الرأي العام

دلالات وقضايا | مناظرات الانتخابات الرِّئاسيَّة الأمريكيَّة

يكتبها: د. مهنا بلال الرشيد

أسفرت مناظرة ترامب-بايدن في 28 حزيران/ يونيو الفائت عن فوز ترامب وهزيمة كبيرة تلقَّاها بايدن، وأدَّت إلى انسحابه من سباق الرِّئاسة الأمريكيَّة لصالح نائبته كامالا هارس؛ لتكون مرشَّحة الحزب الدِّيمقراطيِّ في مواجهة دونالد ترامب مرشَّح الحزب الجمهوريِّ من أجل الفوز برئاسة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة خلال انتخابات الخامس من تشرين الثَّاني/ نوفمبر 2024، كذلك استفاد ترامب من حادثة الخرق الأمنيِّ وإطلاق الرَّصاص على منبره في أحد مؤتمراته الخطابيَّة، ولم تُخطئ هذه الرَّصاصة ترامب وحسب، بل إنَّها قضت على بايدن، وأجهزت على حظوظه في مجابهة ترامب على رئاسة أمريكا بحسب كثير من المتابعين والمحلِّلين.

وبعد انسحاب بايدن عقب مناظرته الَّتي خسر فيها أمام ترامب ستجري المناظرة الأولى بين مرشَّح الجمهوريِّين دونالد ترامب ومرشَّحة الدِّيمقراطيِّين كامالا هاريس بعد غد يوم الثُّلاثاء في 10 أيلول/سبتمبر 2024، وإن لم تحضر ذكرى أحداث 11 أيلول 2001، الَّتي دُمِّر فيها بُرجا مبنى التِّجارة العالميِّ في سلسلة من الهجمات الإرهابيَّة، فإنَّ ظلال هذا الحدث التَّاريخيِّ المهمِّ ستنعكس حُكمًا على المناظرة كلِّها. وإن تجنَّب المتناظران أو ابتعد أحدهما عن الحديث حول هذا الموضوع المهمِّ فلن يكون بوسعهما إغفال الحديث عن الأمن القوميِّ الأمريكيِّ وخطَّة كلِّ مرشَّح لحماية هذا الأمن من الإرهاب والهجوم السِّيبرانيِّ وتدخُّل بعض الدُّول في الانتخابات الأمريكيَّة ذاتها.

كيف يؤثِّر المرشَّحون في النَّاخب الأمريكيِّ؟ وكيف يغيِّرون قناعاته؟

ينطلق المرشَّحان في هذه المناظرة، وخلف كلِّ واحد منهما قاعدة جماهيريَّة وحزبيَّة صلبة تشكِّل حوالي 40 بالمئة من الشَّعب الأمريكيِّ كلِّه، ويصعب على أيِّ مرشَّح منافس أن يخترق قاعدة خصمه الجماهيريَّة الصًّلبة؛ وبهذا تبدو حظوظ كلِّ واحد منهما بالفوز متقاربة جدًّا مع حظوظ خصمه إن لم تكن متساوية معها تمامًا، ويبدو أنَّهما يتنافسان على أصوات 20 بالمئة فقط من النَّاخبين من خارج خنادق الجمهوريِّين والدِّيمقراطيِّين؛ أي يتنافسان على أصوات النَّاخبين الأمريكيِّين الَّذين لم يحسموا أمرهم بالتَّصويت لهذا المرشَّح أو ذاك حتَّى الآن في انتظار نتائج مناظرة العاشر من أيلول وتقييمهم حديث كلِّ مرشَّح وخطَّته الانتخابيَّة وجدول أعماله وبرنامجه السِّياسيِّ في السَّنوات القادمة؛ فعلامَ يعتمد ترامب؟ وكيف تؤثِّر كامالا هاريس في جمهورها؟

يشير نفر من السِّياسيِّين والمحلِّلين إلى وضوح شديد في خطابات ترامب وشخصيَّته الَّتي تحدَّدت ملامحها خلال ولايته الرِّئاسيَّة بين (2017-2021)، وتقد أُعجبت طائفة كبيرة من جماهير النَّاخبين بهذا الوضوح، الَّذي يدلُّ عندهم على صدق صاحبه، وقوَّة شخصيَّته، وجدِّيَّة وعوده الانتخابيَّة، بينما يرى بعض السَّاسة أنَّ الغموض سمة أساسيَّة من سمات السِّياسيِّ النَّاجح. وقراءة هذين الرَّأيين تدلُّ على أنَّ الوضوح بذاته إشكاليَّة كبرى في عالم السِّياسة، وتظهر ملامح هذه الإشكاليَّة في مواقف سكَّان الشَّرق الأوسط من هذين المرشَّحين ومن الحزبين الأمريكيَّين الشَّهيرين خلفهما، وبرغم جزم كثير من المتابعين بأنَّ رئيس أمريكا ليس إلَّا واجهة للأيديولوجيا الَّتي يرسمها له معاونوه وأعضاء حزبه تكشف تفاصيل النِّقاش عن محبٍّ لوضوح ترامب وطريقته في الانسحاب من الاتِّفاق النَّوويِّ مع إيران، ذاك الَّذي أبرمه قبله باراك أوباما؛ فاستطاع ترامب بالسِّياسة أن يتخلَّص من تبعات الالتزام باتِّفاقيَّة الدِّيمقراطيِّين غير المرضية للشَّعب الأمريكيِّ، وهو بذلك يعزِّز-ومن خلال وضوحه-الأمنَ القوميَّ الأمريكيَّ سياسيًّا؛ إذ يعرف المتابعون أنَّه لو عزم على الحرب سيخوضها، وتلخِّص سياسته هذه مقولة: (هُزَّ العصا، ولا تضرب بها إلَّا عند الضَّرورة)، ويبدو للمتابعين أنَّ عودة ترامب كفيلة بإعادة الإيرانيِّين إلى طاولة المفاوضات وإجبراهم على فتح منشآتهم النَّوويَّة أمام مراقبي وكالة الطَّاقة الذَّرِّيَّة ومفتِّشيها، وتبقى قضيَّة ملفِّ إيران النَّوويِّ بين سكَّان الشَّرق الأوسط ذاتهم قضيَّة إشكاليَّة؛ لأنَّ بعض الامتيازات في جغرافيَّة سوريا ولبنان وفلسطين والعراق-في غالب الأحيان-هي الأوراق الَّتي يتنازل عنها المفاوضون للإيرانيِّين مقابل تحقيق بعض التَّنازلات أو المكاسب التَّفاوضيَّة وتعزيز الأمن القوميِّ، ثمَّ يعرض المفاوضون هذه المكتسبات على النَّاخب الأمريكيِّ ليصوَّت للرَّئيس الأجدر بتحقيقه. لكنَّ المفاوضات تأخذ وقتًا طويلًا جدًّا، ونظرًا لقوَّة السَّلاح النَّوويِّ عند إيران نجح المفاوض الإيرانيُّ بكسب الوقت واللَّعب عليه في المفاوضات السَّابقة كلَّها؛ إلَّا إذا عاد ترامب للرِّئاسة، وأراد أن يقدِّم إنجازًا لأمريكا والعالم يحرق من خلاله قدرة المفاوض الإيرانيِّ على اللَّعب على الوقت؛ لأنَّ ترامب بطبيعته لا يحبُّ المناورة كثيرًا، ولا يوجد ما يدفعه للمناورة وتمرير الوقت؛ فهو ليس لديه طموح بالحصول على ولاية رئاسيَّة جديدة إذا كسب هذه الولاية طبعًا!

نادرًا ما يضحك ترامب في خطاباته، أو قلَّما يبتسم في مناظراته أيضًا، وهذا يعزِّز الانطباع بحزمه وصرامته وجدِّيَّته في تنفيذ أفكاره ومشاريعه وبرامجه الَّتي يطرحها على النَّاخب الأمريكيِّ، وعلاوة على ذلك يجيد التَّأثير والإقناع من خلال الخطابة الرَّنَّانة أو المبالغات الصَّادقة، أو بمعنى آخر يجيد تسويق أفكاره على النَّاخب الأمريكيِّ، ويكسب تصديقه بأبسط العبارات، بخلاف أسلوب منافسته كامالا هاريس، الَّتي شغلت منصب المدَّعية العامَّة، وتميل-بطبيعة تكوينها وخبراتها السَّابقة-إلى التَّركيز على القضايا الجزئيَّة الدَّقيقة، وكأنَّها تسحب خصمها والمتلقِّي-النَّاخب معًا إلى مساحة جدليَّة متنازع عليها، ويثار حولها بعض الشُّكوك؛ لتربك خصومها، وتأخذ منهم مواقف انفعاليَّة تدينهم؛ فتسجِّل عليهم النُّقاط، الَّتي تتستقطب بها النَّاخبين، أو تخضعهم لنفوذ سلطتها من خلالها؛ فهي مغرمة بأساليب الجدل والحجاج المعروف لدى القضاة والمحامين؛ إذن، تقف طائفة واسعة من الشَّعب الأمريكيِّ أمام نموذجين مختلفين من نماذج السَّاسة-الخطباء؛ وعلى المواطنين أن يصوِّتوا لأحدهما بعد الاستماع لكليمهما.

 وكما أنَّ ترامب يتَّسم بلغة جسد واضحة وجدِّيَّة وصارمة تستطيع كامالا هاريس أن تُظهر لغة جسد متنوِّعة وإشكاليَّة أيضًا؛ فهي كثيرًا ما تبتسم في وجه التَّصرُّفات الاستفزازيَّة؛ فتُظهر ردَّة فعلٍ قويَّة وصارمة عكسَ ما يرجوه منها خصومها إذا استفزُّوها بخلاف بايدن، الَّذي كان يطلب من ترامب وحزبه إغلاق المسماع أو مكرفون الحديث كيلا يؤثِّروا عليه بمقاطعاتهم وضجيجهم؛ فاستغلُّوا ضدَّه نقطة الضَّعف هذه، أمَّا كاملا هاريس فغالبًا لا تأبه بالمقاطعات، ولا تبالي بالضَّجيج وتظهر ردود أفعال مدروسة، وهذه صفة إيجابيَّة-سلبيَّة في آن واحدة، تدلُّ على قوَّة شخصيَّة صاحبها من جانب، وتدلُّ على قدرته على التَّلوُّن من جانب آخر، وقد أظهرت الغضب والصَّرامة أكثر من مرَّة، وفي أكثر من مناظرة أجرتها ضدَّ خصومها الكثيرين في البرامج الحواريَّة وعلى منابر الخطابة خلال مسيرتها الطَّويلة، وتفوَّقت عليهم في معظم الأحيان، وبالمحصَّلة يمكن القول: إنَّ خطيبة أو متحدِّثة بليغة، تعرف جيِّدًا أنَّ لكلِّ مقام مقال، وتظهر ردود أفعال تتناسب مع المواقف والمقامات قادرة على خوض المنافسات الشَّرسة، لكنَّ بلاغتها هذه مشكلة في ذاتها؛ فالمتلقِّي يعرف أنَّها خطابات مكتوبة وردَّات فعل مصطنعة أو مدروسة، بخلاف بايدن وترامب معًا، فترامب له سمتٌ واضح وصريح، أمَّا بايدن فقد كشفت قراءة خطابه المكتوب في مناظرته الَّتي خسرها أمام ترامب عن أجوبة عقلانيَّة وأفكار منطقيَّة مدوَّنة؛ لكنَّ قوَّته الجسديَّة وتراجع مداركه العقليَّة ونسيانه وتشتُّت ذهنه أكثر من مرَّة لم تسعفه على تقديم هذه الأفكار وتسويقها أمام الجماهير بشكل جيِّد؛ وهكذا تظهر الانتخابات الأمريكيَّة القادمة كضربة من ضربات الحظِّ في واحد من أشكالها، وستؤثِّر مناظرة ما بعد الغد في نتائجها بشكل كبير!

