حين تختفي الدولة ويظهر «نحن» و«هم»: من يضبط فائض العنف؟
من يمتلك القدرة الحقيقية على احتواء هذا الكمّ الهائل من المقاتلين الذين يتحرّكون وفق عصبيّات مذهبية أو طائفية؟

محمد صبّاح – العربي القديم
– في البدء كانت الدولة، ثم غابت…
حين تغيب الدولة أو تضعف إلى حدّ التلاشي، لا يعود هناك قانون موحَّد، ولا «مشترك عام»، ولا سلطة تُحسن إدارة الفوضى. تغيب الحدود بين الحق والعصبية، وتعود المجتمعات إلى أبسط أشكالها الأولى: جماعات تتحصّن خلف هوياتها الضيّقة، طائفية كانت أو مذهبية أو عرقية أو مناطقية.
هذه ليست ظاهرة محصورة بجغرافيا محدّدة أو بزمن بعينه. هذه سُنّة في السياسة. نراها تتكرّر بصور مختلفة: من أوروبا بعد الحروب الدينية إلى لبنان بعد الطائف، من العراق بعد 2003 إلى البلقان بعد سقوط يوغوسلافيا. كلّما سقطت الدولة، ظهر هذا «النحن» الذي لا يقوم إلّا على نفي «الآخر».
يصبح الانتماء أضيق، يصبح «أخي في الدين أو في الطائفة أو في الحيّ» أهم من «أخي في الوطن». اللغة تنكمش، الهويات تتقوقع، والخزان المسلّح يكبر.
من يضبط فائض العنف حين يغيب القانون؟
السؤال الجوهري الذي يطرحه كلّ من يراقب هذا المشهد من بعيد أو يعيشه من الداخل:
من يمتلك القدرة الحقيقية على احتواء هذا الكمّ الهائل من المقاتلين الذين يتحرّكون وفق عصبيّات مذهبية أو طائفية؟ من يستطيع كبح هذا التيار الذي لا يعترف بحدود؟ من يمكنه توجيه فائض العنف هذا نحو نظام جديد، نحو معنى؟
هل يمكن لذلك أن يتمّ عبر نظام سياسي صارم بقبضة أمنية؟ ربّما، حين تستدعي الضرورة، عبر قبضة دينية تُعيد تأطير هذه الجماعات في سردية أقلّ دموية؟
أم يحتاج الأمر إلى فلسفة أعمق: فلسفة كارل شميت في «الصديق والعدو»، ميكافيلي في صناعة الخوف كوسيلة للاستقرار، ليو شتراوس في إعادة إنتاج «المعنى السياسي» حين يتآكل، أو حتى ساراماغو في «البصيرة» حيث «نحن» و«هم» يصبحان مجرّد أدوات لبقاء السلطة عبر خلق حالة دائمة من الشكّ؟
هل يمكن للمثقفين أن يوقفوا رصاص الميليشيات؟ هل يمكن لصالونات افتراضية علمانية أن تكبح المذهبية المسلحة؟ هل يمكن لمنظمات حقوقية في باريس أن توقف مجازر تجري في الأطراف؟ هل يستطيع أستاذ جامعي يكتب بيانًا أخلاقيًا أن يُقنع مقاتلًا على خطّ النار بترك بندقيته؟
الإجابة الواقعية والتاريخية: لا.
التاريخ يقول: لا عصبية تُكسر إلا بعصبية أقوى
كلّ الأمثلة التاريخية تقول إنّ هذه الجماعات لا تُضبط إلّا بقوة تفوقها. في اللحظات الحرجة، من يوقف نزيف التشظّي ليس التنوير وحده، بل القرار.
بسمارك لم يوحّد ألمانيا عبر الجمعيات الفكرية، بل عبر الحرب وصناعة الهيبة. أتاتورك لم يبنِ تركيا الحديثة عبر المناظرات، بل عبر الحسم. تيتو لم يضبط قوميات البلقان إلّا بجهاز أمني يعرف كيف يوازن بين الحديد والخوف.
كلّ هؤلاء أعادوا تعريف الدولة، واحتكروا العنف باسم الوطن، وقضوا على الهويات المتناحرة بفرض هوية أكبر، لا بدعوة إلى الحوار بل بتغيير ميزان القوى على الأرض. العبرة التي تتكرّر: لا شيء يضبط المذهبيات المسلحة سوى دولة تمتلك مشروعًا وقوّة.
غياب الدولة: حين تصبح اللغة خندقاً
الأخطر من البندقية هو الوعي. حين تنهار الدولة، يصبح تصنيف البشر جزءًا من اللغة اليومية.تصبح الهويات الطائفية والمذهبية والعشائرية ليست مجرّد شعور داخلي، بل نظام معرفة. «من أي طائفة؟ من أي حيّ؟ من جماعتنا أم من جماعتهم؟» هذه الأسئلة تصبح عادية، بل ضرورية للبقاء.
هذا ما أشار إليه عزمي بشارة حين تحدّث عن تحوّل الهوية من «خيار» إلى «مصير»، من حالة استثنائية إلى وعي يومي شامل. تصبح الهويات مغلقة، واللغة نفسها تتشظّى: النكات، الأمثال، العبارات، كلّها تصير علامات على الاصطفاف.
في لحظة كهذه، لا تعود اللغة قادرة على إنتاج مشترك جامع. تصبح الكلمات خنادق. لا فرق بين جندي وخطيب جامع وأستاذ جامعي حين تتقاسم اللغة ذاتها معسكرات الصراع.
هل يكفي الفكر؟ أم لا بدّ من الحسم؟
البعض قد يجد في الفكر مخرجًا: لنعِد بناء المعنى، لنفكّك السرديات المغلقة، لنزرع التنوير. جميل.
لكن، كما يقول شميت، لا قيمة للديمقراطية ولا لحرية الرأي في اللحظات الاستثنائية ما لم يوجد من يملك القرار. وميكافيلي، من قبله، فهم أن الاستقرار يحتاج إلى هيبة، وأنّ الشعوب لا تختار السلم طواعية بل خوفًا من العاقبة.
حتّى ساراماغو في روايته يرى أن السلطة تستبقي «نحن» و«هم» كي تبقى في موقع السيطرة.
الحل؟
هو مزيج. لا فكر بلا قوّة، ولا قوّة بلا مشروع.
نحتاج إلى قوّة عليا تعيد فرض الدولة، تفرض القانون لا باسم الطائفة بل باسم الوطن، وتعيد الناس من «نحن» و«هم» إلى «نحن» الوطنية.
لكن نحتاج أيضًا إلى فكر يفكّك هذا الوعي المتشظّي، يعيد للناس الإيمان بأنّ هناك مساحة مشتركة أوسع من الحيّ والطائفة.
الخاتمة:
لا وهم في الإجابة. في النهاية، لا تضبط هذه العصبيات إلّا سلطة تمتلك مشروعًا وهويّة جامعة وقوّة حاسمة.
أمّا الصالونات، البيانات، المؤتمرات، والمنظمات… فتلك تصلح للمرحلة الثانية، حين يُفرَض السلم، لا حين تُدار الحرب.
حتّى يتحقّق هذا، سنبقى ندور في هذا المشهد، حيث «نحن» و«هم» ليست مجرّد كلمات بل جغرافيا، دماء، وسلاح.
والسؤال سيبقى مفتوحًا: أيّ قوّة تستطيع اليوم إعادة صياغة الجماعات لا بالقمع وحده، بل بإنتاج معنى جديد للانتماء؟
___________________
* كاتب فلسطيني