حلقنا عالياً في السماء متوجهين نحو الله
د. علي حافظ
عندما رأيت المظاهرة أول مرة تدور في شوارع مدينتي بكيت.. بكيت بحرارة!
لقد أثر ذاك المشهد في نفسي أكثر من جميع الكتب التي قرأتها عن الثورات والانتفاضات والحركات الشعبية… وقفت مذهولاً من روعة المشهد ورفعة الحدث؛ وتأكدت تماماً صدق كلام مكسيم غوركي حينما قال في قصة (بين أحضان ناتاشا): “إن سكرة الموت في رجل محتضر مهما كانت هادئة صامتة، تظل أبلغ وأعنف وأصدق من أي وصف تصويري بليغ للموت!”.
تعطي الرؤية الحية للأشياء وملامستها بشكل مباشر صورة صادقة عن الأشياء؛ بحيث لا يمكن للكلام مهما كان واقعياً وحقيقياً أن يعبر عن الحدث. أحياناً يقف الإنسان حائراً أمام الأشياء التي يصادفها في حياته، ليصمت أو يصاب بصدمة عدم القدرة على التعبير؛ فمهما حاول أن يزخرف كلماته ويجنَّحها فستبقى عاجزة وقاصرة عن الوصف!
بعد أن انتهت المظاهرة، عدت مسرعاً إلى البيت يغامرني شعور من الفرح العظيم لأول مرة منذ زمن طويل. توجهت مباشرة نحو غرفتي وأشعلت الضوء لتظهر رفوف كتبي التي تغطي كل جدرانها تقريباً. اقتربت منها ورحت أتأمل بعضها بهدوء وحميمية، وأدير وجهي من القرف عن بعضها الآخر… سرعان ما رحت أفرزها إلى قسمين: قسم للكتاب الشبيحة الذين وقفوا مع عصابة آل الأسد ضد الثورة أو آثروا الصمت حيال المجازر والجرائم التي ارتكبتها متذرعين بحجج واهية، وقسم وقف مع الثورة وضحى بكل شيء من أجل انتصارها.
رغم أنه من الصعب أن تكون كاتباً حراً مستقلاً في بلدنا الفاسد الذي سيطرت عليه مافيا السلطة وعالم المال والمحسوبيات والعلاقات العامة، إلاَّ أن هؤلاء صمدوا وجاعوا ولم يتوسلوا أحداً، محافظين على جزء من كرامتهم وإنسانيتهم…
كانت كتب أدونيس هي أول من بحثت عنها لأضعها في مقدمة القسم الأول، وبعد ذلك طوحت بكتب سليمان العيسى، ونزيه أو عفش، ووليد إخلاصي، وسعيد رجو، ومحمد أبو معتوق، وحسن حَميد، وحسن م. يوسف… ثم وقفت أنظر إليها مستغرباً من العدد الكبير لأولئك الكتاب المؤيدين للطاغية، فقد تكدست أمامي كومة هائلة من الكتب، لكنني احترت ماذا أفعل بها؟!
فكرت قليلاً، لكنني سرعان ما نهضت وخرجت.
عدت بعد دقائق، وأنا أحمل تنكة معدنية كساها الصدأ. وضعتها جانباً ثم أخذت أمزق الكتب المتجمعة بحنق وعصبية، وأرميها إلى داخلها. وما إن انتهيت حتى أضرمت النار بالكتب وثبت بصري على ألسنة النيران المنبثقة من أتونها.. لاحظت أنها تحترق وتخرج منها أسراب من الغربان والخفافيش تنعب وتزعق بشكل مرعب، وكأن نهاية العالم قد حلت؛ لكنها سرعان ما خرجت من النار وراحت تحوم في الغرفة مخلفة غمامة سوداء كثيفة.. فقدت الرؤية وصُمت أذنيي وشلت حركتي للحظة؛ ومن ثم نهضت بصعوبة لأفتح الباب والنافذة… لم يمر الكثير من الوقت حتى أصبح جو الغرفة نظيفاً بعدما تخلصت من تلك الكتب.. وقفت للحظات مفكراً:
يستطيع الإنسان أن يحترق وهو جالس إلى جوارك، دون أن تلحظ…في الشارع أو على المقهى… في بيته بين أعدائه أو أحبته، ولا يترك ذرة رماد على المقعد – حسب تعبير الكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا – لكن أصحاب هذه الكتب قد ارتكبوا آثاماً وذنوباً كثيرة، لذلك تحول كل ما كتبوه إلى غربان والخفافيش؛ ومن ثم إلى غمامة سوداء قبيحة تشبه أرواح مؤليفها السوداء؟
ظللتُ على هذه الحال حتى لاح ضوء الفجر؛ حيث انزاح الحجر الثقيل الذي ضغط على قلبي، ولم يعد الجو كئيباً جنائزياً، بل أصبح خفيفاً حماسياً سائلاً عندما اندمج صهيل حصان بعيد بصوت الريح القادم من حقول القمح القريبة.. اتجهت نحو القسم الآخر من الكتب… وقفت أمامها خاشعاً، ثم جثيت على ركبتيّ ورحت أصلي في محرابها.. ارتميت عليها معانقاً، ومن ثم أغمضت عينيّ.. تحوَّلت نفسي إلى كتاب، سرعان ما انضم إلى الكتاب السوريين الذين رحلوا منذ زمن، لكنهم عُرفوا بمقارعتهم القوية للحكم الاستبدادي في بلدهم: جلال صادق العظم، رياض الصالح الحسين، هاني الراهب، جميل حتمل… وكتاب عرب وعالميين عرفوا بنضالهم من أجل الحرية وكرامة الإنسان، ودافعوا عن المظلومين والمضطهدين والمذلين، أمثال: السياب، دنقل، بوشكين، دوستويفسكي، أخماتوفا، تسفيتايفا، سارتر، لوركا، نيرودا، كونديرا، سارماغوا، بافيسي…
هؤلاء لم يكونوا مع الأنظمة المستبدة لا عقلاً ولا روحاً؛ بل انتموا إلى الأرض، والسماء، والهواء، والغروب، والأزهار، والطيور، والفراشات.. انتموا للإنسان الحقيقي؛ أما أولئك الموالون للديكتاتورية فانتموا لبعضهم بعضاً حسب الطائفة والقبيلة والعشيرة.. انتموا لمصالحهم وامتيازاتهم، وأوجدوا لأنفسهم صنماً قاتلاً يعبدونه…
انفتح سقف الغرفة وابتعدت الجدران؛ ما لبثت أن نبتت أجنحة للكتب وراحت ترفرف محضرة نفسها للتحليق أول مرة في سماء حرة نظيفة… جاء سميح شقير لينضم إلينا، فهو شاعر قبل أن يكون مغنياً وملحناً؛ وراح يغني لنا أغنية الثورة الأولى “يا حيف”؛ ليرتفع في الفضاء ذلك السرب المؤلف من جميع الكتاب الذين أحبوا الحرية والكرامة الإنسانية ودافعوا عنها.
طرنا عند الغروب حتى وصلنا إلى قلعة حلب.. بدت حلب أجمل بكثير مما هي عليه في الواقع عندما تنظر إليها من القلعة!
بتنا هناك. ومن ثم نهضنا عند كلوع الفجر ونزلنا نحو الجامع الكبير (الأموي) القريب.. تجمعنا في ساحته المباركة؛ وحلقنا عالياً في السماء، متوجهين نحو الله!
عاد الزجاج رملاً، ورجعت الأبواب والكراسي والطاولات إلى الغابة.. أصبحت أشجاراً، أوراقاً، زهوراً… أصبح الدم أفقاً أرجوانياً، والجسد تراباً، والكلام حروفاً، والموسيقى نوطات، والقلم ريشة، والفراغ صمتاً أبدياً… أطلقت روحي أنفاسها كطائر أيتماتوف المهاجر.. اختفت المعالم رويداً رويداً وأنا أسبح على شواطئ جزر الأديم الأزرق؛ كأن شيئاً سرياً يقودني.. سرعان ما هويت إلى الأسفل، لأعتق نفسي من طوق السحب الذي يلاحقني؛ وأنضم إلى سرب غرانيق حمزاتوف، إذ ترك لي مكاناً فارغاً.