د. علي حافظ – العربي القديم
كنت أغفر لو أنني متُّ.. ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.
لم أكن غازياً ..لم أكن أتسلل قرب مضاربهم ..أو أحوم وراء التخوم ..
لم أمد يداً لثمار الكروم.. أرض بستانِهم لم أطأ ..
*أمل دنقل
ها أنا جالس أمام شاشة التلفاز أتابع بشغف سقوط أركان عصابة القتل والإجرام والعار… أرى تباعًا كيف تتهاوى قلاع جبروتها المخابراتية والعسكرية.. أرى كيف تتساقط ممالك خوفها واستبدادها وطغيانها…
جالس، حيث تسيل الدموع من تلقاء نفسها؛ وتختلط بمشاعر فرح أسطورية…
جالس، وعذاب غريب يحفز كل شيء ويعيد رسمه بدقة عالية…
آه، من يقدُر على محو ذكرياتي المؤلمة؟ من سيدفع حسابنا الثقيل الذي دفعناه طول سنوات تشردنا وغربتنا، وجعنا وألمنا، تمزق أرواحنا وإراقة دمنا؟
كيف لي أن أغفر؟
كيف لي أن أمارس التقية، وأظهر اللطف في وجه من أطلق الرصاص عليّ؛ حيث ما زالت شظايا حقده مغروسة في رجلي وتؤلمني حتى الآن؟
كيف لي أن أنسى وهم يركضون نحوي، مثل وحوش لا يظهر منها إلا أنيابها، محاولين افتراسي؟
كيف لي أن أسامح من أراد قتلي؟
كيف لي أن أسكت وقد قُتل كل من وقف بجانبي مناديًا للحرية والكرامة؟ كيف لي أن أفعل ذلك وكل الأصدقاء الذين كانوا معي قتلوهم بدم تماسيحي بارد؟.. كيف لي أن أنظر في وجوههم اليوم؟ بماذا سأجيبهم؟
آه، لقد ماتوا شباباً؛ بحيث لا يمكن تعويض خسارتهم المريرة…
كيف لي أن أفقد ذاتي؛ وأتقبل هذا بهدوء شديد، كما لو أنه لم يحدث أي شيء على الإطلاق؟
ماذا أقول لمن خسر ذراعًا، ساقًا، عينًا…؟ ماذا أقول لمن خسر ابنه أو ابنته؟ لمن خسر أخاه أو أخته أو أمه أو أباه؟ لمن خسر زوجته؟ أو لمن خسرت زوجها؟ ماذا أقول لمن خسر بيته وأرضه ومحله؟ ماذا أقول لمن اغتصبت وفقدت عرضها وانتهكت كرامتها؟
كيف لي أن أرى وجوههم الحزينة وأنظر في عمق عيونهم الدامعة؟
إن نظرات هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا أحدًا تبدو كبيوت مهجورة وخاوية بدون من فقدوا.. لقد أكلت الّلهفة أعمارهم وأحلامهم وآمالهم… هؤلاء الضعفاء لا يستطيعون فعل أي شيء، ولا يقدرون على الاقتصاص من معذبيهم وقتلة أحبتهم، بل ينتظرون حكام العهد الجديد في سورية على تحقيق ما تصبو إليه نفوسهم المشبعة بكل أنواع الحسرات…
إن سامحت هؤلاء المجرمين هل سيختفي القاتل الموجود داخلهم؟ هل أستطيع تجاهل كل ما ارتكبوها من فظائع وفجائع وكوارث بحقنا جميعًا؟
أريد أن أذكّر من يريد أن يسامح أو ينسى؛ أن أغلب من خرج من سجون الأسد هم من المعتقلين القدامى أو الجدد، أما من دخله في زمن الثورة، يعني الثوار من عام 2011 وحتى 2017؛ فقد تمت تصفيته نهائيًا…
…………………………………………
………………………………….
ربما عادت لي الحياة من جديد؟
ربما أبالغ بفرحتي بسقوطهم؟.. لكن، أنا لست نبيًا ليغفر؛ أو إلهًا ينتظر يوم القيامة. لست قديسًا ولا يمكنني إدراك أنني أروج للجحيم منذ الآن. ولا أستطيع التصرف بشكل لائق مع أناس غير لائقين… أنا إنسان من لحم ودم، ربما سينتهي بي الأمر في بيت صغير أخلد إليه آخر العمر، هاربًا من وحشة الغربة وظلالها.. هناك سأفتح نوافذه وأشرعها على الأفق، لأشعر أخيرًا بالهدوء وأنا أسمع زقزقة العصافير وهديل الحمام وصياح الديوك.. هناك سأسمع غناء الريح والمطر إلى آخر لحظة من حواسي ومشاعري؟!..
ربما أجلس بقرب موقد وأنظر إلى احتراق عيدان الحطب شاعرًا بلذة غريبة؛ لكنني لن أنسى؛ لن أنسى!.. هذه هي الرسالة.. هذه هي القصة!
كلام واقعي ودقيق…لأن المسامحة والغفران فضفاضة. والعدالة تحتاج إلى جلب المجرمين إلى العدالة ومحاسبتهم بدون تردد