الأدبُ الأفريقيُّ بين الإِرثِ الثّقافيّ والتَّحديَّات الحديثةِ
هاشم محمود حسن – العربي القديم
يُمثِّلُ الأدبُ الأفريقيُّ واحدًا من أهمِّ المرايا الثقافية، التي تعكسُ التجرِبةَ الإنسانيةَ في القارَّةِ السّمراء، هو أدبٌ مُتجذِّرٌ في تقاليدَ شفويَّةٍ غنيَّةٍ، لكنَّه في الوقتِ نفسِه يتطوَّرُ ليعكسَ التحدِّياتِ الاجتماعيَّةَ، والسياسيَّةَ، والاقتصاديَّةَ التي تُواجهُها القارَّة. منَ الشِّعرِ والأساطيرِ، إلى الروايةِ والدراما، تطوَّرَ الأدبُ الأفريقيُّ ليصبحَ مساحةً للهُويَّةِ والمقاومةِ والابتكارِ.
لطالما كانتِ التقاليدُ الشفويَّةُ حجرَ الزاويةِ في الأدبِ الأفريقيِّ؛ حيثُ ارتبطتِ الحكاياتُ الشعبيَّةُ والأساطيرُ بالأغاني والأمثالِ في محاولةٍ لتوثيقِ التاريخِ ونقلِ الحِكمةِ من جيلٍ إلى آخرَ، هذه التقاليدُ التي تُعبِّرُ عن رؤيةِ المجتمعاتِ الأفريقيَّةِ للعالَم، تُعتبرُ القاعدةَ التي بُني عليها الأدبُ المكتوبُ، إلا أنَّ التحوُّلَ إلى الأدبِ المكتوبِ في القرنِ العشرينِ، خاصَّةً في ظلِّ الاستعمارِ وما بعده، كان محاولةً لإعادةِ سردِ هذه التقاليدِ بطريقةٍ تتحدَّى السرديَّاتِ الأوروبيَّةَ المفروضةَ، وتعيدُ تشكيلَ الهويَّةِ الأفريقيَّةِ الممزَّقةِ.
خلالَ الحقبةِ الاستعماريَّةِ، كان الأدبُ أداةً للمقاومةِ، استخدمَ الأدباءُ كلماتِهم لفضحِ الاستغلالِ الاستعماريِّ، وتأثيرِه المُدمِّرِ على المجتمعاتِ الأفريقيَّةِ، رواياتٌ مثل “أشياءُ تتداعى” لـ غينوا أتشيبي، تُعدُّ مثالًا بارزًا، حيثُ تُظهرُ كيف تسبَّبَ الاستعمارُ في تدميرِ البُنى الاجتماعيَّةِ التقليديَّةِ.
تشينوا أتشيبي.. من مؤسسي الرواية الأفريقية
أما بعدَ الاستقلالِ فقد تحوَّلَ الأدبُ الأفريقيُّ إلى معالجةِ قضايا الهويَّةِ الوطنيَّةِ، والصراعِ العِرقيِّ، والنِّضالِ من أجلِ العدالةِ الاجتماعيَّةِ، فقد استلهمَ الأدباءُ من سياقاتٍ محلِّيَّةٍ غنيَّةٍ؛ مثلَ الصراعاتِ السياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ، ليصوغوا أعمالًا تُوازنُ بين الماضي والحاضرِ.
إحدى القضايا المثيرةِ للجدلِ في الأدبِ الأفريقيِّ هي قضيَّةُ اللغةِ؛ هل يجبُ أن يُكتَبَ الأدبُ بلغاتٍ أوروبيَّةٍ مثلَ الإنجليزيَّةِ والفرنسيَّةِ، أم بلغاتٍ محلِّيَّةٍ أفريقيَّةٍ؟ بينما يرى بعضُهم أنَّ استخدامَ اللغاتِ الاستعماريَّةِ يسمحُ بوصولِ الأدبِ الأفريقيِّ إلى جمهورٍ أوسعَ عالميًّا، يرى آخرون أنَّ الكتابةَ باللغاتِ المحليَّةِ تُعَدُّ وسيلةً للحفاظِ على الهويَّةِ الثقافيَّةِ وتعزيزِ الإرثِ المحليِّ.
في هذا السياقِ يبرزُ نغوجي واثيونغو كأحدِ أبرزِ دُعاةِ الكتابةِ باللغةِ المحليَّةِ؛ حيثُ أشارَ في كتابِه “تصفيةُ استعمارِ العقل” إلى أنَّ استخدامَ اللغاتِ الاستعماريَّةِ يُرسِّخُ التبعيَّةَ الثقافيَّةَ.
أما بخصوص الأدبِ الأفريقيِّ النّسويّ، فقد أصبحَ جزءًا أساسيًّا منَ الخطابِ الأدبيِّ الحديثِ؛ حيثُ يعكسُ تجارِبَ النساءِ الأفريقيَّاتِ في ظلِّ أنظمةٍ أبويةٍ قمعيَّةٍ، فهناك أديباتٌ، مثل نغوزي أديشي التي كتبتْ “ذاك الشيء حولَ عنقك”، و”أمريكانا”؛ إذ تُسلِّطُ الضوءَ على قضايا مثل التمييزِ الجنسيِّ، والهجرةِ، والهويَّةِ متعدِّدةِ الثقافاتِ.
نغوجي واثيونغو وكتابه الشهير تصفية استعمار العقل
بالرغمِ من تنوُّعِ الأدب الأفريقي وغِناه، إلا أنه يُواجهُ تحدِّيَاتٍ عديدةً، من بينها نقصُ البنيةِ التحتيَّةِ للنشرِ والتوزيعِ في العديدِ من دولِ القارَّةِ، بالإضافةِ إلى هيمنةِ دورِ النشرِ العالميَّةِ التي تُفضِّلُ نصوصًا تتوافقُ مع توقُّعاتِ الجمهورِ الغربيِّ.
علاوةً على ذلك، فإنَّ صعودَ الأدبِ الرقميِّ والكتابِ الإلكترونيِّ يفتحُ آفاقًا جديدةً، لكنَّه يطرحُ أسئلةً حولَ الوصولِ الرقميِّ وعدمِ المساواةِ في توزيعِ التكنولوجيا.
إنّ الأدبَ الأفريقيَّ هو انعكاسٌ عميقٌ لحيويَّةِ القارَّةِ وثقافتِها المتعدِّدةِ الأوجهِ، فهو أدبٌ يجمعُ بين الإرثِ الشفويِّ العريقِ والتعبيراتِ المكتوبةِ الحديثةِ، وبينَ الصراعاتِ الاجتماعيَّةِ والطموحاتِ المستقبليَّةِ، إنَّه أدبٌ يستحقُّ اهتمامًا أكاديميًّا أوسعَ، ليس فقط لدراسةِ موضوعاتِه؛ بل أيضًا لفهمِ كيف يُمكنُ أن يُعيدَ تشكيلَ السرديَّاتِ الأدبيَّةِ العالميَّةِ، مُقدِّمًا رؤيةً فريدةً وغنيَّةً عن الإنسانيَّةِ في عالمِ اليومِ.
_____________________________
*كاتب وروائي أرتيري