مقاربة للاستشفاء من مشاعر الأقلوية في دولة المواطنة والتشاركية
لا يوجد هوية معصومة ومنغلقة في وطن نريده أن يكون للجميع

إيمان أبو عساف – العربي القديم
عندما تقارب مثل هذا الموضوع في سورية، عليك أن تحرص كل الحرص على أن تبلغ ذروة الحياد في الموضوعية، بل عليك أن تعتبر ذلك جهادك الأكبر، لتتنزع عقلك من كل ثقل وتراكم الإرث الثقافي والتربوي والديني.
وقد يكون التطرف في طلب الموضوعية والحياد هنا مطلوبا إلى أقصى الحدود، فكلما اقتربت من الخصوصي والجواني تمتحن تلك الموضوعية الحميدة وذلك الجهاد الأعظم . وهنا فقط وفي تلك المساحة المراقبة بحكمة الموضوعية، نستطيع أن نبني معرفة توصلنا الى تأسيس الديموقراطية، والتخلص من الإقصاء والشعور بالعصمة عن الخطأ. وحين يكون ذلك ممكناً، سنكون بحالة التوجه للتشارك وفي وضع متاح لأقصى حد من أجل انتاج الديموقراطية، وربما يكون هو ذلك السبيل الوحيد لتملكنا سوريا ونملكها كوطن ومواطنين.
والسؤال كيف نبدأ؟
البداية من السعي الممنهج لوضع مؤشرات للتطرف والإقصاء ومؤشرات بالمقابل لوجود حدود للعقل والحكمة. فما هي دلالات التطرف والإقصاء التي تبدو ماثلة في حياتنا؟ وما هي حدود العقل والحكمة لمعالجتها والحد من آثارها الكارثية التي لا يدرك مخاطرها للأسف رجال الحكم اليوم؟
أظن أن سنوات الحدث السوري الذي راكم الخراب والفرقة والخسارات، يستطيع إلى حد كبير وضع خانات تميز بين تطرف منطلق من أيديولوجيا إقصائية تصنف الآخر بين صديق أو عدو أبدي، وبالنتيجة تبدو المحصلة حالة من الانقسام والفوضى، وقبل أن أتناول ذلك في تصنيف الآخر … علي الانطلاق من جبل العرب الذي يحتضن الطائفة الدرزية التي تلتف حول أدلوجة، ولكن هذه “الأدلوجة” رغم اختيارها اللاانحياز ضمنا ثقافيا ودينيا ألا انها لم تستطع ألا تنحاز. لقد تغلب الواقع على الأدلوجة وبدأت عملية التفاعل مع الثورة أو الحدث السوري، وكان التفاعل أو الانخراط مرتبك ومتعثر مرات كثيرة ومنسجم بعض المرات.
وهذا يشير إلى أن أي مجتمع قد يكون متطرف في بعض الأحيان وأحايين أخرى، ينفصل عن الذاتية التي تفرضها العقيدة وتندغم مع مصلحة عامة، وليس هناك مصلحة عامة أكثر قيمة إطلاقا من مصلحة الوطن .ولكن قضية الوطن متعثرة وكان يعرقلها نظام عقائدي متطرف وطائفي يمارس المكر والتضليل والتقسيم والفوضى، وبهذا هو متطرف وإرهابي وصلب في محاربة الشعب وتصنيفه بشكل مطلق بين معارض وموال… وكان ذلك واضحا أمام الدروز عموما وعلى الخصوص طبقة المتعلمين والمثقفين خصوصا، وهو يركن إلى خصوصية لغوية وزمكانية وعقيدة المجتمع الدرزي، والتي تطرفت فقط في عملية انغلاق المجتمع الدرزي على نفسه.
ومثل كل المجتمع السوري تحيا الطائفة في الثقافة العامة وهي متخمة بالتضليل التاريخي، والذي بدوره أدى التشتت والانقسام في تناول ومقاربة الحدث العام. وكلما اقترب الدروز من عملية الاندغام – إن صح التعبير- تأخذهم مخافة وجودية متعلقة بعملية الانغلاق لمصلحة الاستمرار، وما كان من ذلك التوجس هو فرض حالة من الارتباك والتشويش، وإعادة إنتاج انقسامات وصراعات عائلية وجهوية وغير ذلك.
وحتى هذه اللحظة يمكن أن نجد الانقسام في مقاربة أي حدث…. وعندما نريد الاقتراب من لحظة المفارقة ينتابنا نوع من خشية تسلل النزعات الموغلة الى أساليب وأدوات تفكيرنا. وتكمن القدرة هنا في اقتحام مجاهيل ومعالم حالة الحذر المنحدرة من منبع عام خص كل العرب عبر مسارهم التاريخي والاجتماعي، ومنبع خاص تأثر به الدروز كونهم أقلية انعزلت عن الأكثرية بعقيدة، عانوا بسببها كثير من المظلومية لكنه بقوا بعيدين إلى حد كبير من عقدة الاضطهاد والندب واللطم…. وهذا الأمر أتاح للدروز عملية تحرير كبير للعقل، فكانوا على العموم بحالة انتماء لثقافة وهوية مركبة؛ إذ لا يوجد هوية معصومة ومنغلقة في وطن نريده أن يكون للجميع، وعليه كانت الرسالة واضحة من خلال بيان الشيخ الهجري المؤيد مطلقا لعملية رد العدوان مؤمنا أنها عملية تفاعل وتشكيل حقيقي للهوية السورية وهي تخرج من تحت نير استبداد طويل شكل إرثاً… وأراد أن يقول دعونا لا نقدس اي شيء … وبكل شجاعة لنتقارب فالماضي ليس مقدس بل قد يكون ملهم احيانا وقد يكون عبءً ، لكن الحاضر هو أن نتناول قضية الوطن عبر العقل والوعي …
وبعد ذلك تأتي أصوات متشككة ومتخوفة، وأثق ان تلك المخاوف مبررة ومشروعة، فالذاكرة القريبة جدا تختزن كل صور الإقصاء والإلغاء والإرهاب، وتريد ضمانات وطنية يكفلها قانون عام يحقق المساواة. ضمانات تؤمن بالهوية المركبة والهوية المتفاوتة والمفتوحة دائما على التلقي ،وعندها فقط لا مليشيات عابرة، ولا أسماء غير معرفة ولقيطة بمعاني الأخلاق والوعي والسياسة والحضارة ، ولا مواسم تحتضن ثقافات مفبركة ان كانت توليفية أو دخيلة أو ماضوية .
وأخيرا وعلى قاعدة حق أهالي المناطق المهجرة والمنكوبة في استعادة أرضهم ، على الحراك الميداني في الشمال أن يملك ادوات صنع وطن للجميع، وعلى حراك السويداء أن يقدم ما يتطلبه الضمير الوطني، فالدروز يحملون ثقل الهم العربي والشواهد حاسمة وهمهم الخاص كأقلية والاكثرية مأزومة مرتين، مرة بإرث انقسامي وشرخ تاريخي، ومرة بمظلومية الإلغاء من قبل أقلية مؤدلجة بعقيدة اختلط فيها الطائفي مع الاستبداد في زمن الأسدين.
ومن المؤكد أن انتصار القضية السورية يكمن في القدرة على النقد والمراجعة لكل ما كان وما نأمل أن يكون… ان ثقافتنا التراثية تنتج بتوظيفها كيفياً مثل هذه المراجعات التي عبرها سنتصالح جميعا مع ماضينا ومع حاضرنا .