عقائد وأديان

كيف خلق الله الإنسان؟

تحتاج الأسئلة الوجوديَّة الكبرى إلى تضافرِ أدوات البحث العلميِّ كلِّها لتقديم بعض الإجابات المنطقيَّة عنها، وبرغم الإضاءات المهمَّة والنَّظريَّات الجديدة والطُّروحات المتميِّزة، الَّتي يقدِّمها العلماء والفلاسفة والمفكِّرون ما زالت الإجابة على قسم من هذه الأسئلة صعبة للغاية أو بعيدة المنال، ومع ذلك، ومن أجل جودة البحث العلميِّ، لا بدَّ من احترام كلَّ نظريَّة جديدة متكاملة أو متناغمة، يمكن لها أن تصمد أمام النِّقاش والتَّفنيد؛ لأنَّها نتيجة طبيعيَّة لاستخدام منهجيَّة علميَّة واضحة تكشف عن تناغم أدوات البحث العلميِّ كلِّها عند صاحبها بدءًا من الحَدْسِ إلى الملاحظة والتَّجريب حتَّى صياغة البراهين والإفصاح عن النَّظريَّة ذاتها، وإن كانت نظريَّات خلق الكون ونشأته نظريَّات صعبة وشيِّقة ومعقَّدة في آن واحد، فإنَّ الأقوال في خلق الإنسان لا تقلُّ صعوبة عن الحديث في نشأة الكون، وفيها كثير من الأهمِّيَّة والتَّشويق أيضًا؛ لأنَّ الإنسان أهمُّ كائن في هذا الوجود؛ هو بداية التَّاريخ والفكر والفنِّ، وهو صانع معنى الوجود؛ ولذلك يرى نفرٌ من العلماء أنَّه لا قيمة لأيِّ شيء خارج حدود إدراك البشر، أو لا معنى لوجود هذا الشَّيء إن لم نشعر بوجوده، ونتفاعل معه، أو نستفد منه، أو ندركه على أقلِّ تقدير؛ ولأنَّ الإنسان صانع معنى هذا الوجود، وأهمَّ كائن فيه، وأعلى مخلوق تأثُّرًا وتأثيرًا في مجاله الحيويِّ بين الجمادات والنَّباتات والحيوانات كلِّها يأتي سؤالنا المهمُّ والمحيِّرُ: كيف خلق الله الإنسان؟

اقرأ أيضاً: كيف خلق الله الكون؟

مِنْ خَلْقِ الكونِ إلى خلق الإنسان

تعرَّفنا خلال نقاشنا حول السُّؤال السَّابق: كيف خلق الله الكون؟ على تصوُّرات مهمَّة؛ أفضت كلُّها إلى القول بنشأة هذا الكون نتيجة طاقة كبيرة؛ أحدثت الانفجار الأعظم؛ فتشكَّلت المجرَّات مثل أندروميدا؛ أقرب مجرَّة إلى مجرَّتنا المعروفة باسم درب التَّبَّانة، الَّتي نعيش داخل نظامها على كوكب الأرض ضمن كواكب المجموعة الشَّمسيَّة، وقد وُجدت هذه المجرَّات، وتباعدت نتيجة الطَّاقة الهائلة التَّي شكَّلت الانفجار العظيم، وتسارعت حركتها، واستقرَّ دورانها بعد ذلك الانفجار؛ فراحت المجموعات الكوكبيَّة تدور حول نجومها في تلك المجرَّات، وانتظم دوران الأرض حول الشَّمس مع كواكب المجموعة الشَّمسيَّة الأخرى، وكان الجليد يغطِّي سطح الأرض في العصور الجيولوجيَّة الأولى؛ ونتيجة لانتظام دوران الأرض حول الشَّمس وتَعامُدِ أشعَّة الشَّمس على خطِّ الاستواء بدأ جليد الأرض بالذَّوبان، وتبخَّر بعض الماء، وانحسر بحر عظيم مثل بحر تيثيس (Tethys Seaway)، وبقي منه البحر الأبيض المتوسِّط مثل بحيرة كبيرة تفصل بين قارَّات آسيا وأوروبَّا وأفريقيا، وتمدَّد الماء نتيجة ذوبان الجليد في أماكن أخرى؛ فاختفت قارَّة كبرى مثل قارَّة أطلانطس، ولم يعثر علماء الآثار حتَّى الآن على حضارات ومدن كبرى تاريخيَّة مذكورة في الكتاب المقدَّس؛ يرجع اختفاء بعضها إلى طوفان نوح أو كارثة كونيَّة أو جملة من التَّغيُّرات المناخيَّة في العصور المتلاحقة؛ ونتيجة لانحسار الماء عن أماكن محدَّدة وتمدُّده إلى أماكن محدَّدة أخرى راحت تتشكَّل الجُزر الأولى على سطح الأرض، ومن الطَّبيعيِّ أن تظهر المستنقعات والطِّين والسُّهول الرُّسوبيَّة بعد انحسار الماء، وتتميَّز هذه السُّهول الرُّسوبيَّة بخصوبتها نظرًا لكثرة المواد العضويَّة فيها، فتنمو، وتكثر، وتخصُبُ فيها النَّباتات والثِّمار؛ فتبدو كأنَّها جنَّة عالية؛ قطوفها دانية، أو بستان ذو فاكهة وأعناب، وخير مثال طبيعيٍّ من زمننا القريب على هذا النَّوع  من الخصوبة هو خصوبة سهل الغاب العالية في سوريا، بعد تجفيف كثير من مستنقعاته واستصلاح الأراضي المحيطة بحوض نهر العاصي ومنابعه.

خَلقُ الإنسان من الطِّين بين الأساطير وكُتب الدِّيانات السَّماويَّة المقدَّسة

مثلما أسفر تجفيف مستنقعات سهل الغاب وبحيراته عن ظهور الطِّين والسُّهول الرُّسوبيَّة الخصيبة تشكَّلت الجُزر الأولى على سطح الأرض بعد انتظام دورانها حول الشَّمس بطريقة مشابهة لانحسار الماء عن أراضي سهل الغاب، وكما خلق الله سبحانه وتعالى بأمره (كُنْ) الانفجار العظيم والكونَ كلَّه، وحوَّله من سديم إلى كواكب ومجرَّات، خلق من سطح الماء قبل جفافه مجموعات من الأسماك وبعوض الماء والدِّيدان واليرقات والحشرات الأخرى، الَّتي وجد فيها الدَّاروينيُّون وعلماء الأحياء من أصحاب نظريَّة النُّشوء والتَّطوُّر والارتقاء مادَّة علميَّة مثيرة؛ فراحوا يراقبون نموَّ كثير منها، وتابعوا ظهور بعض الأنواع من الزَّواحف والسَّحالي حين جفَّ الماء، وظهر الطِّين، والحقُّ أنَّ هذه الظَّواهر العلميَّة تُعيدنا إلى دارسة الطِّين ذاته؛ هذا الَّذي يتشكَّل من خلط الماء بالتُّراب؛ فقد جعل الله-سبحانه وتعالى-من الماء كلَّ شيء حيًّا، وما التُّراب المجبول بالماء إلَّا الطِّين ذاته، وهو أصل خلق الإنسان؛ لذلك، بعد هذا العرض كلِّه نعود إلى سؤالنا المطروح: كيف خلق الله الإنسان؟ ومتى خلقه أيضًا؟ ومن أيِّ شيء خلقه؟

تُخبرنا أسطورة الخلق والتَّكوين البابليَّة (إينوما إيليش Enuma-Elish) أنَّ الماء والعماءَ يمثِّلان مرحلة الكون السَّديميَّة، ولم يكن هناك إلَّا (أبسو: إله الماء العذب)، و(زوجته تُعامة: إلهة الماء المالح)، و(ممُّو: الَّذي يمثِّل الضَّباب النَّاتج عن التقاء الماء العذب بالماء المالح)؛ فتزاوج الآلهة، وأنجبوا أبناءهم من الأبطال الأسطوريِّين؛ مثل جلجامش؛ الَّذي كان من نسل الآلهة، وكان إلهًا في نصفه الأوَّل، وبشرًا في نصفه الثَّاني؛ وهكذا يبدو خلقُ الكون والإنسان الأوَّل في الأسطورة البابليَّة خليطًا من فكرة تزاوج البشر والتَّفاعل الكيميائيِّ بين نوعين من الماء، وجاء في ألواح أسطورة الإينوما إيليش البابليَّة: “عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض، ولم يكن من الآلهة سوى آبسو؛ أبوهم، وممُّو وتعامة الَّتي حملت بهم جميعًا، يمزجون أمواههم معًا”. وقد أورد سفر التَّكوين في الكتاب المقدَّس قصَّة خلق البشر، وجاء فيها: “كان ضباب يطلع من الأرض، ويسقي كلَّ وجه الأرض. وجبل الرَّبُّ الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة”، فصار آدم نفسًا حيَّة”.

وفي القرآن الكريم يقول الله سبحانه وتعالى: (وإذ قلنا للملائكة إنِّي خالقٌ بشرًا من صلصالٍ من حمأٍ مسنون فإذا سوَّيتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلُّهم أجمعون إلَّا إبليس أبى أن يكون من السّاجدين قال يا إبليسُ ما لك ألَّا تكونَ مع السَّاجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصالٍ من حمأ مسنون) [الحجر 28-33]. يفسِّر الحافظ ابن كثير (1301-1373.م) آيات خلق الإنسان من الطِّين؛ فيروي عن ابن عبَّاس وعن ابن مسعود-رضي الله عنهما-وعن ناس من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّهم قالوا: “فبعث الله عزَّ وجلَّ جبريل في الأرض ليأتيه بطينٍ منها؛ فقالت الأرض: أعوذ باللَّه منك أن تنقص منِّي أو تشينني، فرجع ولم يأخذ، وقال: ربِّي إنَّها عاذت بك؛ فأعذتُها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه، فأعاذها، فرجع، فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت، فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ باللَّه أن أرجع ولم أنفِّذ أمرَه، فأخذ من وجه الأرض، وخلطه، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء؛ فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به، فبلَّ التُّراب حتَّى عاد طينًا لازبًا، واللَّازب هو الطِّين، الَّذي يلزق بعضه ببعض”؛ ولذلك امتزجت ألوان البشر، واختلفت بين الأبيض والأسمر والأشقر، وتنوَّعت طباعهم بين اللِّين والشِّدَّة.

معضلة ديكارت حول استعمال اللُّغة وتأويلها:

وهنا لا بدَّ لي من عرض موجز لمعضلة رينيه ديكارت (René Descartes) (1596-1560.م)؛ ألا وهي: معضلة استعمال اللُّغة وتفسيرها؛ لأنَّني لا أستطيع فهمَ تفسير ابن كثير بمعناه الحرفيِّ، وإنَّما أفهمه بطريقة مجازيَّة أخرى؛ أرى فيها أنَّ اختلاف ألوان البشر واختلاطها وتمازُجها مع تنوُّع طباعهم وصفاتهم لم يكن نتيجة لخلط الطِّين من تراب الأرض بهذا المعنى الحرفيِّ، الَّذي تحدَّث عنه ابن كثير، وإنَّما كان نتيجة طبيعيَّة لتعارف البشر؛ كبرى الحتميَّات التَّاريخيَّة، الَّتي غيَّرت وجه الأرض والتَّاريخ، وتحدَّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: (يا أيُّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير) [الحجرات 13]. ولا يضعنا تأويل كلام ابن كثير أمام معضلة ديكارت حول استعمال اللُّغة وتأويلها فحسب، وإنَّما يقودنا إلى النَّظر في معاني كلمات تبدو واضحة للوهلة الأولى؛ مثل: (الشُّعوب والقبائل)، ويدفعنا إلى التَّأمُّل كثيرًا في كيفيَّة تعارف البشر بوصفه حتميَّة تاريخيَّة كبرى، سيكون لها شأن كبيرٌ في تغيير وجه العالم؛ كما سيبدو في مقالات آتية؛ لذلك لا بدَّ من تقليب وجوه المعنى للإجابة على أسئلة مهمَّة أخرى؛ سنقف عند بعضها في المقال القادم؛ مثل: أين ظهر آدم أو الإنسان الأوَّل؟ هل آدم هو الإنسان الأوَّل حقًّا أو هناك بشر آخرون خلَقَهم الله على سطح الأرض قبل آدم أو بعده؟ كيف انتشر البشر على سطح الأرض؟ لماذا هاجروا؛ فاقتتلوا، وتعارفوا في مواقع كثيرة؟ وما نتائج الصِّراع والتَّعارف والهجرات المتلاحقة؟

زر الذهاب إلى الأعلى