العربي الآن

برد السوريين: كان يحفر في الأجساد كما حفرت الحرب في الجدران

شتاء ما قبل الثامن من ديسمبر 2024 ليس كشتاء ما بعده

براء الجمعة – العربي القديم

البرد السوري ليس مجرد حالة طقس، بل مرآة للألم الذي اخترق تفاصيل الحياة، وصورة من صور المعاناة التي استوطنت كل زاوية وكل نفس عبر سنوات طويلة من الاستبداد والقهر. إنه بردٌ ليس في الجو وحده، بل بردٌ تسلل إلى الأرواح، وجمّد الأحلام، وخيّم على الأجساد المتعبة التي أرغمت على مواجهة فصول قاسية من الحرمان والخذلان.

على مدار أعوام، لم يكن الشتاء مجرد فصل يمر، بل امتحاناً آخر للصبر والاحتمال. بردٌ ينهش أوصال الأطفال الذين تحلّقوا حول مدافئ لا تمنح الدفء حتى لنفسها، تحولت إلى بقايا صفيح تحرق ما تيسر من أوراق الخريف أو بعض الحطب المسروق من ذكريات البيوت المهجورة. في كل خيمة قصة لصراع من أجل البقاء، وفي كل خفقة قلب، رجاء لدفء لن يأتي.

كان البرد يحفر في الأجساد كما حفرت الحرب في الجدران، يلامس الوجوه الشاحبة، ويترك على الوجنات آثار ندوبٍ لا تذوب كما يذوب الثلج. ولكن رغم كل شيء، لم يفقد السوريون شعلة الأمل. كانوا يعرفون أن كل برد، مهما طال لا يدوم.

لقد عايش السوريون ألواناً من القهر لم تتوقف عند غياب الوقود أو ندرة الخبز، بل امتدت لتسرق الكرامة والسكينة. كان صوت الرياح في المخيمات أكثر قسوة من أصوات المدافع، وكان الصقيع الذي يجمد الأطراف أهون من ذلك الذي جمّد العدالة في قلوب المتفرجين.

غير أن التاريخ يعلمنا أن الفصول تتغير، وأن قسوة الشتاء لا يمكن أن تستمر للأبد. هكذا مع نهاية عام 2024، تغير المشهد. زال الطاغية، كما يذوب جليد الظلم تحت شمس الحقيقة. انهار جبروته الهش مع صرخات شعب عظيم، وبدأت الأرض تنبض من جديد.

لكن السوريين يعلمون أن زوال الطاغية لم يكن إلا نهاية لفصل واحد من الحكاية. بقيت فصول أخرى بانتظار أن تُكتب. بقي أن يرسموا بأيديهم فصول الفرح، فصول إعادة البناء ورسم الحياة، فصول الكرامة التي لا تُهان. ليس سهلاً أن يخرج شعب من تحت أنقاض سنوات من البرد والقهر، لكن الشعوب العظيمة تولد من رحم الألم.

شتاء ما قبل الثامن من ديسمبر 2024 ليس كشتاء ما بعده، لم تكن الرياح التي صفرت في الخيام كالمعتاد. كان هناك دفء مختلف، دفء جاء من أصوات التكبير والنصر والحرية، ومن دموع امتزجت بالمطر وهي تنطق بالحمد. لقد انتهى الفصل الأصعب.

ومع كل ذلك، فإن البرد الحقيقي الذي عاناه السوريون لم يكن برد الشتاء، بل برد الظلم. لقد عرفوا برد التشريد، حين فُقدت البيوت وأصبحت الأرض فراشاً والسماء غطاءً. وعرفوا برد القهر، حين أُغلقت أبواب العالم في وجوههم بينما كانت أبواب المعتقلات تُفتح لمزيد من الأبرياء.

لكن العظمة في فصول هذه القصة، أن السوريين لم يستسلموا يوماً. قاوموا البرد بقلوب ملتهبة، وقاوموا الظلم بيقين أن العدالة مهما تأخرت ستشرق يوماً. واليوم بدأت الشمس بالسطوع. بدأ الأطفال الذين ناموا يوماً تحت البطانيات الممزقة، يركضون في الساحات، يبنون ويصرخون ويرسمون وطناً بلا خوف.

أصبح برد السنوات الطويلة ذكرى تُروى للأجيال الجديدة، درساً في الصبر والكرامة. لقد دفن السوريون أعوام القهر تحت أنقاض الطاغية، وها هم يرفعون راية الفرح ببطء، كما يزهر الربيع بعد شتاء قاسٍ.

نعم، البرد كان قاسياً لكنه لم ينتصر. لم ينطفئ جمر الأمل، ولم يدُمْ جليد الاستبداد. واليوم بقي أن يُرسم الفرح بألوان الحرية والعدالة. فالسوريون الذين عايشوا وتحدوا أبشع أنواع القهر، يستحقون أن يكتبوا بأنفسهم فصول الكرامة القادمة.

فهذا وطنٌ، وهذا طينٌ، والبرد ثالثهم.. أما رابعهم، فهو دفءٌ أشرق كشمسٍ عصيّة على الغروب، دفءٌ لن تخبو فصوله بعد اليوم، ولن يعرف الظلام سبيلاً إلى هذا التراب من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى