أرشيف المجلة الشهرية

عندما أضافت الثورة السورية يوماً جديداً لنمور زكريا تامر

نوار الماغوط – العربي القديم

في السابع عشر من شباط/ فبراير عام 2011، خرجت  مجموعة من السوريين  في حيّ الحريقة  الدمشقي، في مظاهرة، وكانت تبدو غاضبة، لأول مرة تشهدها المدينة، منذ عقود، ضد اعتداء ضابط شرطة على مواطن حينها، ورغم الانزعاج، والترقب الذي شعرت به السلطة، إزاء هذا الحدث، إلا أنها كانت مطمئنة إلى حدّ كبير، حتى إن وزير الداخلية السوري وقتها جاء بنفسه؛ ليتأكد إن كانت هناك مظاهرة فعلاً، وعندما اكتشف وجودها، قال معاتباً جمهور النمور المروَّضة: “عيب هي اسمها مظاهرة يا شباب!”.

 كانت قناعات هذا الوزير كفيلة، بأن تظهر بوادر انتفاضة؛ لأنه كان متأكداً  أن نمور سوريا المُروَّضة، والمجوّعة عن بُكرة أبيها، لا يمكن أن تُحسَب، إلا من عداد  القطط، وما حدث في  دول الربيع العربي، يعود لفشل المُروِّضين في ترويض نمورهم، وليس لشجاعة واندفاع شعوبهم في تونس، وليبيا، ومصر بالثورة على مُروّضيها، بل حتى حقها الأدنى من الاعتراض على المُواء.
لقد صمد السوريون،  أمام أكثر الأنظمة في العالم وحشية واحتقاراً للإنسان، وأكثرها بطشاً، ليس النظام السوري وحدَه، على ما يُعرَف به من إجرام، بل أيضاً من دول إقليمية ودولية كانت تسانده. صمد لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، “ولم يأتِ النصر”، ولا يمكن لأحد أن يقول إنها مسؤولية النظام وحدَه، وحلفائه من  محور الممانعة، وروسيا، وإيران،  بل هي مسؤولية  العالم  برمته، بما فيها إسرائيل، والولايات المتحدة، فبعض الدول لا تقلّ شراسة وإجراماً في قمع حريات شعوبها، عن النظام السوري الذي دفع المجتمع  العربي على الأقل؛ لأن يقرّر – ولو لأجل غير مُسمّى –  بأن تكون الثورة السورية هي آخر حلقات مسلسل الربيع العربي!

استطاع كلّ مَن تدخّل بالثورة السورية أن يقلب الطاولة على أحلام السوريين، وأن يقضم بعضاً من الأراضي السورية،  وأن يملأها  بمزيد من الجيوش والفصائل، وصولاً إلى تسلّم إيران، وروسيا  سُدّة الحكم والقرار، والبدء بتنفيذ خطة التغيير الديمغرافي، التي يُتوقع أن تفضي إلى تقسيم سوريا، وطرد ما تبقّى من النمور الذين لم يُروّضوا، والإبقاء على مَن تَحوّلَ إلى قطط، ومَن معهم  من اﻟﺗﻼﻣﻳﺫ ﺍﻟﻣﺧﻠﺻﻳﻥ ﻟﻣﻬﻧﺔ ﺍﻟﺗﺭﻭﻳﺽ، كما في قصة “النمور في اليوم العاشر”، لزكريا تامر، التي تقول الكثير عن سورية الثورة، وسورية ما قبل الثورة.

نمور بدأت حكايتها منذ 55 عاماً، ذاقت كل أنواع القهر والاضطهاد، وتعرّضت لشتى أساليب النفاق والتجويع، وخضعت لكل أساليب الترويض القاسي في كل مناحي الحياة الاجتماعية، والثقافية والفنية، عدا عن السياسية، والأمنية، ليأتي يوم يرفض النمر المُواء مثل القطط، أو مثل أصوات الحيوانات الأخرى كالنعيق، والنقيق، والخوار، والعواء، وكما جاء في أشهر القصائد في الشعر العربي الحديث القصيدة التي نظمها التونسي  أبو قاسم الشابي:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر

ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

***

كتب محمد الماغوط على الغلاف الأخير لمجموعة زكريا تامر “النمور في اليوم العاشر” التي صدرت 1978: “بدأ زكريا تامر حدّاداً شرساً في معمل، وعندما انطلق من حي (البحصة) في دمشق بلفافته، وسعاله المعهودين؛ ليصبح كاتباً لم يتخلَّ عن مهنته الأصلية، بل بقي حدّاداً وشرساً، ولكن في وطن من الفخار، لم يترك فيه شيئاً قائماً إلا وحطمه، ولم يقف في وجهه شيء، سوى القبور والسجون؛ لأنها بحماية جيدة”.

وفي  الكتاب القيم الذي أصدره عيسى الماغوط شقيقه الأصغر، في طبعة جديدة مؤخراً بعنوان (رسائل الخوف والجوع في حياة محمد الماغوط) ذكر أن “زكريا تامر كان يزور بيتنا باستمرار، والذي استأجرناه  في عام ١٩٦٣؛ من أجل إيواء أخي محمد في حي العماره بدمشق، وكان زكريا وقتها بحاجه إلى إيواء، وكان البيت عبارة عن غرفة مع الجيران.. في تلك الأيام قال زكريا للقطة التي اقتربت منه… وهو يتناول صحن الفاصولياء… وقدّم لها من صحنه:  “لا تجوعي مثلنا يا بلهاء…”.

“النمور في اليوم العاشر” أهمّ قصص زكريا تامر، وهي أشهرها بلا شك، هي قصة الطاغية والشعب، الطاغية يروّض الشعب عن طريق الجوع، يجعله ينهق كالحمار، ويأكل الحشائش؛ ليبقى على قيد الحياة.

نعرف جميعاً قصة هذا النمر، التي تقوم في مجملها  على محاولة ترويض نمر، خلال عشرة أيام، ويسعى المروِّض (رمز السلطة) إلى أن يجعل هذا النمر (رمز الشعوب)  مطيعاً، وذلك من خلال تجويعه، ومنع الطعام عنه، وقد أثمر الجوع عمّا كان يرغب به، إذ كان هذا المروِّض يطلب من النمر في البداية طلبات صغيرة؛ حتى يطعمه، وكان النمر ينفّذ طلباته، بعد أن رأى أنّ هذه الطلبات بسيطة، لكنها في الحقيقة كانت تهدم كرامته وعنفوانه، وتمهد لتنفيذ طلبات أكثر وأكبر، حتى وصل به الأمر إلى أن قلّد صوت الحمار، في دلالة  سياسية واضحة، تدل على أن الكاتب يحاول أن يصف مراحل ترويض الشعوب، والإمساك بهم، وتوجيههم من خلال حرمانهم من الطعام، ممّا يؤدي إلى عنف نفسي، لإهدار كرامة النمر وعنفوانه اللذين كانا يمنعان النمر من العمل في السيرك، لكن بعد أن استطاع المروِّض أن يهدم كرامته، ويربط أفعاله بمقابل، وهو الطعام، أصبح نمراً من ورق على حدِّ تعبيره، فلم يعد يملك من أمره شيئاً.

 ما حدث بدءاً من اليوم الثاني، عندما اعترف النمر الشرس المتعجرف، إثر تجويع يوم واحد: “أنا جائع”، فعرف المروّض اللئيم أنها بداية الانهيار، وأن النمر، القادم للتو من الغابات، وقعَ بالفخ، بمجرد اعترافه،

هكذا تتالت انهيارات النمر، من حيوان مزهو بحريته وقوته، إلى قط  في قفص، يموء من الجوع  باحثاً عن لقمة العيش  في سيرك على شكل دولة.

هذه المسيرة التي قصّها زكريا تامر بتكثيف وبراعة، كيف تحوّل النمر إلى نمر من ورق،  يستجيب لمروضه، ويأكل ما يُرمَى له؛  ليُسكت جوعه.

ليس هناك اليوم أكثر وضوحاً من إرادة النمور، بعد يومهم العاشر، إذا أرادوا أن يعيشوا أحراراً  وبكرامة، وليس ثمّة شكّ أنّ القدر سوف  يستجيب لطموحها،  ويحقق لها غاياتها.

أمّا ما تبقّى من النمور الذين استطاع النظام ترويضهم، وجعلهم يموؤون، ويأكلون الحشائش، وما يُرمَى لهم من موائد اللئام، هؤلاء لا يحبون الحياة الكريمة، ويعيشون  حياتهم متعثرين بين الحفر، ولا يقوون على النهوض.

____________________________________________

من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى