أرشيف المجلة الشهرية

آل الأتاسي وأدوارهم السياسية منذ العهد العثماني حتى العصر الحديث (3 من 3)

د. باسل الأتاسي – العربي القديم

في القسم الثالث والأخير من هذا الملف، يتناول الباحث الدكتور باسل الأتاسي سير ثلة من رجال آل الأتاسي ممن كان لهم نشاط سياسي بارز، سواء في المجالس البرلمانية أو الوزارات أو تأسيس الأحزاب أو رئاسة الدولة… وكيف أودت هذه الممارسة السياسية ببعضهم إلى السجون لسنوات طالت هنا وقصرت هناك. فيروي تفاصيل حكم الإعدام الذي صدر على النائب والوزير عدنان الأتاسي نجل هاشم بك الأتاسي، وسنوات السجن الطويلة التي عاشها د.نور الدين الأتاسي والمفاوضات التي أجراها معه محمد الخولي في سجنه، في ذروة أزمة نظام حافظ الأسد مع الإخوان المسلمين (العربي القديم)

اقرأ أيضاً:

آل الأتاسي وأدوارهم السياسية منذ العهد العثماني حتى العصر الحديث (1 من 3)

آل الأتاسي وأدوارهم السياسية منذ العهد العثماني حتى العصر الحديث (2 من 3)

فيضي بك الأتاسي

وإن كان هاشم بك الأتاسي أشهر الأتاسيين الذين خاضوا غمار السياسة، فإن أي بحث عن التاريخ السياسي لا يمكن أن يكتمل بدون الحديث عن ابن أخيه السيد فيضي بك الأتاسي، الذي كان أحد دهاة السياسة في عصره واليد اليمنى لعمه الرئيس الجليل. ولد الأتاسي في الكرك 1898، لما كان والده الشيخ طاهر الأتاسي قاضيها الشرعي، وتنقل مع والده في أنحاء الدولة العثمانية، بحسب المناصب القضائية التي كانت تسند إليه. ثم أرسله والده إلى مدرسة (جَلَطة سراي) في إسطنبول، فالتحق بالقسم الفرنسي، وكان يؤم تلك المدرسة آنذاك أولاد الأعيان والحكام في الدولة العثمانية لرقي العلوم ومدرسيها فيها. أكمل الأتاسي دراسته الثانوية في مدرسة الإباء البيض في القدس، وبعدها سافر إلى جنيف ليصبح طالب حقوق في جامعتها، ولم يتجاوز عمره السادسة عشرة، وسرعان ما نشبت الحرب العالمية الأولى فاستدعاه والده إلى بلاد الشام، وهناك أكمل دراسته في معهد الحقوق بدمشق فنال إجازته.  وبرزت مواهبه السياسية مبكراً، فانتخب في تشرين ثاني (نوفمبر) عام 1923م نائباً عن حمص في المجلس النيابي لدويلة دمشق أثناء قيام الاتحاد، ولم يكن قد تعدى الخامسة والعشرين من عمره بعد، ومع ذلك سجلت لنا جريدة العاصمة صولات له وجولات في المجلس، تنم كلها عن حس وطني، خاصة لما قام خطيباً في المجلس النيابي كاشفاً عوار مخطط فرنسي، أشاع بين الدويلات السورية أن أخواتها تحبذن الانفصال، ثم عين متصرفاً للواء حماة في حزيران سنة 1925م، فكان ثالث أتاسي يتولى هذا المنصب بعد كل من عمه هاشم بك الأتاسي الذي كان متصرفها في زمن الدولة العثمانية، ووصفي بك الأتاسي الذي تولاه أثناء العهد الفيصلي.  ولكن دعمه لثورة حماة سنة 1926، أثارت حنق الفرنسيين عليه فصدر أمر بعزله والقبض عليه، وتوارى الأتاسي عن الأنظار بمساعدة نورس الكيلاني الذي كان متصرف حماة قبله، وظل كذلك حتى هدأت عليه النفوس، فعين رئيساً لكتاب المجلس التأسيسي الذي ترأسه عم المترجم، فخامة الرئيس هاشم بك الأتاسي، عام 1928،  ثم أسندت إلى الأتاسي  رئاسة مجلس بلدية حمص مدة غير يسيرة من 20 تموز عام 1932، حتى استقال منها طوعاً عام 1946، بالرغم من ارتفاع الأصوات المطالبة ببقائه على رأسها.  وعاد الأتاسي إلى الحياة النيابية فانتخب نائباً عن مدينة حمص في المجلس النيابي مرات عديدة، فمثل أهلها في انتخابات مجالس السنوات 1947 و1949 و1954 و1961، وبذلك كان فيضي بك رابع النواب الأتاسيين في التاريخ السوري، وخامس من دخل منهم مجلساً تمثيلياً، (وقد سبقه جده خالد الأتاسي النائب في مجلس المبعوثان سنة 1877، ووصفي بك الأتاسي النائب في مجلس المبعوثان سنة 1914-1918، ثم في المؤتمر السوري سنة 1919، وهاشم بك الأتاسي النائب في المؤتمر السوري سنة 1919، ثم والده طاهر أفندي الأتاسي ممثل حمص في مجلس الاتحاد سنة 1922)، وكثيراً ما شارك أقاربه من آل الأتاسي في مقاعد المجلس.  ولما قام مجلس عام 1949 التأسيسي بوضع الدستور الجديد، كان الأتاسي أحد المشتركين في ذلك الحدث، ثم انقلب ذلك المجلس التأسيسي مجلساً نيابياً.  وكان الأتاسي من الذين أسسوا حزب الشعب الشهير مع ابن عمه الدكتور عدنان ابن هاشم الأتاسي، ورشدي الكيخيا، والدكتور ناظم القدسي ليصبح الحزب المعارض للحزب الوطني الذي أسسه شكري القوتلي إثر تفكك الكتلة الوطنية بعد نيل البلاد لاستقلالها.

وحفل سجل الأتاسي كذلك بالعمل الوزاري، فقد كلف بوزارات كثيرة في تاريخ حياته السياسي، بلغ عددها ست عشرة وزارة أنيطت به في عشر حكومات، هي وزارات المعارف، والعدل، والشؤون الاجتماعية، والصحة، والاقتصاد الوطني، والدفاع، والداخلية، والخارجية، منها ما عمّر أياماً، ومنها أشهرا، ومنها أكثر من ذلك، وبعضها استنكف عن حملها، وقد قل أن تمتع غيره بحقائب وزارية بهذا التنوع والكثرة، وكنت أسمع من جدتي لمياء-ابنته- أن وزارة الخارجية كانت أحبهم إليه.  كان أول عهده بالعمل الوزاري لما تولى وزارة المعارف في 20 أيلول (سبتمبر) 1941، حتى 18 نيسان 1942 في حكومة حسن الحكيم في عهد الرئيس الشيخ تاج الدين الحسني، ثم عين وزيراً للعدل والمعارف والشؤون الاجتماعية في 25 آذار (مارس) إلى 19 آب (أغسطس) عام 1943 في حكومة السيد عطا الأيوبي، والذي ترأس الدولة بالإضافة إلى المجلس الوزاري، عرفت هذه الوزارة بالوزارة الرباعية؛ لأنها تكونت من أربعة وزراء فقط: عطا بك الأيوبي رئيساً للدولة والحكومة ووزيراً للداخلية وللدفاع في آن واحد، الأمير مصطفى الشهابي الذي كلف بوزارات المالية والاقتصاد والإعاشة والتموين، فيضي بك الأتاسي الذي حمل حقائب وزارة العدلية والمعارف والشؤون الاجتماعية، ونعيم الأنطاكي وزيراً للخارجية والأشغال العامة، وأشرفت هذه الوزارة على انتخاب مجلس نيابي جديد، أسفر عن انتخابات رئاسية فاز بها شكري القوتلي، وعندها استقالت الحكومة برمتها، لتمهد الطريق لحكومة جديدة.  ثم أسندت إليه وزارات المعارف والصحة والشؤون الاجتماعية في 15 نيسان 1949 في حكومة حسني الزعيم، إلا أنه استنكف عن ممارسة الوظيفة، ثم اختير وزيراً للاقتصاد الوطني في 15 آب (أغسطس) 1949 في حكومة عمه الرئيس هاشم بك الأتاسي الانتقالية، والتي تشكلت إثر انقلاب الحناوي على الزعيم، إلا أنه كلف في ما بعد بوزارة المعارف في نفس الحكومة بعد استقالة وزير المعارف السابق فيها ميشيل عفلق في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1949 (28 محرم 1369ه)، بينما أعطيت وزارة الاقتصاد الوطني لخالد العظم وزير المالية، واستمرت هذه الحكومة حتى 14 كانون الأول (ديسمبر) 1949، ثم عين الأتاسي وزيراً للدفاع والاقتصاد الوطني في 24 كانون الأول (ديسمبر) 1949 في حكومة السيد ناظم القدسي في عهد الرئيس هاشم الأتاسي التي استقالت بعد يومين من قيامها، ثم وزيراً للعدل في 27 كانون الأول (ديسمبر) من نفس العام في حكومة خالد العظم، ثم سمي وزيراً للداخلية في 23 آذار 1951 في حكومة القدسي، إلا أن الوزارة فشلت في أن تلتئم، ثم للخارجية في 9 آب 1951 في حكومة حسن الحكيم، ثم وزيراً للخارجية في غرة آذار(مارس) حتى 19 حزيران 1954 في حكومة صبري العسلي في رئاسة هاشم الأتاسي، وأخيراً عُين وزيراً للخارجية في 29 تشرين الأول (اكتوبر) 1954، حتى 6 شباط (فبراير) 1955 في حكومة فارس الخوري.

كان للأتاسي صولة وجولة في المجلس الوزاري، يشهد له معاصروه بقوة أسلوبه وتميزه، فكان يلقي خطباً مفوهة أمام الوزراء والنواب، ويدلي بآرائه للصحف، فيؤثر في السياسة ويضفي عليها طابعه، وله في ذلك مفارقات ومواقف، يذكرها المؤرخون والمعاصرون، ومن ذلك كتاب استقالته الشهير الذي حرره في 6 شعبان عام 1369ه (23 مايو (أيار) 1950م) من وزارة خالد العظم لما كان الأتاسي وزير العدل، لما تعاظم استفراد العظم بالسياسة لنفسه من غير مشاركة باقي وزرائه فيها، مع كثرة سفره وترحاله دون أسباب موجبة، وفي ذلك يقول الدكتور عبداللطيف اليونس، نائب صافيتا في المجلس النيابي وأمين سره، في مذكراته المطبوعة: “وبينما كان خالد العظم في القاهرة أرسل له فيضي الأتاسي برقياً استقالته، وقد جاء فيها: (أتقدم إليكم بكتاب استقالتي ولو في غيابكم؛ لأني لا أعرف متى تنتهي الروحات والغدوات والدُلّج، وركوب متون الأجواء واللّجج!)، ولفيضي الأتاسي أسلوب فريد بالتعابير والألفاظ، يتميز به على سواه، وقد كان يتعمده للإثارة والتّندر”، ونقل نص كتاب الاستقالة هذا كاملاً عميد الصحافيين المرحوم نصوح بابيل في كتابه (صحافة وسياسة) واصفاً إياه بأنه “قطعة من الأدب السياسي الرفيع”. ومن ذلك أيضاً اختلافه، عندما كان وزيراً للخارجية، مع رئيس الوزراء، حسن الحكيم، لما أبدى الأخير موافقته على إحداث قيادة حليفة مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فقال له الأتاسي: “لكل امرئ من اسمه نصيب إلا أنت، فلا أنت بالحسن ولا بالحكيم!”  وصرح بذلك للصحف، وإن دل هذا على شيء، إنما يدل على جرأته السياسية والأدبية، وقدرته اللغوية التي طوّعها لإبداء آرائه.

