مقامات أمريكية | أيام الخريف المدهشة
د. حسام عتال
إنه فصل الخريف، وهذا السنجاب اللعين يسرق حبات الجوز الذي جمعناه بغرض تكسيره وإخراج لبّه اللذيذ لصنع المكدوس. يحمل الحبات بيديه ويقفز على قائمتيه الخلفيتين وهو يوازن نفسه بذيله المرتفع. يأخذه إلى الكوخ الصغير الذي استعمله كمشغل للنجارة، هناك يخبئها في زاوية خلف منشار الطاولة ظناً منه إني لن ألاحظ ما تكّوم هناك… ولكنه ليس أهم مشاغلي هذا الخريف.
ولا هو الأرنب البري (اسمه عتريس تيمناً بإحدى شخصيات المسلسلات المصرية القديمة) الذي اختار أن يبني عشه الشتوي تحت المصاطب التي بنيتها لزراعة الخضروات، فنبش بذلك كل التربة وأخرج كل البصيلات النائمة بانتظار الربيع القادم كي تتفتح.
ولا هي العصافير المستوطنة التي قد تركت أعشاشها بعد أن كبرت صيصانها، الآن تحاول أن تجد ملجأ خلال فصل الشتاء تحت سقف زريبة الحيوانات. هي بالطبع ما زالت تقوم بكل وظائفها العضوية وبذلك تنشر بقعاً بيضاء من مخلفاتها على أرض الزريبة فتبدو كلوحة من رسم جاكسون پولوك. هذه الزريبة التي عملت في جاداً على تنظيفها استعداداً لتخزين علف الحيوانات لأيام الشتاء حين لا مرعى في الحقل، بل ثلج بسماكة نصف متر.
ولا هي الحشرات التي قد أدركت فوات الصيف فأسرعت مغتنمة آخر فرصة لإيجاد شركائها في اللقاح، فهي تصدر أزيزاً مستمراً بوتيرة عالية، كأنها أغنية حزينة تمتد طول الليل.
ولا هي الخمسة آلاف نحلة التي قد انكفأت في خليتها المليئة بالعسل (نصف العسل في الحقيقة، النصف الآخر إما قد بيع، أو يملأ قطرميزات في المطبخ). العسل الذي جمعته النحلات العاملات بزيارة ما يقرب ٢٥٠ مليون زهرة كل يوم في الصيف (نعم الرقم صحيح). الآن يجب إغلاق الخلية بإحكام لمنع الطفيليات من دخولها ثم لفّها بالبلاستيك كي تتحمل برودة الشتاء.
ولا هي لسعة البرودة اللذيذة التي تأتي مع رياح البحيرة القريبة، تبدأ مع غروب الشمس وتستمر طوال الليل، دافعة إيانا لإشعال نار المخيم مراقبين السماء الصافية لخلوها من أي رطوبة، فيما نشرب الشوكولا الساخنة، الخشب يطقطق محترقاً، دفئه يشع ورائحته تعبق في الجو.
كل هذه لا تفاجئني مع قدوم الخريف فقد اعتدت عليها عاماً بعد عام. الأمر الذي لم أعتد عليه، وما زال يدهشني في هذا الفصل هي علامات الموت. نحن نحتفل بالنشوء والولادة وننجذب إلى الألوان الزاهية في الورود أو الخضار الغنية بالأوراق اليانعة، لكن هناك جمالًا آخر نتجاهله وهو جمال عملية التحلل البطيئة، والتآكل، والتراجع، والذبول، والجفاف. بينما أكتب هذا، أدرك أن هذه المفردات تحمل العديد من الدلالات السلبية، لكن لا أعرف كلمات يمكن أن تضيف شعوراً أكثر إيجابية. لكن هذه العملية هي في صميمها عملية إزالة الأقنعة عن الأشياء. هي عملية طبيعية وأساسية، عملية خلق جديد، عملية حل المشكلات والتغلب على الأوقات الصعبة، عملية تكشف عن كيفية المضي قدمًا، عملية تحمل ضمنها إمكانيات هائلة. من كان يتخيل أن كل تلك الألوان، ألوان الخريف، كانت كامنة ضمن ورق الشجر الخضراء: ليس فقط الأصفر والأرجواني والأحمر بل البني، والزهري، والليلكي، والمشمشي، والأزرق، والبنفسجي، وغيرها من الألوان التي لم يصفها أحد بعد، ألوان كانت بانتظار التحلل والتآكل كي تظهر، ألوان تخلق شعوراً يختلف عن ما نشعر به إن كان ما نفكر به هو الجمال الذي يفترض أن يكون. إنها ساحة لعب جديدة في شكلها المتفكك المتهالك، تصبح لوحة الإبداع القادم . أجد ذلك مدهشاً، أجده في غاية الجمال.
نص جميل بتفاصيله بتناغم محتواه تختلط فيه شهقة الاحتضار بالولاده!