كاتب يصف حال المسلمين في اللاذقية قبل 90 عاماً واللاذقاني يُعقّب: اللاذقية قبل شكيبة وبوحيدر
قبل نحو 90 عاماً من اليوم، كتب أحد أعيان اللاذقية هذه الشكوى المرة عن حال المسلمين السنة في اللاذقية تحت حكم الانتداب الفرنسي الذي كان يدير ما كان يسمى دولة العلويين، وهي الدويلة التي استمرت بين عامي (1920-1936) وأسست للتمييز الطائفي بحق أهل المدينة. هنا نص الشكوى كما نشرتها جريدة (الجزيرة) الدمشقية، وتعقيب الأستاذ محيي الدين اللاذقاني الذي يجلو الكثير من خلفيات الحدث والنص والأجواء التي سادت، أو التي استمرت فيما بعد على نحو أكثر إيلاماً (العربي القديم)
المسلمون في حكومة اللاذقية وهل يجوز أن تظل حقوقهم مهضومة؟
بقلم: الأستاذ عابدين بك حمادة
قبل أن نعرض لهذه السياسة المتبعة في حكومة اللاذقية نحو الطائفة الإسلامية، نقول سلفا لمن سيزعم أننا نثير قضية طائفية أننا لا نأبه لهذا القول، لأن حال المسلمين في حكومة اللاذقية أصبح من الجريمة والخيانة معاً السكوت عنها، ومن السخف ومناصرة الباطل أن نمسك في الدفاع عن المسلمين بداعي أنها قضية طائفية، كما أننا على ثقة أن من يقول لنا هذا الكلام هو أحد اثنين: إما أنه يجهل ما وصلت إليه حال المسلمين في هذه الديار فنعذره، أو أنه عالم بها فهو إذن ضد سياسة المساواة والإخاء الطائفي، وهو أول من يعمل لإبادة طائفة معينة.
أما وجوب الدعوة إلى نبذ التعصب الديني، والتمسك بأهدابل القومية، فهذا كلام لا يقال إلى أمثال الذين أوجدت في نفوسهم الدراسة التاريخية عقيدة ثانية، هي أن العامل الأكبر في ضعف الدولة العثمانية والقضاء عليها، وبالتالي استعباد هذا الشرق هو التعصب الديني ليس إلا… ولكن هل يجوز أن تتعرض طائفة ما إلى الهلاك ولا تجد من يناصرها بحجة أن المسألة مسألة طائفية؟ بل نذهب أبعد من ذلك ونقول: أليست الدعوة إلى إنصاف طائفة مهضومة، ووجوب معاملتها كبقية الطوائف هي دعوة بعينها إلى الإخاء والمساواة بين الطوائف، كي لا تكون هناك طائفة راضية وطائفة ساخطة؟!
نعود إلى أساس موضوعنا فنقول إن حال المسلمين في [دولة] العلويين تتلخص بكلمتين: المسلمون يقومون بأوفر قسط من الواجبات، ولا يتمتعون إلا بجزء يسير، ويسير جداً من الحقوق؛ فالمسلمون رغم أنهم أقلية عددية يتحلمون أوفر نصيب من الضرائب، ويغذون نصف الخزينة على الأقل، ومع هذا فإنهم لا يتمتعون إلا بقليل من الوظائف، لا تتناسب وما يدفعونه من الضرائب حتى ولا مع عددهم. والحكومة لا تكتفي بذلك بل تعمل على إقصائهم من الوظائف التي يشغلونها. فالمسلم الذي تشغر وظيفته بحكم التقاعد أو بالإقالة أو الاستقالة يشغلها مسيحي عوضاً عنه.
لا نقول ذلك لاهتمامنا بالوظائف والحمد لله، نحتقر الوظيفة مهما سمت وكبُرت، ونشفق على صاحبها مهما تكن الوطنية التي يتمتع بها، ما دام الوضع السياسي على الشكل الذي نراه، لكننا نورد ذلك للاستشهاد على صحة قولنا من هضم حقوق المسلمين، ولو أن المسلمين يعانون الضرر المادي فحسب، لكان الأمر محتملاً، ولكنهم يعانون أيضاً ذلاً معنوياً أمر على النفس من الفقر المادي… فالمسلم في حكومة اللاذقية يشعر أنه ذليل لا نصر له ولا عون، فلا يدخل دائرة رسمية إلا وقلبه يهلع بها خوفاً، خشية الطرد والإهانة، فيصبر على الأذى والمضض صبر من لا رجاء له، واللوعة تأكله، والأسى يحرقه. والموظف المسلم ليس أميناً من الغد مهما علت وظيفته، فهو يعيش وسيف العزل أو الإحالة إلى المجلس التأديبي مسلّط فوق رأسه.
ولو كان المسلمون يحدثون اضطراباً أو شغَباً لفهمنا سبب إرهاق الحكومة لهم، ولقلنا هذه شنشنة عرفناها، ولكنهم خالدون إلى السكينة التامة، فما هو عذر الحكومة إذن؟
أما أن المسلمين متجهون بعواطفهم وقلوبهم نحو الوحدة والاستقلال فهذا صحيح، ولكن ماذا يضير الإفرنسيين ذلك؟ وهل التضييق على المسلمين يبدل منهم هذا الشعور؟
والواقع أن السياسة المتبعة نحو مسلمي حكومة اللاذقية تتنافى نصاً وروحاً مع صك الانتداب، لأن هذا الصك ينص في إحدى مواده بصورة صريحة، على وجوب معاملة الطوائف جميعها معاملة واحدة، فهل أصبحنا غير جديرين بشيء، حتى بصك الانتداب؟!
إن الطائفية نمقُتُها ولكنها أُوجدَتْ مع الأسف، فيحق لنا أن نطالب بأن تكون عادلة. ولكن علم الله أن أشخاصاً هناك قالوا عن أنفسهم، أو قيل عنهم، إنهم زعماء الطائفة الإسلامية في حكومة اللاذقية، يحملون مسؤولية حالة المسلمين بقدر ما تحملها الحكومة.
جريدة (الجزيرة) الدمشقية العدد (322) 11/8/1935
اللاذقية قبل بوحيدر وشكيبة
بقلم: د. محيي الدين اللاذقاني
في اللاذقية ضجّة..؟ ومتى كانت اللاذقية بلا ضجّة أو ضجات!
ليس في زمن أبي العلاء المعري فقط، بل من زمن الإمبراطور سلوقس الذي سمّاها في القرن الرابع قبل الميلاد “لاوديكيا”؛ ليخلّد بها اسم أمّه الحنون، كما أطلق اسم زوجته أفاميا على منطقة قربها، ومنذ ذلك التاريخ تعرّض اسم عروس الساحل، وتاريخها للتحريف على مدار العصور، كما تعرّض تاريخ سوريا كلّه للتزييف؛ نتيجة لصراع الطوائف، والملل والنِّحل، الذي يعمل وفق القاعدة المعروفة: كلما جاءت أمّة لعنت أختها، وأخفت آثارها، وأخبارها، دون أن تدري من المخطئ، ومن المصيب في تلك المتوالية التاريخية التي حيّرت المعرّي قبلنا:
في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدقّ، وذا بمئذنة يصيـــــــح
كلٌّ يعظّم دينه يا ليت شعري ما الصحيح؟
وقد كان المسلمون، منذ استقرّت أمورهم أمّة، ولم أسمع عمّن يسميهم في بلاد الإسلام طائفة، إلا بعد أن اطلعتُ على مقال بجريدة “الجزيرة” الدمشقية، يعود تاريخه لعام ١٩٣٥، أي إلى ما قبل إلغاء “دولة العلويين” في اللاذقية بسنة، وإلحاقها بالدولة السورية، أيام الانتداب الفرنسي عام ١٩٣٦، والمقال لكاتب من الفئة التي يسمّونها الوجهاء، وكيف لا يكون كذلك، واسمه عابدين بيك حمادة على سنّ ورمح! وهو بالمناسبة من الذين يحتقرون الوظائف، ويشفقون على أصحابها “مهما سمت وكبرت”.
وعلى طريقة الوجهاء الذين لا يتركون لك فرصة للتخمين بأغراضهم؛ من شدّة حبّهم للاسترسال، تدرك منذ السطر الأول أن البيك – الكاتب، وهو أحد المتنوّرين في عصره صاحب مظلومية عميقة لكنه، ورغم تنوّره المخلوط بنزعة قومية، تُحرَج من الكتابة عن مظلوميته؛ خوفاً من اتهامه بالطائفية؛ لذا يفتتح مقاله الهام بالتعبير عن تلك المخاوف: “قبل أن نعرض لهذه السياسة المُتبعة في حكومة اللاذقية، نحو الطائفة الإسلامية نقول سلفاً لمن سيزعم، أننا نثير قضية طائفية: إننا لا نأبه لهذا القول؛ لأنّ حال المسلمين في حكومة اللاذقية، أصبح من الجريمة والخيانة معاً السكوت عنها..”
