه، فهو ابن البلد الأصيل الذي كان الجميع يبحثون عنه بالسراج والفتيلة، بخطابه الوطني الجامع، وبنبذه الطائفية، وبشجاعته المنقطعة النظير، وقربه من الناس بمختلف أطيافهم من أبناء سوريا على تعدد مللهم وطوائفهم وأعراقهم، وينطبق عليه حرفياً القول الشعبي: “ابن ناس.. ابن بلد”، وقد أثبت ذلك مراراً.

توجّه أبو فرات مرات متعددة بخطاباته إلى بشار الأسد، يرجوه أن يترك كرسي الحكم، ويحقن دماء أبناء سوريا، وتوجّه إلى الثوار بخطاب وطني عام، لا يفرق بين سوري وآخر من مختلف الانتماءات العرقية والدينية والطائفية، وتوجّه برسائل عدة إلى أبناء الطائفة العلوية، قولاً وسلوكاً،  يحثهم على التخلي عن نظام الأسد، ويطمئنهم بأن الثورة للجميع، ومنها قوله:  (إن من يقتلنا ويقتلكم عدو واحد، غرر بكم فصدقتموه، إن هذا الطاغية يحتمي بكم، أنتم أهلنا وهذه البلد لنا ولكم، فلا تتركوا مجال لهذا الطاغية أن يفرقنا)، وأما عن سلوك أبي فرات الذي جسّد به كل خطابه الوطني، فقد تمثّل خلال حصار مدرسة المشاة، والذي طال أمده برأي الثوار، وأطاله أبو فرات عن قصد، كي يتيح كل فرصة ممكنة لانشقاق المحاصرين داخل المدرسة، وكان يوجه رسائل لذويهم لدفع أبنائهم للانشقاق ويقول: (إن أولادكم يدفنون دون أن يُصلى عليهم، ادفعوا أولادكم إلى الانشقاق، وسيبقون آمنين سالمين)، ويقول لعامة الناس:

(نستطيع أن نهجم عليهم بكل سهولة، ولكننا لا نهجم لنستطيع تأمين أكبر عدد ممكن من المنشقين، وكل واحد يطلع من مدرسة المشاة: عليه الأمان.. عليه الأمان.. عليه الأمان… نحن فينا نقتحم  اليوم قبل بكرا، لكن والله مشان ما نسبب إراقة الدماء، وهدول بعرف ولادنا وأخواتنا).

بعد اقتحام مدرسة المشاة، وفي اليوم الأول، تم أسر ٤٠ جندياً، وتحرير رحبة الآليات العسكرية في الجبهة الجنوبية، وهنا يظهر أبو فرات بسلوكه الأخلاقي والإنساني، والوطني، وهو يُطمئن الأسرى، وخاصة من العلويين، ويأتي لهم بالطعام والشراب والملابس الدافئة، ويستوصي بهم الشباب خيراً، وتكفّل بنفسه بمهمة نقلهم، وصعودهم للباصات كي لا يتأذى أي منهم، أو يتعرض للإهانة.

كان سلوك أبي فرات، كإنسان وكسوري، وكضابط ورجل عسكري، لا مثيل له بالانضباط والإنسانية والأخلاق، في وقت كان نظام الأسد وعساكره وميليشياته، يُمارسون أبشع صور وأشكال الإهانة، والقتل والتدمير على الثوار، وبيئاتهم وأهاليهم.

الشهادة وتحرير مدرسة المشاة

بعد ثلاثة أسابيع من الحصار، اقتحم الثوار مدرسة المشاة، بقيادة يوسف الجادر “أبو فرات”، وخلال يومين من القتال، تم أسر حوالي 100 جندي، وقتل ما يقارب 70 جندياً من عناصر جيش الأسد، ممن رفضوا إلقاء السلاح أو الانشقاق، وتمت السيطرة على الآليات العسكرية، وتحرير 25 معتقلاً مدنياً من داخل المدرسة.

بعد تمشيط المدرسة، توجّه الثوار إلى تحرير معسكر التدريب الجامعي، والذي يقع خلفها، وأثناء ذلك استهدفته مدرعة  بقصف متواصل، فاستشهد أبو فرات مع عدد من رفاقه، فبكته الملايين من عيون السوريين، والذين وجدوا فيه قدوة، وطاقة من الأمل والمحبة للوطن، وكانت آخر كلمات قالها أبو فرات، عقب تحرير المدرسة، وفي مشهد يبدو فيه وهو يُغالب التعب والإرهاق والحزن، يقول عندما وجّه إليه سؤال: ما هو شعورك بعد تحرير المدرسة؟

(والله العظيم مزعوج؛ لأنه هذه الدبابات دباباتنا، وهذا العتاد عتادنا، وهي العناصر أخوتنا، والله كل ما أشوف إنسان مقتول مننا ولا منهم، بزعل قسما بالله …قسماً بالله).

مدرسة يوسف الجادر… وقبره

رحل أبو فرات، تاركاً لنا جميعاً إرثاً هائلاً من الأخلاق، والشجاعة والوطنية، ومدرسة حقيقية ينهل منها أبناء هذا الوطن المكلوم القيم الإنسانية النبيلة، والوطنية الحقّة، قولاً وفعلاً، وقد سمى الثوار مدرسة المشاة باسمه، وأصبحت “كلية الشهيد العقيد يوسف الجادر..أبو فرات”، بعد أن رقّاه لواء التوحيد إلى رتبة عقيد.

دُفن أبو فرات في مسقط رأسه، في مدينة جرابلس، وعندما دخل تنظيم داعش المدينة، وفي خدمة واضحة لنظام الأسد، ولإهانة الثورة وثوارها، قام عناصر من التنظيم بتخريب شاهدة القبر، والعبث به، ولاحقوا أفراد عائلته، من أولاد عمومته، وأخوته وأقاربه، وحتى أولاده الذين كانوا ما زالوا أطفالاً، وقد روى لي شخصياً مع مجموعة أصدقاء، ابنه البكر “أحمد”، حين التقيناه في مدينة عينتاب التركية، كيف تهجّم عناصر التنظيم على بيت العائلة، وكيف هرب أحمد تحت وابل من الرصاص إلى الحدود التركية.

ترك أبو فرات عائلته الصغيرة المؤلّفة من زوجته وأربعة أولاد، ثلاثة شباب وفتاة واحدة، وعدد من الأشقاء والشقيقات، وأصبح ببطولاته واستشهاده، ابن كل عائلة سورية، وشهيداً وفقيد كل سوري حر…. فطوبى لك أبا فرات، ورحمة واسعة وغفران، واليوم سوريا انتصرت بدماء أبنائها البرّرة من أمثالك، وهذا النصر لكم، وقد وهبتم لسوريا الحياة بتلك الدماء الزكية، وستبقى نبراساً لنا جميعاً، وقد هُزم الأسد يا أبا فرات، كما توعدّته يوماً:

(والله، إنك لمهزوم والنصر حليفنا)، فلترقد بسلام وهنيئاً لك الشهادة، وتحرير سوريا أيها البطل.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى