كيف يُسهم الفنانون وأنصاف المشاهير في تعزيز الخطاب الشعبوي
اللايكات االشعبوية على حساب احترام الوعي ونضج التحليل
نوار الماغوط – العربي القديم
في خضم الثورة السورية والانفتاح الكبير الذي أتاحته منصات التواصل الاجتماعي، ظهرت ظاهرة أعادت تشكيل الفهم العام للأدوار التي يلعبها الفنانون والمؤثرون في السياقات الاجتماعية والسياسية. هذه الظاهرة مثلت نقطة تحول هامة في كيفية تفاعل الجمهور السوري مع قضاياه الداخلية والخارجية. فبينما قد يبدو أن هذا الانفتاح يوفر فرصًا هائلة للتعبير عن الرأي ونقل المعاناة السورية إلى العالم، فإنه أيضًا يطرح تحديات كبيرة، أبرزها انتشار المحتوى المضلل والسطحي، والذي يتناقض في كثير من الأحيان مع قيم الثورة وأهدافها السامية. وقد أصبحت هذه الظاهرة أكثر وضوحًا مع ظهور عدد من الشخصيات العامة التي برزت في الساحة السورية، بدءًا من الفنانين والممثلين وصولًا إلى اليوتيوبرز والمشاهير على منصات التواصل الاجتماعي، الذين حظوا بمتابعة جماهيرية واسعة.
في البداية، يمكن ملاحظة أن الفنانين السوريين، خاصة الممثلين، قد لعبوا دورًا بارزًا في دعم الثورة السورية ومعارضة نظام الأسد. كانوا في البداية صوتًا للتغيير وممثلين للحلم السوري في الحرية والكرامة. لكن سرعان ما أظهرت الثورة جوانب أخرى من هذا التفاعل، حيث تحول العديد منهم إلى ناطقين باسم الثورة، رغم أنهم يفتقرون في كثير من الأحيان إلى الفهم العميق لما يجري على الأرض. هذا الخلط بين عوالم الفن والسياسة أدى إلى حالة من العاطفية المفرطة التي تهيمن على خطابهم، مما يجعلهم أقرب إلى الاستمرار في أداء “أدوار تمثيلية”، بدلًا من تقديم رؤى سياسية وفهم مستقل. وبذلك، يصبح الجمهور في حالة من الضياع، حيث يتم خلط الشخصيات الحقيقية للفنانين بأدائهم الفني على الشاشة، مما يخلق انطباعًا زائفًا عن مصداقيتهم السياسية.
من جهة أخرى، أدى صعود اليوتيوبرز إلى ظهور ظاهرة جديدة في التأثير على الرأي العام السوري. هؤلاء اليوتيوبرز، الذين استطاعوا أن يجذبوا اهتمامًا واسعًا على منصات مثل يوتيوب وإنستجرام، تميزوا بقدرتهم الفائقة على تحفيز الجماهير من خلال محتوى عاطفي ومثير. غير أن هذه الفئة تفتقر في الغالب إلى الخبرة والوعي السياسي الكافي، حيث تتبنى خطابًا هجوميًا أو إقصائيًا يهدف إلى إثارة التفاعل اللحظي، دون أن يقدم حلولًا حقيقية أو أفكارًا استشرافية تسهم في بناء وعي سياسي مستنير. هذه الحالة من الانفتاح على جميع أنواع المحتوى أدت إلى تعزيز ظاهرة الخطاب الشعبوي الذي يعتمد على الشعارات الرنانة والصور المبالغ فيها بدلاً من النقاش العقلاني والمبني على أسس معرفية.
أحد أبرز التحديات التي تواجه هذه الظواهر هو ما يمكن تسميته بـ”فلسفة اللايكات”، حيث يتم قياس نجاح الشخصيات العامة بناءً على عدد التفاعلات والإعجابات التي تحصل عليها منشوراتهم أو مقاطع الفيديو الخاصة بهم. هذه الفلسفة تجعل الكثير من الفنانين واليوتيوبرز يركزون على تحقيق ردود فعل سريعة وعاطفية من جمهورهم، بدلًا من التفكير في تقديم محتوى يعزز الوعي ويخدم المصلحة العامة. وهذا يعني أن الجهود التي تبذل من قبل بعض الشخصيات العامة يمكن أن تكون موجهة نحو جذب أكبر عدد من المتابعين والمشاهدات، بدلاً من تقديم معلومات دقيقة أو تعبيرات عن رأي سياسي مدروس. هذه الظاهرة، التي تعزز من الثقافة السطحية، تؤثر سلبًا على الوعي العام وتعرقل قدرة الناس على التمييز بين المحتوى المفيد والمحتوى المضلل.
من الناحية الأخرى، فإن هذا الانفتاح الرقمي والقدرة على الوصول السريع للجماهير لا تعني بالضرورة أن هذه الشخصيات قادرة على تقديم تحليل سياسي أو اجتماعي عميق. في الواقع، تمثل هذه الشخصيات حلقة وصل بين الجمهور والمحتوى السياسي المضلل، مما يجعلهم فاعلين في نشر أفكار يمكن أن تساهم في تشويه الواقع. وفي غياب تحليل معمق أو استراتيجية واضحة، يبقى الجمهور عرضة لتوجيهات سريعة تتماشى مع مشاعرهم اللحظية بدلاً من أن تُحفزهم على التفكير العميق.
بنظرة عامة على الإرث الثقافي الذي تركه نظام البعث وحكم عائلة الأسد تكشف عن دور هذا النظام في تشكيل وعي جماهيري هش . لعقود، عمد نظام الأسد إلى تقليص المساحات الفكرية وإلغاء حرية التعبير، مما أدى إلى تراجع الوعي العام وفقدان القدرة على تمييز الخطاب السياسي الجاد من الخطاب السطحي. هذا القمع الثقافي عمل على تعزيز ثقافة استهلاكية تتقبل العواطف والأفكار المبسطة دون أن تتساءل عن صحتها أو مدى تأثيرها الفعلي. وبالتالي، فإن هذه البيئة التي نشأ فيها العديد من الفنانين والمؤثرين قد ساهمت بشكل غير مباشر في تقديم خطاب عاطفي مفرط يفتقر إلى العمق أو الحلول السياسية الملموسة.
وبالرغم من أن الثورة السورية كانت تحمل في بداياتها آمالًا كبيرة في التغيير وبناء سوريا جديدة قائمة على أسس الديمقراطية والحرية، إلا أن هذه الآمال باتت تواجه تحديات حقيقية في ظل انزلاق العديد من الشخصيات العامة إلى نشر الخطاب الشعبوي أو الاستمرار في التلاعب بعواطف الجمهور. في هذا السياق، يحتاج الشعب السوري اليوم إلى أصوات أكثر نضجًا ومسؤولية؛ أصوات تدرك أن الثورة ليست مجرد فرصة لتحقيق الشهرة أو زيادة المتابعين، بل هي مسؤولية وطنية تستدعي تبني خطاب مسؤول يحفز الوعي النقدي ويدعو إلى تقديم حلول حقيقية.
يحتاج السوريون إلى قادة حقيقيين يمتلكون رؤية واضحة، قادرة على تقديم حلول عملية لما يعانون منه. هم بحاجة إلى شخصيات لا تعتمد على شعارات فارغة أو على جاذبية الشاشة، بل إلى قادة يستوعبون الواقع ويعملون بكل صدق لخدمة مصلحة الشعب وتحقيق تطلعاته.