بالإضافة إلى تولي الأتاسي هذه الوزارات المختلفة، فإنه سُمّي رئيساً للوزراء عام 1949، بعد الانقلاب العسكري الأول الذي قاده حسني الزعيم في 30 آذار على الرئيس القوتلي.  ومن أجل أن يعطي الزعيم انقلابه شيئاً من الشرعية ويستقطب حزب الشعب، أصدر مرسوماً في 14 نيسان 1949، بتولية فيضي بك الأتاسي رئاسة مجلس وزاري جديد، واقعاً اختياره على وجه مدني معروف من أسرة سياسية شهيرة، له خبرة قديمة في العمل السياسي، وباع طويل في الإدارة والمجالس النيابية والوزارات.  تفاجأ الأتاسي بهذا التكليف، إلا أنه في بادئ الأمر قَبِل بالمهمة دفعاً للحرج عن البلاد فلا تبقى بأيدي العسكريين وحدهم يتحكمون بها، إلا أن تشكيل هذه الوزارة أثبت أنه مهمة غير اعتيادية، فمن جهة تخوفت الأحزاب السياسية من العمل مع صاحب الانقلاب الأول من نوعه في تاريخ سورية، ومن جانب أراد حسني الزعيم من الأتاسي أن يترك له الاستئثار بوزارات الدفاع والداخلية والخارجية. حاول فيضي بك أن يثني الزعيم عن تسلم المناصب في الوزارة، خاصة وزارة الدفاع، واشترط عليه أموراً -ليحتويه- لم يقبل بها الزعيم، وفي اليوم التالي أصدر الأخير قراراً بتوليه رئاسة الحكومة بنفسه، مفاجئاً الأتاسي للمرة الثانية، وأضاف إليها وزارتي الداخلية والدفاع، وأعطى الأتاسي وزارات المعارف والصحة والشؤون الاجتماعية، ولكن الأتاسي لم يباشر عمله، بل قدم استقالته بعد يومين، في 18 نيسان، وقد رأى أن المناورة السياسية مع الزعيم أضحت مستحيلة، وأنه يرنو للاستفراد بالحكم والابتعاد عن خط الديمقراطية.  وما لبث الزعيم قليلاً، حتى اعتقل الأتاسي في الشهر التالي، ومعه ناظم القدسي، ورشدي الكيخيا، وميشيل عفلق عدة أيام، ثم أفرج عنهم، وقد زار الأتاسي السجن مرات، وبعد انقلاب الثامن من آذار سنة 1963 طاله قانون العزل المدني، فاعتزل السياسة تماماً حتى توفي سنة 1982.

حلمي ومكرم الأتاسي

ومن السياسيين المعروفين في الأسرة الأخوة حلمي ومكرم الأتاسي، وهما أولاد أخي الرئيس الجليل هاشم بك الأتاسي، وكلاهما من خريجي معهد الحقوق بدمشق. أما السيد مكرم الأتاسي فانتخبه أهالي حمص نائباً في المجلس النيابي في العام 1936، خلفاً لعمه هاشم بك الأتاسي الذي انتخب رئيساً للجمهورية تاركاً وراءه مقعداً نيابياً شاغراً، فكان بذلك سادس النواب الأتاسيين، وانتخب الأتاسي عضواً في اللجنة العدلية ولجنة الدستور في 20 تشرين الأول (نوفمبر) عام 1937، وكان الأتاسي في هذا المجلس من الذين تقدموا بمشروع سن تشريع قانوني، يصون حقوق العامل السوري من سيطرة أصحاب رؤوس الأموال، ومن تحكم الأزمات العالمية الطارئة، في جلسة أول أيار (مايو) 1937.  وأعيد انتخابه نائباً عن حمص في تشرين الأول (اكتوبر) عام 1946، خلفاً لأخيه السيد حلمي الأتاسي الذي شغر مقعده في البرلمان السوري بوفاته ذلك العام بحادث الطائرة، ثم أصبح محافظ الجزيرة عام 1950، ثم محافظاً لدير الزور. وتولى رئاسة بلدية حمص في تشرين الثاني عام 1949، ثم آلت إليه رئاسة مكتب كهرباء حمص وحماة.  وفي عام 1956م أصبح مديراً عاماً في وزارة الزراعة.  وقد كان الأتاسي منتمياً لحزب عصبة العمل القومي، وصار أمينها العام عام 1936، كما ترأس حزب الجبهة الوطنية (الشهبندريين) بحمص، ثم انتمى لحزب الشعب مع أبناء عمه كالسيدين فيضي وعدنان، ولما أراد الشيشكلي كسب تأييد الأحزاب والشعب، رأى أن يجعل في وزارته بعض التمثيل للأحزاب السياسية، فعين الأتاسي وزيراً للزراعة بدلاً من الهنيدي في أواخر كانون الثاني (يناير) عام 1954، إلا أن حكومة الشيشكلي لم تعمر كثيراً بعد هذا، إذ أنه سقط في الشهر التالي.

أما السيد حلمي الأتاسي، فانتخب نائباً عن مدينة حمص عام 1943م، فكان سابع من دخله من آل الاتاسي، وانتخب فيه عضواً في اللجنة القضائية ولجنة الدستور.  واستمر نائباً في المجلس حتى عام 1946، لما توفي فجأة ذلك العام، فانتخب الأهالي أخاه مكرماً نائباً عنهم بدلاً عنه.

د. عدنان الأتاسي

ومن الساسة المعروفين الدكتور عدنان الأتاسي نجل الرئيس الجليل هاشم بك الأتاسي، الذي ولد في السلط سنة 1905، لما كان والده قائم مقامها في عهد الدولة العثمانية.  تخرج الأتاسي من كلية الحقوق بدمشق سنة 1925، ثم حاز شهادة الدكتوراه في الحقوق سنة 1929 من جامعة جنيف، وأثناء داسته في أوروبا أسس مع صديقه ورفيق دربه الدكتور ناظم القدسي جمعية الطلاب العرب التي كانت تحت أعين الشرطة السويسرية، بسبب نشاطها التوعوي ضد الانتداب الفرنسي.  لما عاد الأتاسي إلى سورية استهل حياته العملية كمحامٍ لامع منذ عام 1930، ثم دخل ميدان العمل الحكومي فأصبح سكرتيراً في وزارة الخارجية، ثم عين نائب قنصل في إسطنبول عام 1938، ثم قنصل سورية في القاهرة عام 1939، ثم وزيراً مفوضاً في باريس في كانون الثاني عام 1945، وكان بذلك أول ممثل لبلاده في فرنسا على مستوى رفيع، وكلفه ذلك العام الرئيس شكري القوتلي بإجراء المباحثات مع الحكومة الفرنسية، لضمان استقلال سورية الكامل في جميع قطاعاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وحل المشاكل بين الدولتين التي نتجت عند انتهاء الانتداب الفرنسي على سورية، وكان الأتاسي آنذاك على علاقة وثيقة مع مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني في منفاه بباريس، ثم عين وزيراً مفوضاً في المملكة البلجيكية ببروكسل عام 1946، فظل فيها حتى آذار، وأعيد انتداب الأتاسي وزيراً مفوضاً لسورية في باريس في أوائل عام 1948، وعين في الوقت ذاته ممثلاً لسورية في كل من سويسرا، وإسبانيا، وبلجيكا، وهولندا، ولكسومبرغ، وإيطاليا، وظل في منصبه هذا سفيراً لسورية في نصف القارة الأوروبية حتى عام 1952، عندما أراد العودة إلى بلاده ليشارك في النضال الذي حمله الوطنيون على الدكتاتور الشيشكلي.

كان الأتاسي من الذين أسسوا حزب عصبة العمل القومي في آب (أغسطس) عام 1933 في مؤتمر قرنايل.  وسرعان ما انتشرت شعبيته في حمص، فانتخبه أهلها نائباً عنهم مراراً في المجالس النيابية، كان أولها في آب عام 194٣، (وكان أصغر الأعضاء سناً وأمين سر الدورة الأولى للمجلس)، ثم في آب عام 1947، ثم في أيلول عام 1954، وهكذا كان سادس الأتاسيين دخولاً للبرلمان بعد والده هاشم بك، ووصفي بك، وعمه طاهر أفندي، وابني عميه فيضي بك، ومكرم الأتاسي، كما كان جده خالد أفندي نائباً في مجلس المبعوثان العثماني.  وكان ذا صولة وجولة في المجلس، له زعامة وقوة سياسية، انتمى للكتلة النيابية الدستورية المعارضة للحزب الوطني في المجلس عام 1947، مع رفاق نضاله ناظم القدسي، ورشدي الكيخيا، قبل أن يشاركهما عام 1948 في تأسيس حزب الشعب، حزب أسرته، ليغدو أحد أركانه، ومعهم ابن عمه فيضي بك الأتاسي.  بالإضافة إلى أنه انتخب في برلمان عام 1944 عضواً في لجنة القوانين المالية، ثم رئيساً لها، كما انتخب رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب عام 1943، ثم في برلمان عام 1947، وانتخب أيضاً نائباً لرئيس الشعبة السورية للاتحاد البرلماني الدولي.  اختير الأتاسي رئيساً للوفد السوري الموفد إلى مؤتمر لوزان الشهير، الذي عقدته لجنة التوفيق الدولية يوم الثلاثاء 26 نيسان عام 1949، لإجراء المفاوضات مع الكيان الصهيوني. وتولى إلى جانب أعماله النيابية والدبلوماسية وزارتي العدل والأشغال العامة في 27 كانون الأول عام 1946 في وزارة جميل مردم بك حتى 2 تشرين الأول (اكتوبر) عام 1947، وهي أول الحكومات بعد الجلاء، فكان ثالث الوزراء الأتاسيين، بعد أبيه هاشم وابن عمه فيضي.  وفي سنة 1956 دبر له أعداء الحرية والمتسلطون في الجيش تهمة الخيانة العظمى، وأقيمت له محكمة عسكرية، مع أنه من المدنيين ووجهت إليه تهمة التخطيط لإشراك سوريا بحلف “بغداد” الذي هندسه رئيس وزراء العراق، نوري السعيد، وصدر الحكم في 26 شباط (فبراير) عام 1957 بالإعدام، وفي 7 آذار1957 خفف حكم الإعدام من قبل وزير الدفاع خالد بك العظم إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وبالرغم من محاولة الرئيس القوتلي في مارس عام 1958 الحصول على عفو عام عن الدكتور عدنان الأتاسي في إحدى جلسات المجلسين الوزاري والنيابي، التي كانت تعقد من أجل الوحدة مع مصر، طالباً هذا العفو كهدية مقابل تنازله عن رئاسة الجمهورية، ولكنه قوبل بالرفض من الضباط المتحكمين، وعلى رأسهم المدعو عفيف البزري.  وفي أيلول (سبتمبر) عام 1960، أصدر جمال عبدالناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة حينها، عفواً عن الأتاسي، فأفرج عنه، واعتزل السياسة، فانتقل إلى منفاه في مصر، ومنه إلى بيروت في الثامن عشر من أيلول عام 1961، فمنها إلى تركية، فلبث فيها بعض الوقت، ثم عاد إلى لبنان عام 1964، ومكث فيه ما تبقى من حياته، محروماً من دخول الوطن إلى وفاته سنة 1969، ونقل جثمانه إلى حمص، حيث دفن بالقرب من والده.

الفريق لؤي الأتاسي

ومن الساسة أيضاً الفريق لؤي الأتاسي رئيس الدولة السورية، الذي تخرج من الكلية العسكرية عام 1948، وشارك في حرب فلسطين عام 1948 كقائد فصيل في معركة مشمار هايدن (كعوش) في 10 حزيران عام 1948.  وبعد الحرب عين الأتاسي مرافقاً عسكرياً لرئيس الجمهورية آنذاك ابن عم والده الرئيس الجليل السيد محمد هاشم بك الأتاسي رحمه الله عام 1951.  تابع الأتاسي بعدها دراساته العليا في كلية أركان الحرب العربية، وبدأ نجمه يصعد فتولى مهام عسكرية، مثل بها بلاده، وترقى في الرتب العسكرية، فعين ملحقاً عسكرياً مساعداً في السفارة السورية بجمهورية مصر العربية قبل الوحدة، فمسؤولاً في إحدى الوحدات العسكرية بالإسكندرية أثناء الوحدة.  وأرسل إلى روسيا، فاتبع دورة دراسات عليا، وعين في مناصب عسكرية بسفارة الجمهورية العربية المتحدة بموسكو، إلى أن عاد إلى بلاده، فعين قائداً للواء السابع عام 1960، ثم في تشرين الأول عام 1961، عين مديراً لمدرسة المشاة . كان الأتاسي من أنصار الوحدة العربية بين سوريا ومصر، إلا أن الوحدة كان مصيرها الفشل، عندما قام عبد الكريم النحلاوي، وحيدر الكزبري، وموفق عصاصة بانقلاب عسكري في 28 أيلول عام 1961 فاصلين الإقليمين.  ولما تمرد العقيد جاسم علوان والمقدم محمد عمران، وحاول هؤلاء القيام بانقلاب عسكري في حلب لصالح الوحدويين الناصريين، فاستولوا على مبنى الإذاعة، وطفقوا يطلقون شعارات الوحدة باسم الجمهورية العربية المتحدة، عندها طلبت الرئاسة العسكرية من الأتاسي الذي كان قائداً للمنطقة الشرقية في دير الزور التفاوض مع المتمردين، باعتباره من مناصري الوحدة المقربين، فذهب إلى حلب لإخماد الشعلة، إلا أن هؤلاء لم يقبلوا بالتنازل، فأرسلت القيادة العامة طائراتها، وقصفت معاقلهم في مبنى الإذاعة وغيره، وأتبعت ذلك بالمدرعات التي أحاطت بقواعدهم، فاضطروا للتسليم، وتسلم الأتاسي قيادة منطقة حلب، ولكن بسبب ميوله نحو الوحدة –وبالرغم من أنه ظل على حياد من الصراع القائم بين الأطراف المختلفة في الجيش-سرعان ما أبعد عن البلاد كملحق عسكري للسفارة السورية في واشنطن ذلك العام لمدة أشهر، ثم استدعي في أوائل العام التالي للإدلاء بشهادته في محاكمة ضباط حلب، فلما لم تتلاءم شهادته ورغبات صاحبي القرار في الجيش، زج به في سجن المزة، وكان برتبة عميد ركن، ليفرج عنه صباح الثامن من آذار عام 1963، وينقل من الاعتقال مباشرة إلى رئاسة الدولة، وعضوية المجلس الوطني لقيادة الثورة، ويعين قائداً عاماً للجيش ويرفع لرتبة فريق، بقرارات متتالية، مع أنه لم يكن منتمياً لأي حزب.

 سافر الأتاسي إلى مصر، واجتمع بجمال عبدالناصر مرات، محاولاً إعادة الوحدة،  ولما زاد الشقاق بين الناصريين والبعثيين، ووصل لحد القطيعة السياسية بين القيادتين في دمشق والقاهرة، ترأس الأتاسي وفداً، غادر دمشق صباح 18 تموز (يوليو) إلى القاهرة لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر، وفي أثناء تواجده في القاهرة، نظم الناصريون بقيادة العقيد جاسم علوان محاولة انقلاب في الساعة الحادية عشرة، فجرت معارك بين الطرفين، وباءت المحاولة بالفشل، وأمسكت القيادة العسكرية بعد السيطرة على الوضع بعدد من رموز الناصريين، وأعدمت عشرين شخصاً منهم.  ولما عاد الأتاسي إلى دمشق مساء ذلك اليوم، واطلع على الوضع قرر الاستقالة؛ لأنه لم يتحمل وزر ما جرى، وهو على رأس السلطة، ولأن أمر الوحدة بدا متعذراً، بسبب التطورات، فرأى أن مبرر وجوده على رأس الدولة قد زال، وحاول آنذاك نور الدين الأتاسي، وأمين الحافظ جاهدين أن يرجعوه عن قراره مترددين على مكتبه لعدة أيام، ولكنه أصر على الاستقالة، وعاد إلى حمص، فقبلت استقالته أخيراً في 27 تموز 1963، عندها اختير أمين الحافظ محل الأتاسي في رئاسة المجلس الوطني لقيادة الثورة ورئاسة الدولة. واعتزل الأتاسي الحياة السياسية والعسكرية حتى وفاته سنة 2003، فأقيمت له جنازة رسمية باعتباره أحد رؤساء الدولة.

د. نور الدين الأتاسي

وقد تولى رئاسة الجمهورية رجل ثالث من آل الأتاسي، وهو الدكتور نور الدين الأتاسي، الذي كان له سجل نضالي حافل في أثناء دراسته للطب ضد الشيشكلي، فعانى الاعتقال مرات، كما أنه شارك في صفوف الثورة الجزائرية ضد فرنسا سنة 1957، مع عدد من أصدقائه وأقربائه من الأطباء.  وسرعان ما سطع نجمه بعد ثورة الثامن من آذار 1963، ففاز بعضوية المجلس الوطني لقيادة الثورة في أيلول عام 1963.  وفي 14 أيار (مايو) عام 1964، اختير أحد خمسة أعضاء في المجلس الرئاسي برئاسة أمين الحافظ، وبقي فيه حتى كانون الأول (ديسمبر) عام 1965، كما انتخب نائباً لرئيسه في أيلول (سبتمبر) عام 1965.  وفي 4 آب  عام 1963، عين نور الدين الأتاسي وزيراً للداخلية في وزارة صلاح الدين البيطار الثالثة بعد ثورة 8 آذار، والتي استمرت حتى 12 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1963.  وأعيد تعيينه وزيراً للداخلية في الوزارة التي تلتها، واستمرت حتى 14 أيار (مايو) من عام 1964. ولما تشكلت وزارة الحافظ الثانية في 4 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1964، أنيط بالأتاسي منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، وظل كذلك حتى 23 أيلول (سبتمبر) عام 1965.  ويجدر بالذكر أن الأتاسي عين أيضاً نائباً للحاكم العرفي، بالإضافة إلى عمله الوزاري بين عامي 1964-1965.

في 23 آب 1965 صدر القانون رقم واحد الذي بموجبه تم تشكيل مجلس وطني للثورة موسع، اتخذ شكل المجلس التأسيسي (برلمان)، كلف بوضع دستور جديد، وحدد أعضاؤه بالتعيين –وكان عددهم 95 عضواً- شملوا أعضاء مجلس قيادة الثورة، والأعضاء السوريين في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأعضاء القيادة القطرية لحزب البعث، واتحاد عام نقابات العمال والفلاحين والمعلمين، وممثلين عن نقابات الأطباء والمحامين والمهندسين والصيادلة، والهيئات التدريسية في الجامعات، وممثلين عن القطاع العسكري والقطاع النسائي. اجتمع المجلس لأول مرة في أول أيلول (سبتمبر) عام 1965، وانتخب لرئاسته منصور بن سلطان الأطرش، وباجتماع المجلس الوطني في أيلول انتهت مهام المجلس الوطني لقيادة الثورة، الذي حل نفسه، فأوكلت مهامه التشريعية للمجلس الوطني ومهامه التنفيذية للحكومة، ولمجلس رئاسي جديد (انظر أدناه)، واستمر هذا المجلس الوطني حتى 14 شباط (فبراير) عام 1966، حيث أُعيد تعيين الأعضاء لمجلس جديد. وقد عين الأتاسي عضواً في المجلس الوطني (1/9/1965-14/2/1966)، لكونه من أعضاء القيادة القطرية للبعث.

في 23 شباط (فبراير) عام 1966م أسندت رئاسة الدولة للأتاسي بعد انقلاب سليم الحاطوم، وصلاح جديد.  وفي 29 أيار (مايو) عام 1969 أعاد الأتاسي بنفسه تشكيل الوزارة الخامسة والأخيرة، عين فيها حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وكان الغرض منها الإشراف على انتخابات مجلس شعب خلال أربعة أشهر، وقد استمرت إلى حين وقوع انقلاب حافظ الأسد الثاني عليه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1970، فكانت ثاني وزارة يترأسها. وعلى إثر تفاقم أحداث أيلول الأسود، استقال الأتاسي من مناصبه الثلاثة: رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس الوزراء، وأمانة الحزب العامة في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1970، احتجاجاً على تدخل الجيش بالسياسية، فحاول حافظ الأسد أن يقنع الأتاسي بالبقاء في مناصبه، وأرسل له وفداً من كبار ضباط الجيش إلى منزله، ولكن الأتاسي رفض ذلك، ودعي إلى مؤتمر قومي عاشر استثنائي، فعقد بين 30 تشرين الأول-12 تشرين الثاني، وفيه بدا أن حافظ الأسد، ومصطفى طلاس قد أصبحا معزولين، فقد اتهما بالميل عن مبادئ الحزب، عرقلة قرارته، واتخاذهما خطة سير انهزامية، وحملهما مسؤولية هزيمة 1967، وقرر المؤتمر فصلهما عن مناصبهما العسكرية والحكومية ومن الحزب، فرد وزير الدفاع الأسد بانقلابه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1970، والذي سماه الحركة التصحيحية، عازلاً الأتاسي، ووضعه تحت الإقامة الجبرية مدة شهر، ثم أدخل سجن المزة وظل فيه مدة اثنين وعشرين عاماً حتى عام 1992.  وفي خلال مدة سجنه إثر الأزمة التي تعرض لها النظام مع الإخوان المسلمين عام 1980، أنزل الأتاسي من سجن المزة، ووضع قيد الإقامة الجبرية في حي القصور، وقامت السلطات بمفاوضته عن طريق الجنرال محمد الخولي رئيس المخابرات الجوية، ولكن الأتاسي رفض التراجع عن مواقفه، وطالب بالديمقراطية كحل لأزمة البلاد والتخلي عن فكرة الحزب القائد، وهذا ما كان يؤمن به في آخر حياته، فأعيد إلى سجنه، وظل فيه حتى قبيل وفاته بقليل.

وأختم بهذا دراستي مع وجود آخرين من آل الأتاسي تولوا مناصب عسكرية ودبلوماسية وسياسية، لعلي أمر على ذكرهم في المستقبل.

_________________________________________

ملف العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى