الرأي العام

دعونا نمد أيدينا لبعضنا بعضًا ونبني سورية الجديدة

منذ حوادث الساحل المفتعلة من قبل فلول نظام الإجرام السابق، يجري تقزيم الوطن بهويّات وإيديولوجيات وإطروحات بعيدة كل البعد عن السوريين

د. علي حافظ – العربي القديم

لا أحب الخوض في الصراعات العقائدية، لاسيما الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، وأعتبرها ما قبل فكرية؛ لكن الأحداث الأخيرة التي وقعت في سورية، ولوثة التفرقة التي اجتاحت كل شيء بسرعة مذهلة وسيطرت على الجو العام، صابغة الكثيرين بلونها القيحي، دفعتني لأوضح بعض الأمور التي لا يريد بعضهم المتعصب والشوفيني الموتور أن يدركها: عندما طغت داعش وأجرمت بحق السوريين، نحن كنا أول من تصدى لها وحاربها؛ حيث قدمنا الكثير من الشهداء والجرحى في معاركنا ضدها؛ ولم نعتبرها سنية لنقف معها.. عندما تمادت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام لاحقًا) لم نهادنها ونحابيها وندلس لها لأنها سنية… كذلك، عندما طبّل المفتي بدر الدين حسون وغيره من الشيوخ المعروفين للنظام البائد، لفظهم أغلب السنة؛ ولم يؤيدهم أحد ويدافع عنهم، لأنهم كانوا فاسدين وعلى خطأ!

أما فيما يتعلق بالنظام الجديد في دمشق؛ فقد انتقدناه بشدة منذ البداية، لاسيما تأخره غير المبرر في المحاسبة وتحقيق العدالة الانتقالية؛ أو فيما يتعلق بتعييناته غير الموفقة وذات الطيف الواحد… هذا يعني أننا استطعنا تحكيم عقولنا للتمييز والابتعاد عن المغالاة، ولم نفرق بين الناس على أساس ديني وطائفي وفئوي ومناطقي… كانت رؤيتنا واضحة من الجماعات والأشخاص، واستندت إلى مواقفها من الديكتاتور وجرائمه وكوارثه…

ورغم كل ذلك، تقوم بعض الأقليات، أو المكونات كما يحلو للمثقفين تسميتهم، بشيطنتنا ودعشنتنا نحن الأكثرية، ومحو كل تضحياتنا، والتقليل من إنجازاتنا، وإلغاء انتصاراتنا بإسقاط أحد أكثر أنظمة الحكم عنفًا واستبدادًا وطغيانًا؛ والتَّعَامِي، أجل التَّعَامِي، عن حقِيقَةِ الهولوكوست الذي تعرضنا له من قبله وبدعم مباشر وغير مباشر من هذه الأقليات…

وهذا ما يجعلنا نضطر، في كل مرة، إلى شرح وتوضيح ما جرى، رغم أن الأمر لا يحتاج؛ فمن يرغب بمعرفة ذلك ما عليه سوى أن يستقل واسطة نقل ويسافر إلى مدن غوطة دمشق، أو يتوجه من حمص نحو مدن الشمال السوري مرورًا بحلب الشرقية؛ ليتأكد أننا نحن من دفعنا الفاتورة الأغلى من الأرواح والدم واللحم المزق والتهجير. ليتأكد بأن كل ما تعرفونه لا يعادل لحظات الخوف التي عايشناها بعد سقوط كل برميل وصاروخ وقذيفة فوقنا في أحياء حلب الشرقية؛ ليدفنا في تراب العدم وأنقاض النسيان.. ليدفنا دون عنوان، دون كفن…

منذ حوادث الساحل المفتعلة من قبل فلول نظام الإجرام السابق، يجري تقزيم الوطن بهويّات وإيديولوجيات وإطروحات بعيدة كل البعد عن السوريين.. تنهال المنشورات الطائفية الوقحة من كل حدب وصوب، لتسمم كل العلاقات وترفع حدة التوترات وتدفع الآخرين كي يسيروا في ركب طوائفهم أيضًا… هل هذا ما كنا نريده حقًا؟ هل ننجر جميعًا إلى فخ الحرب الأهلية القاتل؟ ألم تكفينا طائفية آل الأسد الحاقدة لأكثر من نصف قرن؟ هل نرجع سورية إلى زمن العثمانيين، حيث الملة والطائفة والقبيلة والعائلة (بني، آل…) هم من يحددون طرق العيش ومدى الانتساب إلى ما تبقى من وطننا؟

أجل، عندما يتعلق الأمر بالدين أو الطائفة أو العرق ينبري آلاف الأشخاص للدفاع عن الأمر رغم عدم معرفتهم به؛ أما عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، أيًا كان، لا تجد إلا القلة القليلة التي تدافع عنه. وعندما تفلس الشعوب تتعلق بالقشور، كالرايات والرموز الدينية والطائفية والقومية، وتبحث عن الهراء مسترجعة الإطروحات العقائدية والهوياتية البائدة؛ وتنسى أن الأوطان تبنى على أسس قانونية متينة وليس بالترقيع والتخييط والتبييض وإعادة التدوير…

من يريد أن يبني وطنًا عليه أن يكون وطنيًا صادقًا وجامعًا.. النقد والانتقاد مهم وضروري، لكن ليس من خلال التجييش والتحريض الرخيص؛ الذي تزهق مقابله أرواح وتسفك دماء سورية للأسف.. المعارضة للسلطة ليست خيانة.. هي مجرد تعبير عن وجهة نظر مخالفة لوجهات نظر السلطة.. هي ظاهرة يجب تبنيها ورعايتها حتى تتحول إلى ثقافة عامة صحية وصحيحة. لذلك عليكم أن تكونوا موضوعيين في سياساتكم وتوجهاتكم؛ ولا تصبوا الزيت على النار، ولا تشعلوا الحرائق التي ستأكل الأخضر واليابس.. كفوا عن الاستعانة والاستقواء بالخارج المتوحش… يكفي الإدعاء بالمظلومية وتصوير أنفسكم بالحملان.. يكفي تنصلًا من أعباء الاعتراف بالحقيقة، والتهرب من المسؤولية.. لا تكونوا شركاء في خياطة الأشرطة الدموية لسروايل جنرالات الأسد وفلوله.. لا تصفقوا لهم، وتشجعوهم على العودة لإكمال مسيرتهم الدموية.. لا تحاولوا نسف كل شيء، ورؤية ما ترغبون رؤيته فقط، وليس ما يراه الآخرون.. عليكم أن تشاركوا في تغيير سورية نحو الأفضل؛ فبدلًا من الانخراط في تخريب الوطن دعونا نمد أيدينا لبعضنا بعضًا ونبني سورية الجديدة التي تستوعب الجميع!

لقد فرحنا برجوع الوطن؛ لكن، يبدو أنه رجع ناقصًا.. ما يحدث في سورية، الآن، لا يخدم أحدًا لا من بعيد ولا من قريب… علينا أن نتكئ على بعضنا بعضًا، والشخص الذي يقدم أكبر مساهمة يكون الأكثر احترامًا وتبجيلًا وسموًا…

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى