رواية (أوراق برلين) لنهاد سيريس: حلب وبرلين بين المكان المجازي والمكان الموضوعي
العربي القديم – أحمد صلال
مقدمة
رواية (أوراق برلين)، للسيناريست والروائي السوري نهاد سيريس تتناول قضية الحرب في سوريا بكل أساها، ومعاناة أصحابها. تجري أحداث الرواية بين حلب وبرلين، ويجسدها شخص لا يحمل اسماً، وهذا ربما تجسيد للألم والنسيان الذي اعترى أبناء سورية. ستركز هذه الدراسة المقتضبة على الجانب الأسلوبي في الرواية المتعلّق بأسلوب الكاتب، ولغته واختياراتها، وذلك في حدود الرواية واختيار أجزاء منها لعرضها، ونقدها وتحليلها.
من نتائج الدراسة أن الخطاب الروائي في الرواية خطاب موجه وواعٍ ومبتكر، وأن ثمة تداخلاً في صياغة الأزمنة بين حلب وبرلين بعضها ببعض، طوال فصول الرواية، ما جعل القارئ منتجاً لها بإعادة تنظيمها في تصوره. وتزامنت الوقائع بشكل يفارق بين زمن السرد، والزمن الذي وقع فيه الحدث. وكان التوازي بتجزئة المادة الحكائية إلى أكثر من محور، بحيث تعاصر زمانياً في وقوعها، كذلك تنوع المنظور المكاني، ما بين المكان المجازي (برلين)، والمكان الموضوعي (حلب)، والمكان المفترض، والمكان ذي التجربة المعاشة. وكان للكاتب لغة خاصة به، تميز فيها على غيره، وظواهر أسلوبية اعتمدها في هذه الرواية.
الحدث الروائي
يدور الخطاب في الرواية حول قضية “اللجوء السوري”، وهي قضية شغلت حيزاً، ومساحة لا يستهان بها من الأعمال الأدبية والفنية والدرامية في سوريا، وهي باختصار رحلة في المجهول، حتى الوصول للوطن البديل. بطل الرواية الذي لا يحمل اسماً يبقى محاطاً بالكتمان والسرية. إنه الكاتب الحلبي الذي لا يبدو أنه ينقصه شيء عيشة (مويان كلاس) هناك وعوالمه (هيلدا) و(كريستا) حبيبته و(كاتيا)، وأختها وآخرون تدور بينهم أحداث، وتنشأ علاقات تشبه تدفق الماء من تحت الأرض.
العنوان الدال
عتبة النص، وفاتحته نحو الدلالات والتخييل، وهو العلامة اللسانية الأولى التي يقاربها القارئ على غلاف الكتاب، وأسس اختيار العنوان صريحة وواضحة، فيما يعنى في مجال القصة، أو الرواية، أو المسرح، فلا بد للعنوان من دلالة تدل على موضوع العمل المكتوب.
وفي الرواية المختارة جاء العنوان دالاً يبحث عن مدلول، ومفتوحاً يملؤه القارئ بما يريد. بناءً على هذا العنوان، وعلى المعطيات والدلائل الموجودة في العمل المكتوب يأخذنا الروائي إلى مدينة دمرتها الحرب العالمية الثانية، ليكشف أوراقها، فهو يفتح للقارئ المجال للتوقع والتنبؤ، وهو بذلك يشارك القارئ في إنتاج النص، فالدلالة المفتوحة للعنوان تمكّن القارئ من فهم كل الاحتمالات.
صوت السارد
السرد لغة هو تقدمة شيء إلى شيء، حيث يأتي به متسقاً بعضه في إثر بعض متتابعاً، وسرد الحديث يسرده سرداً، وفلان يسرد الحديث، إذا كان جيد السياق له. واصطلاحاً هو خطاب يعيد تقديم حدث، أو أكثر، وينبغي تمييزه عن الوصف والتعليق، فيما يتعلق بإنتاج النص السردي هو إعادة قول سلسلة من الأوضاع والأحداث.
يظهر صوت البطل في رواية (أوراق برلين) سارداً لأحداثها، مع وجود الحوارات مع الشخصيات، إلا أن صوت البطل السارد هو الطاغي، وهو هنا يتحرر من الروايات التقليدية أو الكلاسيكية؛ حيث يكون الراوي العليم، وهو الراوي الذي يعلم أكثر من الشخصية الروائية، أو الذي يبدو كأنه على علم سابق بالأحداث، أو ما يطلق عليه (الرؤية من الخلف) فبطل الرواية هنا لديه علم مسبق بالأحداث، فهو بطبيعة الحال قد عاشها، وتعرض لها شخصياً، إلا أنه التزم الحياد تجاه الشخصيات الأخرى، ولم يظهر تعاطفاً مع أحدها، ولا نراه يتدخل بالتعليق الخارجي، لتأييد موقف، أو إدانته، وهذه التقنية مستخدمة في الروايات المعاصرة التي خرجت، وتمردت على النمط الكلاسيكي الذي لا يفصل بين صوت المؤلف الحقيقي، وصوت الراوي. فهنا تتطابق معرفة السارد، مع معرفة شخصية من الشخصيات (البطل غالباً)، ولذا لا يمكنه أن يقدم أي تفسير للأحداث، قبل أن تتوصل إليه الشخصية، ويكون تقديم السرد بضمير المتكلم، أو ضمير الغائب، وهو ما يطلق عليه في النقد الروائي بـ (الرؤية المحايثة)، وهو أن يكون صوت السارد مساوياً للشخصية.
ويمكن أن نسمي السارد هنا بالسارد الصريح، وهو الذي نسمع صوته صريحاً وواضحاً في السرد، مع إمكانية تحديد صاحب الصوت ومكانه، غالباً ما يكون في النصوص الدرامية.
الزمن في الرواية
يُعدّ الزمن عنصراً أساسياً من عناصر الرواية، وهو يؤثر بشكل واضح في العناصر الروائية الأخرى، ذلك لأنه يتخلل السرد الروائي كله، وهناك أربعة نظم مختلفة في بناء الزمن في رواية (أوراق برلين) هي:
أ-التتابع: ويعد من أبسط أشكال النثر الحكائي التخييلي، ويخضع لمنطق السببية؛ حيث يكون السابق سبباً للاحق، ويكون اللاحق سبباً لما قبله.
ب-التداخل: وتكون فيه الصياغة على نحو تتناثر مكونات الزمن في المتن، ثم يقوم المتلقي بإعادة تنظيمها، وقد تتزامن فيه الوقائع، ما يؤدي إلى بروز خاصية المفارقة بين الأزمنة، وما بين السرد والحدث.
ج-التوازي: وهو نظام جديد في الرواية العربية، وتتجزأ فيه المادة الحكائية إلى أكثر من محور، بحيث تتعارض زمانياً في وقوعها.
د-التكرار: نمرر الحدث أكثر من مرة، تبعاً لعدد الشخصيات المشاركة بالمادة الحكائية، وهذه الطريقة تؤدي إلى ضمور حركة الزمان في الحركة اللاحقة.
المكان في الرواية
المكان هو بدوره الآخر عنصر هام من عناصر الرواية، يعطي القارئ إيهاماً بالواقع الحقيقي، وتتجسد فيه الأفكار والمشاعر في صورة حسية ملموسة، وهناك فرق بين المكان الطبيعي، أو الجغرافي، أو البيئي، وبين المكان الروائي الصورة المتخيلة، فالكاتب نهاد سيريس يصف الصورة المتخيلة في ذهنه عن كل من برلين وحلب، والحرب بين هنا الآن وهناك الآن، تشكيل صورة المكان لمسات من الميلودراما تظهر تجاعيد الفن.
لغة الكاتب وأسلوبه
الملاحظ في الرواية أن المؤلف صنع لنفسه نمطاً كتابياً خاصاً جديداً، وغير مألوف، قد يصطدم أحياناً مع قواعد وتقاليد البلاغة، وقد يثير هذا الأسلوب المحافظين من اللغويين، ولكنه حق مشروع للكاتب أن يؤسس مشروعه، مثلما يريد. هذا نجده بالعمل بحدود المعقول والمقبول، وهذا خرق واعٍ.