وقد كان الأمر مقلقاً فعلاً، ويصعب السكوت عنه ف “الطائفة الإسلامية – ويُقصَد المسلمون السُّنة”، في دولة العلويين الساحلية، هي التي تملأ خزينة الدولة بالضرائب، وتقوم بكل الواجبات، لكنها لا تحصل إلا على اليسير من الحقوق، وإذا تقاعد موظف منها، أو مات يملؤون الشاغر بمسيحي؛ لأنه لم يكن عندهم كفاءات علوية في ذلك الزمان، وما كانوا يجرؤون؛ بسبب الانتداب الفرنسي على ترقية العريف إلى لواء، والذي لم يدخل الجيش أبداً إلى فريق، كما صاروا يفعلون، أيام المقبور في القرداحة، الذي كان جدّه أحد الذين طالبوا بالانفصال عن سوريا، والاحتفاظ بالدولة العلوية، وهو ما كشفه المندوب الفرنسي في مجلس الأمن في أحد ردوده على الجعفري في الشهور الأولى للثورة، ومن الغريب في هذا الأمر المريب أن فرنسا ما تزال تعتبر معظم ملفات الانتداب وثائق سرية، لا يجوز الاطلاع عليها، رغم مرور أكثر من قرن على ذلك الانتداب الذي جعل حكم العصابة الأسدية بعض السوريين يتمنون عودته.
وتتزامن هذه المقالة مع الرسالة الشهيرة التي أرسلها الشاعر بدوي الجبل لرئيس وزراء فرنسا ليون بلوم، يطالبه فيها بوصفه “نائباً منتخباً من الشعب العلوي”، بعدم الموافقة على إلحاق اللاذقية بالدولة السورية، والإبقاء على دولة العلويين؛ كي لا يصبح العلويون تحت رحمة المسلمين. “إن الشعب العلوي يرفض الإلحاق بسوريا المسلمة؛ لأن الإسلام يُعتبر الدين الرسمي للدولة في سورية، والعلوي هناك يُعتبر كافراً، وكل ما يملكه من دم، ومال وشرف تحت رحمة المسلمين”.
والظاهر أن هذه الحجّة، كانت ترنّ في ذاكرة المقبور في القرداحة؛ لأنه حرص منذ أن نصّب أحمد الخطيب رئيساً لسوريا تحت إشرافه، حرص أن يحصل على فتوى، تثبت أن العلويين مسلمون، فسارع لنجدته بتلك الفتوى حينها الإمام موسى الصدر الذي أعدمه القذافي لاحقاً، دون أن ينجده الأسد، أو يتشفّع له عند زميله سفاح ليبيا، والأدهى في هذه القضية المعقدة، أن إيران حليفة النظام منذ أيام الخميني، لا تعتبر علويي سوريا من الشيعة الاثني عشرية، ولا تعترف بإسلامهم.
وقد حصل تاريخياً عكس ما تخوّف منه بدوي الجبل في رسالته لبلوم، فالعلويون هم الذين صاروا يتحكّمون بالمسلمين السُّنّة على أيام “الرقيب بوحيدر، وزوجته شكيبة”، وبدل أن يتحكّموا بسنّة اللاذقية وحدهم، صاروا يتحكّمون بالمحافظات كلها بالصيغة ذاتها، وللأسباب ذاتها التي شكا منها عابدين بيك حمادة من سنّة أهل زمانه، الذين صاروا أدوات بيد الدولة العلوية بالساحل، فعبد القادر شريتح، ومجد الدين الأزهري، وهم من رؤوس السُّنّة في اللاذقية، أيام الدولة العلوية لم يكونوا أفضل من عائلات طلاس، وخدّام، والزعبي، والشهابي، وغيرها من العائلات التي كرّست بانتهازيتها، وسكوتها عن مظلوميات أهلها حكم العصابة الأسدية في سوريا.
_________________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران / يونيو 2024
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا