علم النفس والسلوك

في مديح الهشاشة: شجاعة الانفتاح على المجهول

اعتناق الهشاشة ليس نزعة رومانسية هائمة، بل مقامرة وجودية حقيقية

براء الجمعة – العربي القديم

“أن تكون شخصاً صالحاً يعني أن تكون منفتحاً على العالم وقادراً على الثقة فيما هو ممكن ولو كان خارج نطاق تحكمك بشكل قد يجعلك تنهار في ظروف بالغة القسوة.. الحياة الأخلاقية مبنية على الرغبة في الانكشاف والثقة بدون ضمانات—وتلك هشاشة لها جمالها الخاص” مارثا نوسبام.

ليست الهشاشة، في عين الفيلسوفة مارثا نوسبام، ثقبًا يُرقَّع أو نقصًا يُستأصل، بل نافذة تُفتح على العالم، تهمس بإمكان الصلاح. إنها ليست استسلامًا للضعف، بل دعوة لشجاعةٍ نادرة: أن نثق في الآخر، أن نؤمن بالممكن، أن ننكشف للمجهول، حتى حين يرتجف القلب خوفًا من الخسارة. هذا الانكشاف —الذي يُعرّضنا لسهام الألم – هو، في عمقه، فضيلةٌ تُضيء درب الحياة الأخلاقية.

في عالمنا العربي، حيث الخوف والخيبات، وتتآكل الثقة تحت وطأة الجراح، هل يمكن للهشاشة أن تكون خيارًا؟ أن تكون، ليس هروبًا من الانهيار، بل طريقًا للمعنى؟ نُطلّ من شقوق أرواحنا، نسأل: كيف نُحب رغم الشك، ونمدّ اليد رغم الفراغ، ونظلّ منفتحين حين يُغري الانغلاق؟

الهشاشة كجوهر للإنسانية: من نوسبام إلى جلال الدين الرومي

حين تؤكد نوسبام أن الحياة الأخلاقية تُبنى على الثقة في غياب الضمانات، فإنها تطرح مقاربة جذرية لموقفنا الوجودي من العالم. الهشاشة هنا ليست انحرافًا عن الأصل، بل هي الأصل ذاته. هذه المقاربة تستدعي إلى الذاكرة تراثنا الصوفي، حيث يقول جلال الدين الرومي: إن الكسر هو ما يسمح بدخول النور.”

في هذا القول البليغ، يتردد صدى ما تقترحه نوسبام: الهشاشة ليست انكسارًا مظلمًا، بل هي الانفتاح الذي يسمح للضوء بالتسلل، وللآخر بالعبور، وللتحوّل بأن يُولد.

أما في فضاء الشعر العربي، فيرسم محمود درويش لوحة مشابهة حين يكتب: هزمتك يا موت، الفنون الجميلة جميعها.” ليست هذه بطولة ساذجة، بل موقف أخلاقي وجمالي عميق: اختيار للانفتاح على الحياة، رغم الألم ورغم يقين الخسارة.

التوتر النفسي للهشاشة: مقامرة بين الأمل والانهيار

ومع ذلك، فإن اعتناق الهشاشة ليس نزعة رومانسية هائمة، بل مقامرة وجودية حقيقية. من يختار أن يثق في عالم لا يقدم ضمانات، يواجه صراعًا داخليًا مستمرًا: بين الرغبة الفطرية في التواصل والخوف الغريزي من الجرح، بين التوق للانتماء ونزعة الانسحاب لحماية الذات.

في علم النفس، يُعرف هذا التوتر بـ: الضعف المقصود  Intentional Vulnerability أن تختار بوعي أن تكون مكشوفًا رغم علمك بما قد يجلبه ذلك من ألم. شجاعة كهذه تتصارع مع القلق الوجودي، مع الحاجة إلى السيطرة، مع الأصوات الداخلية التي تهمس: ابقَ آمنًا… لا تثق بأحد…”

يتجلى هذا الصراع في تفاصيل يومية: حين نُحب، نُبوح، نمد يد العون، أو نقف مع مظلوم في وجه سلطة. كل تلك اختيارات تنطوي على هشاشة، وعلى احتمال الخسارة. لكنها خسارات، كما يقول نيتشه، قد تكون ذاتها ما يُشكّلنا ويصقل وعينا.

الثقة كفعل أخلاقي: من برينيه براون إلى المتصوفة

ترى برينيه براون الكاتبة والباحثة الأمريكية أن الشجاعة الحقيقية تبدأ من الاعتراف بهشاشتنا. لكنها، مثل نوسبام، لا ترى فيها ضعفًا، بل شرطًا للتواصل الإنساني الحقيقي. أما نوسبام، فتذهب أبعد: فالثقة، في غياب الضمانات، هي موقف أخلاقي أصيل، لا مجرد وسيلة للعلاقات.

هذا المعنى نجده متجذرًا في تراثنا الروحي. حين قال الحلاج: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، لم يكن يكتب غزلاً صوفيًا فحسب، بل كان يعبّر عن تماهٍ كامل بين الذات والآخر، عن انكشاف روحي كامل. وقد كان ألمه جزءًا من ذلك المسار، لا عرضًا خارجيًا له، بل قرينًا جوهريًا للصدق.

من التطوع إلى الحب: كيف نمارس الهشاشة؟

في سياقات الانهيار والتمزق — سواء في مناطق نزاع، أو داخل أسر مفككة، أو مجتمعات منهكة — يصبح خيار الانفتاح الأخلاقي أكثر صعوبة، لكنه أيضًا أكثر ضرورة. المتطوع الذي يمدّ يده يعرف أنه قد يُخذل، أو يُخدش، أو يُقابل بجفاء. ومع ذلك يختار أن يثق، لا لأن النتيجة مضمونة، بل لأن الفعل الأخلاقي يُقاس بصدقه، لا بنتيجته.

وكذلك هو الحب. لا حب حقيقيًا دون مخاطرة. لا انتماء صادقًا دون احتمال الفقد. ومع ذلك نواصل المحاولة، لأن هذه المخاطرة — بكل هشاشتها — هي ما يجعلنا بشرًا بحق، قادرين على تجاوز ضيق الذات نحو اتساع الإنسان.

الجمال الهش: من زهرة الكرز إلى لحظة صدق

في فلسفة “الزن” اليابانية، تصبح زهرة الكرز رمزًا للهشاشة الجميلة: تتفتح سريعًا، وتسقط سريعًا، وتمنح في عابرية وجودها درسًا في الجمال. هذا الإدراك لا يقود إلى العدمية، بل إلى تعظيم اللحظة الحاضرة، والصدق، والتعبير الحقيقي.

في رؤيا نوسبام، لا يكمن الجمال الأخلاقي في الكمال، بل في الأصالة: أن نظل منفتحين رغم الجراح، أن نقول “أنا هنا” رغم عدم يقيننا إن كان أحد سيصغي.

احتضان الهشاشة: بذور الشفاء

ليست الهشاشة خاتمة نُسدل عليها الستار، بل مستهلٌّ نهمس فيه بالحقيقة الأولى: أن نكون بشرًا يعني أن نُجرّب، أن نُخطئ، أن نُحب رغم الخوف، ونثق رغم الخذلان، وننكشف رغم إغراء الانغلاق.

إنها ليست ضعفًا كما يُصوَّر، بل قوة تُحسّ بالقلب لا تُرى بالعين—قوة تتجلى في قرار صغير: أن نمدّ اليد رغم احتمال الفراغ، أن نُبقي النافذة مفتوحة حتى في عزّ العاصفة.

في زمنٍ يتكاثر فيه الارتياب وتعلو أسوار الذات، تأتي نوسبام لتوقظ فينا يقينًا ناعمًا: أن الخير ليس هيمنة على العالم، بل انفتاح هشّ عليه؛ أن الصلاح ليس نفيًا للعطب، بل مصاحبته بعين الرحمة وصبر المعرفة.

نحن، أبناء هذه البقعة المنهكة من الخريطة، لا نملك ترف الإنكار أو متسعًا للهروب. لكن في هشاشتنا تكمن بذور شفاءٍ مختلف: شفاء لا يُخيط الشروخ، بل يحيلها نوافذ؛ لا يمحو الألم، بل ينقشه كتكوين فنيّ في الذاكرة.

أن نُضيء بهشاشتنا، لا رغمها، فتنبثق منا وجوهٌ أكثر إنسانية، وأفقٌ أرحب للحب، وممكنٌ أخلاقيّ أوسع من كل الضمانات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى