الرأي العام

المحكمة الجنائية الدولية و"سمعان"

صخر  بعث

في 31 أيّار 2010 تعرّضت سفينة “مافي مرمرة” التركية وكانت من سفن “أسطول الحرّية” التي انطلقت من عدّة موانئ في تركيا وأوروبا بهدف الوصول إلى “غزّة” لفكّ الحصار عنها، وداخل المياه الدولية في البحر المتوسّط إلى هجوم دموي من قوّات البحرية الإسرائيلية، قُتل على إثره عشرة من المواطنين الأتراك، وضُرب آخرون بعد اقتيادهم إلى ميناء “أسدود” في فلسطين المحتلّة، ولم تصل معظم السفن التي جهّزتها منظّمات إنسانية دولية بالمساعدات والاحتياجات الطبّية والإغاثية وحملت على متنها مئات من الناشطين الحقوقيين والبرلمانيين والإعلاميين والفنّانين والكتّاب من دول عربية وأوروبية.

من الطريف أنّ هذه القضية وبعد تحقيقات صحفية وقضائية في تركيا وبريطانيا وإسبانيا، تابعها القضاء التركي بسبب ولايته القانونية الشاملة على المواطنين الأتراك حيثما كانوا، وفي بريطانيا بسبب شكوى قضائية تقدّم بها مواطنون ناشطون بريطانيون ضدّ الجنود الإسرائيليين، وفي إسبانيا بناءً على دعوى رفعتها الحملة الأوروبية لفكّ الحصار عن “غزّة”، بل وتدخّل القضاء المحلّي في “جزر القمر” لأنّ السفينة كانت مسجّلةً لديها.

ملاحقات وقضايا في القضاء الوطني المحلّي لهذه الدول تمّت إثارتها ومتابعتها، وتوبع ذلك بملاحقة “المحكمة الجنائية الدولية”.

في 2014 أعلنت “المحكمة الجنائية الدولية” أنّها لن تلاحق إسرائيل بسبب هجومها على سفينة “مافي مرمرة”، وفي 2016 أسقط القضاء التركي الدعوى القائمة لديه نتيجة الاتّفاق الذي وافقت فيه إسرائيل على دفع تعويضات لأهالي الضحايا، لكن.. وفي 2019 طلبت “المحكمة الجنائية الدولية” في “لاهاي” من الادّعاء العامّ للمحكمة إعادة النظر فيما إذا كان ينبغي ملاحقة “إسرائيل” حول هذه القضية، فجاء ردّه (أي الادّعاء العامّ للمحكمة) أن لا أساس يدفع إلى الاستنتاج بوجود قضية محتملة من اختصاص المحكمة بسبب عدم توافر قدر كافٍ من الخطورة، وانتهت القضية!.

تُنهي “أمرائيل” أي “إسرائيل” و”الولايات المتّحدة الأمريكية” اللتان وقّعتا سنة 2000 على “معاهدة روما” لكنّهما لم تصادقا عليها، ما يعني عدم التزام أيّ منهما بما يترتّب على المعاهدة بل نسفاً لعضويتهما فيها أصلاً، تنهيان قضاياهما الجنائية الدولية هكذا، بالاحتيال والتزوير والتحريف، بل بكلّ قوّة الغطرسة والإفك والجريمة!.

“معاهدة روما” هذه التي أُبرمت في 1998هي التي أسّست “المحكمة الجنائية الدولية”، وكان من أهمّ أسباب تأسيسها (عقد العزم على وضع حدّ لإفلات مرتكبي جرائم وفظائع الحرب التي أوقعت الضحايا من ملايين الأطفال والنساء والرجال حول العالم خلال القرن الفائت وبصورة هزّت ضمير الإنسانية من العقاب، وضمان مقاضاتهم على نحو فعّال، من خلال تدابير تُتّخذ على الصعيد الوطني، ومن خلال التعاون الدولي).

تختصّ “المحكمة الجنائية الدولية” بالنظر في أربعة أنواع من الجرائم فصّلها نظامها الأساسي، وهي جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان، ويمكن الاطّلاع على هذا التفصيل في النظام الأساسي للمحكمة، وسيجدنّ من يطّلع عليه أنّ الحطّ من كرامة الأشخاص أو تعمّد إحداث المعاناة لهم خلال الحروب والنزاعات -وهذا لعمريَ أمر رهيب- هو من ضمن هذه الجرائم ومن اختصاص المحكمة، مع أنّه قد لا يؤدّي إلى الأذى الجسدي أو القتل.

