ذاكرة اعتقال: حين يصرخ المسرح من وجع الذاكرة
في قلب الزنزانة، وعلى امتداد زمن العرض، كانت هناك جثتان ملقيتان بلا حراك، لا تتكلمان، لا تتنفسان، لكن حضورهما كان طاغيًا

مصطفى الشحود – العربي القديم
في زمنٍ تتكالب فيه الأحداث على طمس الذاكرة، وتُختزل فيه المآسي في أرقام وتقارير، جاءت مسرحية “ذاكرة اعتقال” لتعيد للوجع السوري وجهه الإنساني، ولتجعل من الخشبة منبرًا للصرخة، ومن الفن وثيقةً لا تُنسى.
هذه المسرحية، التي عُرضت أولًا على خشبة مسرح نقابة الفنانين بحلب، ثم انتقلت إلى خشبة مديرية الثقافة بإدلب، لم تكن مجرد عمل فني عابر، بل كانت وفاءً صادقًا لضحايا القيد، وصرخةً ضد الطغيان، واحتفاءً بالمسرح كأداة مقاومة وشفاء.
الذاكرة التي لا تموت
“ذاكرة اعتقال” ليست نصًا مسرحيًا تقليديًا، بل هي استحضارٌ مؤلم لذاكرة سورية قريبة، ذاكرة المعتقلين الذين هشّم النظام البائد أرواحهم، ومزّق ذاكرتهم، وحاول أن يحوّلهم إلى ظلالٍ بلا صوت. المسرحية تُحاكي تلك التجربة القاسية، وتُجسّد كيف يتحوّل الإنسان إلى رقم، وكيف يُحارب ليبقى ذاكرته حيّة وسط العتمة.
الجثتان الصامتتان: رمزية الموت الحيّ
في قلب الزنزانة، وعلى امتداد زمن العرض، كانت هناك جثتان ملقيتان بلا حراك، لا تتكلمان، لا تتنفسان، لكن حضورهما كان طاغيًا، يفرض نفسه على المشهد، ويُشعر الجمهور بأن الموت ليس نهاية، بل حالة مستمرة يعيشها المعتقلون في ظل القهر.
الجثتان لم تكونا مجرد ديكور، بل كانتا تجسيدًا رمزيًا لضحايا القمع الذين لم يُعرف لهم اسم، ولم تُروَ قصتهم. هما ذاكرة منسية، وجسدٌ بلا صوت، يرمز إلى من ماتوا تحت التعذيب، أو من ماتوا وهم أحياء، حين سُلبت منهم إنسانيتهم.
وجودهما في الزنزانة طوال العرض يُحاكي فكرة “الموت المؤجل”، أو “الحياة المعلقة”، ويطرح سؤالًا وجوديًا: هل من لم يمت جسديًا، لكنه فقد ذاكرته وكرامته، يُعد حيًا؟ وهل الزنزانة مكانٌ للموت فقط، أم أنها فضاءٌ لتفكيك الإنسان؟
كما أن الجثتين تشكّلان مرآة للمعتقل نفسه، الذي يرى في صمتهما مصيره المحتمل، ويرى في جمودهما انعكاسًا لروحه التي تُسحق تدريجيًا. هما شاهدان صامتان على الجريمة، لا يصرخان، لكن صمتهما أبلغ من كل الكلمات.
أداءٌ يلامس الجرح
الجهد الكبير لمحمود زكور: صوت المعتقل في أبهى تجلياته
لا يمكن الحديث عن “ذاكرة اعتقال” دون أن نتوقف بإعجاب عند الدور البطولي الذي جسده الفنان محمود زكور، الذي حمل على عاتقه مسؤولية تمثيل وجع آلاف المعتقلين السوريين. زكور لم يكتفِ بتجسيد شخصية المعتقل على خشبة المسرح، بل استطاع ببراعة فائقة أن ينقل أحاسيس الألم والكبت والتمرد داخليًا، حتى كأن الجمهور يعيش معه تجربة الاعتقال بكل تفاصيلها المؤلمة.
كان أداؤه امتزاجًا مذهلًا بين الصمت والصراخ، بين الهشاشة والقوة، بين الانكسار والأمل. لم يكن مجرد ممثل يؤدي دورًا، بل كان سفيرًا لصوت من لا صوت لهم، ورسولًا للذاكرة التي تعاند النسيان. كان يمكن رؤية كل انقباض في عضلاته، وكل هزة في صوته كجزء من سردية حية تسرد مأساة الإنسان السوري في زنازين الظلم.
جهده الذي امتد لساعة على الخشبة، وسط أجواء مكثفة وصعبة، حمل التحدي الأكبر في التعبير عن الصراع النفسي والاجتماعي الذي عاشه المعتقلون، وجعل من الشخصية جسرًا يصل المشاهد إلى أعماق المعاناة البشرية، دون أن تفقد المسرحية رصيدها الفني أو قوتها الدرامية.
جسّد الفنان محمود زكور دور المعتقل بحرفية عالية، نقل فيها الجمهور إلى عالم الزنازين، حيث الصمت يصرخ، والظلام يتكلم. كان أداؤه تجسيدًا حيًا للانكسار الداخلي، وللصراع بين الإنسان والقيد.
أما الممثل محمد ملفي، فقد قدّم دور السجّان بحضورٍ طاغٍ، جسّد فيه الحقد المتراكم، والأداة التي يستخدمها الطاغية لتمزيق الروح. أداؤه كان مرآةً للوحشية، دون أن يسقط في فخ الكاريكاتير، بل قدّم شخصية مركّبة تثير الرعب والتساؤل.
إلى جانبهم، تألقت فاطمة عبد وثناء صقر في أدوار داعمة، أضفت على العمل بعدًا إنسانيًا إضافيًا، وعمّقت من سردية الألم والحنين.
لغة المسرح: من الضوء إلى المكياج
لم يكن المكياج في هذا العمل تجميليًا، بل وظيفيًا، ساهم في إبراز التحولات النفسية والجسدية للشخصيات التي جسدت فصول المعاناة، خاصة المعتقل والسجان، بإبداع عبد الغني صيادي.
أما الإضاءة والصوت، بإشراف عمار جراح، فقد شكّلت لغة بصرية وسمعية موازية للنص، حيث لعب الضوء دورًا في كشف الزوايا المعتمة للذاكرة، بينما كان الصوت أداة للارتجاف الداخلي، ولخلق التوتر المسرحي المطلوب.
إخراجٌ يوقظ الذاكرة
قاد المخرج محمد مروان إدلبـي العمل برؤية فنية وإنسانية متكاملة، حافظ فيها على التوازن بين الرمزية والواقعية، وبين الألم والاحتجاج… وبين إبراز عناصر التعبير المسرحية وتحقيق التناغم بين تلك العناصر. اختياراته الإخراجية كانت دقيقة، من حركة الممثلين إلى توظيف الفضاء المسرحي، مما جعل العرض تجربة درامية صادمة ومؤثرة، ذات أبعاد لا تُنسى.
وفاءٌ للمسرح… وصرخة للحرية
عرض المسرحية في إدلب، بعد حلب، لم يكن مجرد انتقال جغرافي، بل كان فعلًا رمزيًا، يعيد للمسرح الوطني في إدلب روحه، ويؤكد أن الفن لا يموت، بل ينهض من تحت الركام ليقول كلمته. “ذاكرة اعتقال” ليست مجرد مسرحية، بل وثيقة فنية وإنسانية، تخلّد وجع المعتقلين، وتُبقي الذاكرة حيّة في وجه النسيان. إنها دعوة للتأمل، ولإعادة النظر في معنى الحرية، وفي دور الفن في مقاومة الطغيان