زكريا تامر: حدّة الرؤية في زمن التقلبات
سعد فنصة – العربي القديم
للكاتب الكبير “زكريا تامر” كلمة هامة جداً، لم يَتَنَبَّه إليها الكثيرون، وتجاهلها بعضهم عمداً، دوّنها في مطلع العام 2013 ، عندما بدأت الثورة في سورية تتصاعد بمنحنيات مغايرة لتطلعات الناس.
كتب قائلاً: “عندما خرج السوريون إلى الشوارع مطالبين بالحرية والتغيير .. لم تكن لي آنذاك أي صلة بأي وسيلة إعلامية، ولم تتصل بي جريدة، أو مجلة، أو حتى إذاعة، أو محطة تلفزيونية؛ لمعرفة رأيي مما يحدث، وتجاهلني مدمنو العرائض، ولم تعرض علي أي عريضة، حتى اقتنعت أن ثمة تنفيذاً دقيقاً لمخطط مدروس؛ غايته إلصاق أشخاص معينين بالثورة السورية، وليست الغاية التعريف بمواقف الشخصيات السورية الأساسية في مجالات الثقافة، والأدب والفن والسياسة ..”.
اليوم بانت تقلبات المشهد، وصدقت الرؤيا البعيدة، التي تنبأ بها الكاتب الكبير، لطالما دوّنها في حينه يوماً، بعد يوم وشهراً بعد شهر، إلى أن صَمَت تماماً، ولم يعد يكتب وينشر، أو لعله ظل يكتب ويدوّن، دون أن ينشر.. وهكذا أخمن، لقد ترك لنفسه مساحة ينصرف فيها لذاته، وقراءاته، وأوراقه وكتبه.
وأذكر أنني قبل بضع سنوات، نشرت عنه النص التالي، ولم أرسله إليه، فنحن متصلان بالصداقة الافتراضية، وكنت على يقين بأنه سيقرؤه:
أستغرب، وأعجب لكل هيئات البحث العربية، وجامعاتها ومؤسساتها الإعلامية، وروابطها الأدبية والإبداعية، وأخص منها المثقفين السوريين الذين ادعوا الثورة والنضج الإعلامي، كيف تجاوزوا إبداع أديب سوريا الكبير “زكريا تامر”، ولم يُرشّح حتى اليوم لنيل جائزة نوبل في الآداب ..؟!
الأديب زكريا تامر الذي تجاوز التسعين، من عمره، ويعيش منذ مطلع الثمانينات في بريطانيا، ومازال شاباً في إبداعه، الذي جاء على غير مثال سابق، لا يشابه فيه أحداً في قوة الجذب، وبلاغة الاختزال، وبساطة اللغة، وفنية المعنى، بأعلى درجات النبوغ والعبقرية الأدبية، في إطلاق سهامه إلى قلب عمق الهدف الواضح في أقاصيصه، منذ إطلاقها أول مرة بعنوان: (صهيل الجواد الأبيض عام 1960)، حتى حقق لأول مرة في تاريخ القص الأدبي القصير مكانته المرموقة، بين أقطاب القص العالمي القصير والمتوسط والطويل، من أساطين الأدب، وكبار مبدعيه من أمثال برنارد شو، أو جون شاتينبك، وأنطون تشيخوف ..
وكل هؤلاء المبدعين كانوا أعداء صارمين للتفاهة، إلا أن أديبنا الكبير بقصصه القصيرة، تفوق عليهم – برأي شخصي – في تعرية الاستبداد، وكشف الزيف السياسي، والنفاق الديني والأخلاقي، في مراحل مبكرة من تاريخ سورية المعاصر، وفي أخطر عهودها ضياعاً للحريات.. وظل قلمه نزيهاً ومترفعاً، وفكره متنوراً، وصوته حاداً إلى جانب صوت الناس، وهناك إجماع على كل كلمة وحرف كتبها شيخ الأدب الوقور زكريا تامر، وحدّاد القص القصير الذي طرق الرؤوس، منذ زمن بعيد، فأسمعنا عبر طرقات حدادته العبقرية صدى الخواء الذي عشناه طويلاً، وما زلنا بصحبة الحاكم العربي وشعاراته ومخابراته، ولصوصه، وأنظمة قمعه، وتدجينه الحيوانات الناطقة بالعربية، وفي مقدمتها النمور الشرسة، التي قُدّر لسجن الحاكم الكبير المسمى وطناً، أن تأكل الحشائش جوعاً، وهي صورة متخيلة حين كتبتها، ولكنها في ما بعد وردت في يوميات السوريين حقيقة واقعة، من فرط مآسيها، وهول أحداثها.
*(الكاتب الكبير عمل في مطلع حياته حدّاداً)
____________________________________________
من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024