نظرت “المحكمة الجنائية الدولية” منذ إنشائها قبل 25 عاماً وحتّى الآن -وبحسب الأمم المتّحدة- في 31 قضيّة، فصلت في 14 عشرة منها، فحكمت بالإدانة 10 مرّات، و4 مرّات بالتبرئة، وكانت أغلب القضايا ضدّ زعماء ميليشيات وحكومات في “الكونغو” أو في “ساحل العاج” أو “كينيا” أو “أوغندا” وفي “السودان” أيضاً، حتّى وجّهت الانتقادات للمحكمة من قبل “الاتّحاد الإفريقي” بسبب كلّ هذا التركيز وخلال فترة عمل المحكمة وهي 11 عاماً حتّى الآن على الأفارقة السود، ونقول 11 عاماً حتّى الآن لأنّ أوّل حكم صدر عنها كان في 2012، أي بعد 14 عاماً على تأسيسها، أي أنّ المحكمة لزمها 14 عاماً لتتمكّن أو ترغب أو توجَّه لإصدار أوّل قرار توقيف، وكان بمواجهة “وليام روتو” نائب الرئيس الكيني بتهم القتل والاضطهاد العرقي والترحيل القسري التي حدثت في “كينيا” بعد الانتخابات بين 2007 و2008.

هذه المحكمة العجيبة التي هي جزء أو ناتج عن مؤسّسات “الأمم المتّحدة” ووكالاتها ومنظّماتها واتّفاقياتها ومعاهداتها وبروتوكولاتها الأعجب، أصدرت قبل عامين تقريباً في 2021 قراراً يقضي أنّ لها “ولاية قضائية” على الأراضي الفلسطينية التي احتلّتها “إسرائيل” بعد حزيران 1967، وهي “غزّة”، “الضفّة الغربية”، و”القدس الشرقية”، نعم هكذا أصدرت قرارها، والسبب وبكلّ وضوح وبساطة -وفق الأسباب الموجبة للقرار- أنّ “فلسطين” طرف في نظام “اتّفاقية روما” التي أسّست نظام المحكمة الدولية الجنائية!.

اعتبر الفلسطينيون المعنيّون بشؤون القانون الدولي وخاصّةً القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الجنائي اللذين تأسّسا باتّفاقيات جنيف الأربعة واتّفاقية روما التي أنشأت “المحكمة الدولية الجنائية”، أنّ قرار هذه الأخيرة بولايتها القضائية على غزّة والضفّة والقدس الشرقية يصبّ في إنجاح المحاولات لتحميل “إسرائيل” مسؤولية جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم العدوان التي ترتكبها بحقّ الفلسطينيين، والتي هي من اختصاص المحكمة، واستجابةً منها لمطالبهم التي بدأت بعد العدوان على غزّة سنة 2008، وتمّت المطالبة حينه بالتحقيق في ملفّات ثلاث: المستوطنات الإسرائيلية، الأسرى الفلسطينيين، ثمّ وبعد ذلك في ملفّ العدوان التالي على “غزّة” في 2014.

منذ أوّل مرّة نودي فيها بمحاكمة أسد النكرة أمام “المحكمة الجنائية الدولية” بدأت بعض الحوارات والنقاشات القانونية والسياسية بين ثلّة منّا نحن الذين كنّا كحقوقيين ومثقّفين ونشطاء ومهتمّين من أهل الثورة أو من بعض أهلها نسعى إلى أو حول ذلك الشأن المهمّ المعتبر وهو بالخطّ العريض شأن “إنفاذ القانون وتحقيق العدالة”، وبدا أنّ لدى الغالبية يقين أو مؤشّر منطقي أنّ هذا -لا ريب- سيحدث، فكان البعض يقول: هذا مصيره المحتوم إلى مسار العدالة الدولية، فالعالم الديمقراطي المتحضّر لن يقبل بكلّ هذه الجرائم، وقال البعض: طبعاً وأصلاً وحتماً سيحدث هذا، وخاصّةً إذا لم يحصل التدخّل الدولي أو الأمريكي العسكري في سوريا كما جرى في العراق، وآخرون قالوا لا.. يجب أن يحاكَم ذلك المأفون أمام قضاء سوري حرّ ومستقلّ، وهكذا..، لكنّ معظمنا قد أجمع وهذا في بدايات قتل المتظاهرين السوريين الأحرار بالرصاص قبل أن نرى اختراع “البراميل” على أنّ القصاص القانوني الدولي أو الوطني العادل آتٍ لا محالة.

لكنّ صديقاً من غير هذه الثلّة القانونية الحقوقية النشطة المهبولة واسمه المُعتبَر “سمعان”، سمع وقتها بعضاً من هذه الحوارات والنقاشات المُريبة الرهيبة التي كانت تدور وتمور وتشتدّ وتمتدّ، وكان فقيراً كسيراً بائساً يائساً، بعيداً تماماً عن أحابيل القانون ودهاليز السياسة، كما وعن مشاكل الجدال وطبعاً عن فنون المجاملة و”الإتيكيت”، قاطعنا جميعاً وفجأةً بهدف المشاركة وقال: يعني أنا إذا بكرة ما مشي حال الفيزا علبنان بقدر ارفع دعوى عليهن قدام هي المحكمة اللي عمتحكوا عنها وطعميهن خ..؟.

زر الذهاب إلى الأعلى