قضايا تهمُّ الأمريكيِّين وأخرى تهمُّ العالم

من الواضح أنَّ ترامب وفريقه القديم-الجديد يتفوَّق على بايدن بسبب قدراته المتراجعة، ويتفوَّق على كامالا هاريس وفريقها في مجال الخبرة السِّياسيَّة، فهو رئيس سابق للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، لكنَّ الحزب الدِّيمقراطيَّ استطاع أن يرتِّب أوراقه بسرعة، ورشَّح هاريس (أقوى أوراقه) لمنافسة ترامب؛ فهي امرأة سمراء البشرة تستطيع استقطاب أصوات النِّساء والمهاجرين إلى أمريكا من الأصول غير الأوروبِّيَّة، ومع ذلك تلقَّت هاريس ضربة موجعة بعد إعلان ترشُّحها فقد تراجعت بعض الجمعيَّات النِّسائيَّة من أصول إسلاميَّة وأفريقيَّة عن دعم هاريس في الانتخابات الرِّئاسيَّة. ويبدو حديث ترامب عن رفع مستوى الدَّخل ومعالجة المشكلات الاقتصاديَّة والهجرة غير الشَّرعيَّة إلى أمريكا مع الاستثمار في مجال الفضاء والتَّقدُّم التِّكنولوجيِّ حديثًا جذَّابًا ومغريًا للنَّاخب الأمريكيِّ برغم صعوبة العودة إلى كرسيِّ الرِّئاسيِّ لدى كلِّ من يفقده، فقد حاول أحمدي نجاد-على سبيل المثال-التَّرشُّح مرَّتين بعدما خسر رئاسة إيران، لكنَّه لم يفلح في اعتماد أوراق ترشيحه، وكذلك يمكن القول: إنَّ الحفاظ على كرسيِّ الرِّئاسة لولاية ثانية أسهل بكثير من العودة إليه بعد خسارته، إلَّا إذا كان كرسيُّ الرِّئاسة الأمريكيَّة بدعًا من الكراسي، وكان ترامب ذاته بدعا بين رؤساء العالم كلِّهم، وهذا لا يُستبعد عنه، وكما استطاع ترامب أن يخاطب النَّاخب الأمريكيَّ بمواضيع تهمُّه، يبقى لشعوب العالم في الشَّرق الأوسط (بؤرة الصِّراع العالميِّ في الوقت الرَّاهن) اهتمامها من ناحية محاسبة نظام المجرم بشَّار الأسد على جرائمه بالغازات الكيماويَّة ضدَّ الشَّعب السُّوريِّ وجدِّيَّة ترامب في إزاحة بشَّار ومحاكمته وتحقيق الانتقال السِّياسيِّ في سوريا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2254، ويرتبط مثل هذه الملفَّات ارتباطًا وثيقًا بمفاوضات إيران النَّوويَّة في ظلِّ قيادة رئيسها الجديد وترقُّب انتقال قيادتها الدِّينيَّة من خامنئي إلى ابنه مقتدى، فهل ستكون جغرافيَّة كلٍّ من سوريا والعراق ولبنان واليمن أوراق ترضية وتفاوض مع إيران؟ أو سيعتمد ترامب على مفاوضة إيران بعد تجريدها من بيدقها بشَّار الأسد، وبعد تخليص الشَّعب السُّوريِّ من شروره؛ ليضرب عصفورين بحجر واحد؟

وقبل كلِّ هذا هل سيتفوَّق ترامب على هاريس كما تفوَّق على بايدن من قبلها؟ هل سيعود إلى الرِّئاسة؛ لينفَّذ ما كان يطمح إليها قبل خسارته أمام بايدن؟ يبدو أنَّ مناظرة الثُّلاثاء القادم ستجيبنا على بعض أسئلتنا، وستضع أمامنا بعض التَّصوُّرات عن نتائج الانتخابات الرِّئاسيَّة الأمريكيَّة في الخامس من تشرين الثَّاني/نوفمبر 2024، وستضيء بشكل أو بآخر على بعض ملفَّات المنطقة الحسَّاسة؛ كالحلِّ السِّياسيِّ في سوريا، وانتخاب رئيس لبنان، وملفِّ إيران النَّوويِّ وغيرها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى