فيلم (لا أرض أخرى): هل يمكن للفلسطيني أن يروي حكايته بلا شروط؟
فيلمٌ مُنتج داخل منظومة تُعيد تدوير الألم الفلسطيني ليُصبح مادة للاستهلاك الغربي

محمد صبّاح * – العربي القديم
نعيش في عالم تُعاد فيه كتابة المأساة، لا بوصفها جرحاً مفتوحاً، بل كاستعراض يُنظم على خشبة العدالة المُعلّقة. في هذا العالم، يُمنح الضحية حق النطق بشرط أن يُمسك الجلاد بالميكروفون. يُسمح للمقهور أن يُبصر ذاته في المرآة، لكن فقط عبر انعكاس مُتصدّع يُشرف عليه المُستعمِر. هكذا يُعاد إنتاج الألم داخل دوائر الهيمنة، حيث تُصبح الشهادة فعلاً خاضعاً للرقابة، والبوح مُقيّدًا بشروط الحضور في عوالم مُصمّمة سلفاً لتطهير الرواية من شوائبها الجارحة.
كما في فيلم «لا أرض أخرى»، حيث يتداخل حضور الفلسطيني والإسرائيلي في لحظة مُلتبسة، تقف فيها الحقيقة على حافة المعادلة. هناك، تتحول الشهادة إلى عرض خاضع لشروط الإطار الذي يقدمها، فتصبح الحقيقة مقيّدة ومشروطة بالسياق الذي يُنتجها.
لكن، أي معنى يبقى للشهادة إن لم تُجرّح الصمت؟ وأي حرية تُمنح لمن عليه أن يعبر جسر الامتياز كي يُسمع صوته؟ إن وجود «الكفيل السياسي»، ذلك الوسيط الذي يُزيت عجلات الاعتراف، ليس إلا امتداداً لعنف رمزي يعيد صياغة علاقات القوة حتى في أكثر اللحظات إخلاصاً للحقيقة. فلا يُسمح للمستعمَر أن يُعلن وجوده إلا كصورة معدلة عن ذاته، نسخة قابلة للهضم تُسكن الرغبة الليبرالية في قصة تنتهي بالمصافحة، لا بالتحرير.
هنا، تتكشّف المفارقة المريرة: أن الطريق إلى المنصة العالمية قد يكون، في حد ذاته، استمراراً للاستعمار بأدوات ناعمة. الاعتراف الدولي بالرواية المقهورة يمر عبر غربال يختار أي أجزاء الألم يُمكن للعالم تحمّلها، وأي وجوه للاضطهاد يجب تلطيفها لتناسب أخلاق الجمهور المتعب من الحقائق الفجّة. لكن، مهما بلغت هذه البنية من إحكام، يظل الصوت الفلسطيني، حتى وهو مُحاصر بشروط البث، شظية وعي تخترق النظام. يظل الحضور في حد ذاته تمرّدًا، ولو كان الحاضر يُمسك بيده الأخرى مقص الرقابة.

حينما يفوز فيلم مثل «لا أرض أخرى» بجائزة الأوسكار، لا يمكننا قراءة هذا الحدث بمعزل عن بنيته الاستعمارية. الفيلم، الذي يسلط الضوء على وحشية الاحتلال الإسرائيلي في مسافر يطا، هو في ذاته تجلٍّ للتناقضات العميقة التي تحاصر أي محاولة فلسطينية للعبور إلى المنصات العالمية. السؤال لا يكمن في ما إذا كان الفيلم إنجازاً أم تطبيعاً ، بل في كيفية إعادة تشكيل النضال الفلسطيني داخل بنية القوة الاستعمارية، بحيث يصبح الوصول إلى المنبر مشروطاً بمرافقة «الكفيل الإسرائيلي».
بين الشهادة والكفالة
باسل العدرا، الشاب الفلسطيني الذي يوثّق تدمير قريته بعدسته، ليس بحاجة إلى من يُترجم مأساته. قصته تتحدث بذاتها، بل تصرخ في وجه العالم. ومع ذلك، لا تُسمع هذه الصرخة إلا إذا رافقها صوت إسرائيلي /صوت يوفال أبرهام، الذي يحمل امتياز الحضور الحرّ في المحافل الدولية. هنا، يصبح الإسرائيلي بمثابة «الضامن»، الذي يُهدّئ روع المُتلقي الغربي، ويُغلف الحقيقة القاسية بغلاف الليبرالية الناعمة.
وسيط الضرورة أم أداة الهيمنة؟
في المشهد السياسي الإسرائيلي، يُعد يوفال أبرهام خائناً، منبوذاً من مجتمعه. لكنه في السياق العالمي، يصبح ممثلاً لـ ( إسرائيل الأخرى) ، الوجه الإنساني الذي يُتيح للغرب استهلاك الرواية الفلسطينية دون مواجهة جوهر العنف الكولونيالي. هذه الاستراتيجية ليست جديدة؛ إنها جزء من بنية الدعاية اليسارية الإسرائيلية التي تسعى لتقديم نفسها كطرف ناقد، مع الإبقاء على سردية التماثل الكاذب بين المستعمر والمستعمر. وكأن القمع العسكري والاقتلاع القسري مجرد «نزاع» يحتاج لحوار، وليس علاقة قوة قائمة على العنف الهيكلي.
التطبيع كشرط للاعتراف
حين يصعد باسل العدرا إلى المنصة، يحمل فلسطين في قلبه وكلماته. لكن وصوله إلى تلك اللحظة مرّ عبر بوابة النظام ذاته الذي يهدم قريته. هذا لا يُقلّل من قيمة الإنجاز، بل يكشف عن عنف أعمق: أن الاستعمار لا يكتفي باقتلاع الفلسطيني من أرضه، بل يُعيد تشكيل طرق مقاومته. حتى في الفضاء الفني، تُفرض قواعد اللعبة / لا يُسمح للفلسطيني أن يتحدث وحده، إلا إن رافقه إسرائيلي يشهد على ألمه، ويُقدّم شهادة حسن سلوك للمُتلقي الغربي.
الممكن في حدود المستحيل
ليس من العدل أن نُحمّل باسل العدرا وزر هذه البنية الجائرة. فهو يتحرك في فضاء ملغّم، حيث الخيارات كلها مُلوثة بيد الاحتلال. ربما رأى أن العمل مع أبرهام هو السبيل الوحيد لجعل العالم يرى قريته وهي تُهدم. لكن الإقرار بضرورة هذا الخيار لا يعني التغاضي عن عنفه الضمني. علينا أن نُسمّي الأمور بمسمياتها: هذا الفوز ليس انتصاراً خالصاً، بل انعكاس للمأزق الفلسطيني المزمن — مأزق البحث عن الحرية داخل نظام لا يُمكنه إلا أن يُعيد إنتاج السيطرة.
لا أرض أخرى، ولا سردية خالية من الألغام
عنوان الفيلم نفسه يحمل مفارقة مُرّة. «لا أرض أخرى» هو صرخة الفلسطيني المتمسك بجذوره، لكن الفيلم في صيغته النهائية يصبح أرضاً مُشتركة يُعاد رسم حدودها لتُناسب خيال السلام الليبرالي. يُسمح للفلسطيني أن يروي نكبته، بشرط أن يُدين مقاومته. يُسمح له بالبكاء على قريته، لكن لا يُسمح له بأن يُطالب بحق العودة دون أن يُطمئن «الآخر» الإسرائيلي. وهكذا، تصبح هذه الأرض الأخرى ممكنة فقط كأرض رمزية، لا تُهدّد الواقع الاستعماري القائم، بل تُجمّله.
في النهاية
قد يكون «لا أرض أخرى» فيلماً صادقاً، لكنه يظل مُنتجاً داخل منظومة تُعيد تدوير الألم الفلسطيني ليُصبح مادة للاستهلاك الغربي. الإنجاز الفني هنا مشروط بقواعد القوة التي صاغها المحتل، حتى حين يبدو الفيلم كفعل مقاومة. لذا، لا يكفي الاحتفاء بالفوز، ولا يكفي رفضه. الأهم هو إدراك أن الطريق إلى منصة الأوسكار مرّ عبر حقل ألغام أخلاقي وسياسي، وأن الحضور الفلسطيني في هذه المساحات يُكلّف أكثر مما يمنح.
ما يفعله هذا الفيلم، دون قصد ربما، هو تذكيرنا بأن الفلسطيني يُقاتل على كل الجبهات / حتى حين يُحاول أن يروي قصته. فالاستعمار لا يُعطي الميكروفون بالمجان، ولا يُفتح المسرح إلا لمن يمرّ بشروطه. لكن ربما تكون أعظم قوة للفلسطيني، رغم كل شيء، هي إصراره على الوجود، حتى لو اضطرّ للمرور عبر شقوق النظام ليُبقي قصته على قيد الحياة.
يصف الكاتب الفلسطيني محمد الكرد هذه الظاهرة في كتابه ضحايا مثاليون؛ «تصبح كل نقاشات الفيلم، مراجعاته، طريقة ترويجه، أشبه بفعل استمناء جماعي، تختزل الفيلم إلى مجرد حقيقة كونه تعاونًا بين إسرائيلي وفلسطيني، تحقيقاً لوهم المشاهد بنهاية سعيدة لقصة تعيسة. نحيله إلى محض فِتِش، شيء يُباع كخاتمة مُرضية لصراع غير قابل للحل» .
_____________________________________
* كاتب فلسطيني .