علم النفس والسلوك

القلق كممكن: تساؤلات حول وجودنا ومعنى الاختيار

هل القلق هو الكلفة التي ندفعها مقابل حرية لا نملكها؟

محمد صبّاح * – العربي القديم

عانت امرأة متزوّجة حديثاً نوبات من الرعب تنتابها كلما خرج زوجها من المنزل وتركها وحيدة. في كل مرة كانت تجد نفسها بمفردها بعد رحيله، كانت تصاب بالذعر من فكرة واحدة : أن تجلس خلف النافذة وتنادي المارّة بطريقة تُشبه بائعات الهوى. لا شيء في ماضي هذه السيدة، أو في شخصيتها وتربيتها، يُبرر هذا الخوف الذي يعصف بها. ربما كان هناك ظرف ما، عابر وبسيط، مثل حديث أو قراءة، أطلق داخلها ما يمكن أن يُسمّى «دوار الممكن». لقد وجدت نفسها فجأة أمام حرية متوحشة، وهذه الحرية بدت أشبه بنافذة مفتوحة على احتمالات لا نهائية، حيث يختلط الدوار بالرهبة، ويطرح تساؤلًا محورياً : ما الذي تعنيه الحرية حقاً..؟ وهل هي نعمة أم عبء؟

رواية هذه الحكاية جاءت على لسان جان بول سارتر كمدخل للحديث عن القلق، ذاك الشعور الذي هيمن على فكر الفلاسفة الوجوديين. بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، القلق ليس مجرد شعور عابر، بل هو تعبير عن قضايا وجودية محورية كالعدم، الموت، والحرية الإنسانية. تشبيه القلق بـ«الدوار» لم يكن خاصاً بسارتر وحده؛ إذ نجده في تأملات الفيلسوف الدانماركي كيركيغارد، الذي يُعتبر الأب الروحي للوجودية، حينما قال في كتابه مفهوم القلق: «القلق هو دوار الحرية». هذا الدوار، كما يراه، هو انجذاب غريب نحو الفراغ، شعور يختلف عن الخوف الموجه نحو شيء محدد، إذ إن القلق يتوجه نحو اللاشيء. لكن، كيف يمكن أن يكون اللاشيء أثقل وطأة من شيء ملموس..؟ وهل يُمكننا الهروب من هذا الدوار، أم أنه جزء لا يتجزأ من وجودنا؟

لفهم هذا المفهوم، يقدّم كيركيغارد مثالًا بسيطاً  لكنه شديد العمق: عندما تقول لطفل «لا تقطع الشارع»، ينتبه فجأة إلى أنه قادر على أن يقطع الشارع فعلاً. في تلك اللحظة، لا يقتصر الأمر على استيعابه للمنع، بل يدرك أيضًا حريته وإمكاناته، ما يثير داخله إحساسًا مقلقاً بأنه يستطيع خرق هذا المنع في أي وقت. القلق، بهذا المعنى، ينبع من وعي الإنسان بإمكانياته، ومن إدراكه أنه دائمًا أمام احتمالات مفتوحة، بعضها يمكن أن يكون مدمراً .

وهنا يبرز تساؤل جوهري: هل إدراك الحرية يعني بالضرورة القلق..؟ أم أن هذا القلق هو الثمن الذي ندفعه لمجرد أن نكون أحراراً..؟

بالنسبة لكيركيغارد، فإن القلق يولد عندما تدرك الروح إمكانيات الحرية. الروح، في نظره، هي تركيب معقد بين المحدود واللامحدود، وهذا التوليف يُنجز فقط من خلال القلق. القلق، إذن، هو الرابط بين الإنسان وعمق روحه، ذاك الواقع الغامض الذي يتلاشى كلما حاولنا الإمساك به. القلق هو عدم محدد، ومع ذلك يملك قدرة مقلقة على اجتياح الإنسان، ليوقظه من سباته الاعتيادي ويضعه وجهاً لوجه أمام احتمالات وجوده. لكن، كيف يمكننا مواجهة هذا القلق.؟ وهل يكمن الحل في الهروب منه أم في احتضانه كجزء من طبيعتنا؟

هذا المفهوم تطور لاحقاً مع هايدغر، الذي ربط القلق بالكينونة ذاتها. هايدغر يرى أن القلق ينبع من اغتراب الإنسان في عالمه اليومي العادي، ذلك العالم الذي يطمئننا ظاهرياً ، لكنه يخفي شعوراً دائماً بالغربة. الإنسان، في هذا العالم، يشعر بأنه غير أصيل، كأنه مرميّ في واقع لا يملك زمامه. القلق هنا يُظهر الفجوة بين ما هو الإنسان عليه وبين ما يستطيع أن يكونه. إنه نداء الوعي الذي يدفعنا نحو تحقيق ذواتنا، لكنه في الوقت نفسه يضعنا أمام حقيقة الموت، بوصفه النهاية الحتمية للمشروع الإنساني. إذا كان القلق يدفعنا للتساؤل عن ماهيتنا، فهل الموت هو الإجابة النهائية التي تمنحنا الأصالة..؟ أم أنه يضيف طبقة أخرى من الغموض؟

لكن ما الذي يجعل القلق مختلفاً عن الخوف..؟

الخوف، كما يقول هايدغر، هو خوف من شيء محدد ومرئي، ويمكنه في النهاية أن يحقق لنا نوعاً آخر من الطمأنينة عندما نواجه هذا الشيء ونتغلب عليه. أما القلق، فهو رعب من اللاشيء، من المجهول، من انفتاح الإمكانيات بلا حدود. لهذا السبب، كلما حاولت العقائد والأيديولوجيات أن تقيم «ملاجئ للخوف»، فإنها تفشل في مواجهة القلق، لأنه شعور لا يمكن أن يُختزل إلى شيء ملموس. هنا ينبثق السؤال: هل نحن بحاجة إلى القلق لنعيش أصالة وجودنا، أم أن التخلص منه هو غاية غير ممكنة في الأساس؟

في العودة إلى كيركيغارد، يُظهر التحليل الذي قدمه لسقوط آدم في سفر التكوين كيف أن القلق يرتبط بالحرية ارتباطًا وثيقاً. عندما قال الله لآدم: «لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر»، لم يكن ذلك مجرد منع، بل كان إيقاظاً  للحرية الكامنة في الإنسان. آدم بدأ يقلق لأنه أدرك أنه قادر على كسر هذا المنع، وأن إمكانيته هذه حقيقية ومفتوحة أمامه في أي لحظة. الحرية، بهذا المعنى، هي أصل القلق، لكنها أيضاً ما يجعل الإنسان كائناً أخلاقياً ، قادراً على الاختيار وتحمل المسؤولية. لكن، إذا كانت الحرية ترتبط بالقلق، فهل يمكننا حقاً أن نحيا حياة خالية من هذا الشعور المربك؟ وهل يكمن الخلاص في الإيمان كما اقترح كيركيغارد، أم في مواجهة الذات بلا تردد؟

أما سارتر، فقد أعاد صياغة القلق بطريقة تربطه بالحرية الإنسانية. عنده، الحرية ليست ميزة، بل عبء ثقيل، لأن الإنسان محكوم بأن يختار، وأن يتحمل عواقب اختياراته. «القلق، يقول سارتر، هو ثمن الحرية » ،إنه الشعور الملازم لإدراكنا أننا وحدنا مسؤولون عن بناء ذواتنا ومصيرنا، دون أن نستطيع اللجوء إلى مبررات خارجية. فهل نحن، كما يقول سارتر، محكومون بالحرية؟ أم أن هذا الحكم هو ما يمنح لحياتنا معنى؟

من جانب آخر، يوضح مونييه أن الفلسفات المثالية مثل ديكارت وهيغل حاولت الهروب من القلق من خلال بناء أنظمة فكرية مغلقة تمنح الإنسان وهم الطمأنينة. لكنها في الحقيقة كانت مجرد «سدود مؤقتة» أمام طوفان القلق الوجودي. في المقابل، الفلسفة الوجودية جاءت كصرخة احتجاج، كدعوة للاستيقاظ، لتضع ثقل المسؤولية كاملة على عاتق الإنسان، حتى «لا نغفو في عالم من الأوغاد»، على حد تعبير سارتر.

وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل القلق هو الكلفة التي ندفعها مقابل حرية لا نملكها؟ وهل نقدر على الهروب من هذا العبء الذي يرافقنا، أم أننا محكومون بأن نعيشه كجزء من وجودنا؟ هل تظل الحياة مجرد تحدٍ عبثي لا معنى له، أم أن في صراعنا مع القلق يكمن المعنى الذي نخلقه بأنفسنا؟ إذا كانت الحرية تلد القلق، فهل هذا القلق هو الذي يعطينا عمقاً إنسانياً ، أم أنه مجرد عبث لا مفر منه؟ هل يمكننا أن نجد مخرجاً من هذا المأزق الوجودي، أم أننا محكومون بمواصلة السير في هذا الطريق الملتوي إلى ما لا نهاية.؟؟

______________________________________________________

*كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى