ما بين الافتخار والإنكار: تضخيم الانتصارات في المجتمعات المنكوبة
براء الجمعة * – العربي القديم
في المجتمعات التي تشهد أوضاع شاقة وظروف صعبة ومعاناة مستمرة، نلاحظ ظاهرة ملفتة تتمثل في تضخيم الانتصارات حتى لو كانت النتائج والخسائر فادحة، يلجأ الناس إلى الاحتفاء بالإنجازات والانتصارات مهما كانت صغيرة أم كبيرة كوسيلة للتعامل مع الألم والمعاناة، الاحتفاء والتضخيم هذا يعتبر وسيلةً لتهدئة الألم الجمعي وتغذية الأمل الجماعي. ولكن هل هذا التضخيم هو حقاً سبيل للشفاء، أم أنه مجرد آلية دفاعية تعيق عملية التعافي؟
النظرة النفسية: آلية دفاع جماعية
من منظور نفسي، يمكن تفسير تضخيم الانتصارات كآلية دفاعية جماعية ضد الصدمة والإحباط المتواصل. في سياق الدمار والقتل اليومي، تجد المجتمعات نفسها بحاجة إلى ما يرمز إلى الانتصار والقدرة على البقاء. لذلك يتم تضخيم أي حدث يمكن أن يُرى كإنجاز، حتى لو كانت التكلفة فادحة. يتم الاحتفاء بإنقاذ حياة كما لو كان نصراً على مستوى معركة، أو يتم التعاطي مع صمود مدينة منكوبة تحت القصف كأنها حققت إنجازاً كبيراً رغم ما تكبده سكانها من خسائر مادية ومعنوية.
هذا التضخيم ليس مجرد مبالغة بل هو محاولة لإعادة تعريف الهوية الجماعية في لحظات الفقدان والانكسار. من خلاله تستطيع المجتمعات خلق سرديات بديلة تعطي للألم معنى وقيمة. لكن الخطر يكمن في أن هذا التركيز على الرمزية والمكاسب، قد يُفقد المجتمعات القدرة على التعامل مع الواقع الكلي، وبالتالي يؤدي إلى انغماس في مشاعر مؤقتة “نشوة المجد”، مع تهميش للجرح الأعمق “اوجاع الواقع”.
التضخيم كأداة لبقاء المعنويات: الحاجة إلى الأمل
الأمل هو ما يمنح الناس القوة للاستمرار في مواجهة القسوة المتواصلة، ولذا يصبح تضخيم الانتصارات ضرورة وحاجة نفسية للحفاظ على معنويات المجتمع. فبالنسبة لشعب يعيش المعاناة منذ عقود، بات الصمود ذاته نوعاً من الانتصار. كذلك يصبح كل فعل وكل لحظة من لحظات النجاة أو التحدي لديه انتصاراً يُحتفى به بشكل جماعي.
ومع ذلك فإن هذه العملية النفسية قد تقود إلى مشكلات نفسية متأزمة، إذ تؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ “الانفصال أو العمى النفسي” عن الواقع؛ حيث تصبح المجتمعات غير قادرة على مواجهة حجم الكارثة التي تعيشها، يتداخل الأمل مع الإنكار، فتتجاهل المجتمعات الضرر الحقيقي الذي يلحق بها على المستويين الإنساني والمكاني، وبالتالي إن هذا التضخيم المستمر قد يؤدي إلى تفاقم المعاناة النفسية، ويحول دون معالجة صحية وملائمة للواقع.
الأثر النفسي المجتمعي: تعزيز صدمة غير معالجة
من منظور علم النفس المجتمعي، تكمن الخطورة في تضخيم الانتصارات على حساب الفاتورة الباهظة للمعاناة ويعزز صدمة غير معالجة، ويعيد إنتاجها على مستوى الأجيال. فعندما يتم تهميش حجم المعاناة الحقيقية والتركيز على الانتصارات الرمزية والتضخيم الهائل لها، يصبح المجتمع عالقاً في دورة مستمرة من الإنكار والتيه العاطفي. تتكرر الصدمة والخيبة ولكن دون معالجة أو مواجهة حقيقية.
هذا الإغراق في سردية الانتصار رغم الكوارث يساهم في ترسيخ ثقافة “العيش مع الألم”، حيث يصبح الألم جزءاً من الهوية الجماعية، وليس شيئاً يسعى المجتمع للتعافي منه. هذا النمط يُعزز من فكرة أن التضحية والمعاناة أمران لا بد منهما لتحقيق الغايات الكبرى، ما يؤدي إلى مزيد من النزيف النفسي والاجتماعي.
الواقع : بين الصمود والكارثة
في مناطق الأوضاع الصعبة والمعاناة المستمرة، المجتمع يعاني من تشظٍ على مختلف المستويات، تصبح أي لحظة نجاة أو حياة بمثابة انتصار يجب الاحتفال به. وبينما يُعد ذلك ضرورياً من الناحية النفسية لضمان عدم الاستسلام الكامل للمعاناة والحفاظ على الأمل والمعنويات، إلا أن الفاتورة الإنسانية والمادية تكون ليست بالقليلة.
هذا التضخيم للانتصارات، وإن كان يخدم غرضاً نفسياً ، إلا أنه قد يؤدي إلى تأخير عملية التعافي ويؤثر سلباً على الصحة النفسية للأجيال القادمة. ففي حين أن الصمود في المجتمعات المنكوبة هو قيمة عليا، إلا أن التركيز المفرط عليه قد يَحول دون معالجة الجراح العميقة ويؤدي إلى استمرار الدوامة المؤلمة للمعاناة.
الموازنة بين الأمل والواقع: ضرورة التوعية النفسية
على الرغم من أهمية تعزيز الأمل والصمود في هذه المجتمعات، هناك حاجة ملحة لتبني منظور نفسي أكثر توازناً. يجب أن يكون هناك توعية مجتمعية حول كيفية التعامل مع مشاعر الفخر والانتصاربواقعية دون تجاهل حجم الألم والدمار الحاصل.
تعبير المجتمعات عن فخرها بالنجاحات أمر مهم، ولكن في نفس الوقت عليها ألا تغفل عن الاعتراف بالجراح العميقة والعمل على معالجتها. فهذا لا يعني تقويض الأمل، بل تحويله إلى أمل بناءٍ يستند إلى رؤية واقعية لما يمكن إصلاحه، بدلاً من الضياع في سرديات مضخمة وغير مستدامة.
نحو تعافٍ نفسي حقيقي
لا شك أن الصمود والانتصارات تمنح المجتمعات دفعات مؤقتة من القوة والعزيمة، لكنها ليست حلاً كافياً للتعامل مع حجم الصدمات والمعاناة والخيبات على المدى البعيد، هناك حاجة ماسة لتعزيز الجهود النفسية المجتمعية التي تساعد الأفراد والمجتمعات على التوازن بين الأمل والواقع. معالجة الصدمات والخيبات بشكل فعّال وخلق مساحة للتعافي الحقيقي، وبناء مؤسسات قوية، وتعزيز دور المجتمع المدني، ومن خلال الجهود المتكاملة يكون السبيل لضمان أن تكون هذه الانتصارات ليست مجرد لحظات عابرة، بل خطوات نحو مستقبل أكثر استقراراً وشفاءً.
______________________________________________
*مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي