دلالات وقضايا | من بَلْبَلةِ الألسن في بابل إلى بلبلة التَّدوين والتَّأويل
مهنَّا بلال الرَّشيد
كان الصِّراع السِّياسيِّ على المجال الحيويِّ بين مصر الفرعونيَّة وبابل العراقيَّة محتمداً خلال النِّصف الثَّاني من الألفيَّة الثَّالثة قبل الميلاد، وظلَّ هذا الصِّراع محتدمًا خلال الألفيَّتين الثَّانية والأولى قبل الميلاد حتَّى قدوم الإسكندر بن فيليب المقدونيِّ إلى المشرق حوالي (333) قبل الميلاد، ويمكن تبسيط صورة هذا الصِّراع السِّياسيِّ بشكل من الأشكال؛ نرى فيه أنَّ قوَّة سرجون الأكديِّ وتمدُّدَ حفيده نارام سين في المشرق يقابله انكفاء فرعونيٌّ أو ضعف فرعونيٌّ ملحوظ، وفي الوقت نفسه عندما نجد أسرة فرعونيَّة قويَّة؛ كالأسرة الفرعونيَّة الثَّانية عشرة، الَّتي أسَّس حُكْمَها أمنمحات الأوَّل بين (1991-1802) قبل الميلاد، يقابله وجود ملوك بابليِّين ضعفاء، ولا يمكن تعميم هذه القاعدة بالمطلق؛ إذ لا يمكننا أن تجاهل تزامن ملكين: (فرعونيٍّ، وآخر بابليٍّ) يتصارعان على المجال الحيويِّ في الجزيرة العربيَّة وبلاد الشَّام؛ ممَّا يتيح المجال للقوى المجاورة في فارس والأناضول واليونان أن تُرتِّب أوراقها، وتأخذ دورها بالاستفادة من الصِّراع بين البابليِّين والفراعنة؛ فقد ازدهرت مملكة الحثِّيِّين القويَّة في كبادوكيا وسائر الأناضول حوالي (1800) قبل الميلاد، ثمَّ تغلَّب الملك الحثِّيِّ مارسيلوس الأوَّل على أسرة حمورابي في بابل، ثمَّ جرت معركة قادش في مرحلة تاريخيَّة لاحقة على ضفاف نهر العاصي بين الملك الفرعونيِّ رمسيس الثَّاني (1303-1213) قبل الميلاد والملك الحثِّيِّ موتالي الثَّاني (1295-1272) قبل الميلادـ، وانتهت هذه المعركة بتوقيع أقدم معاهدة سلام مدوَّنة بتاريخ (1258) قبل الميلاد، ووصلت إلينا هذه المعاهدة مكتوبة على ألواح طينيَّة متطابقة، عُثر عليها في أكثر من موقع أثريٍّ مثل عاصمة الحثِّيِّين بوغاز كوي وألواح تلِّ العمارنة وكتاباتها المسماريَّة في مصر.
وعلى العموم ما دام حديثنا عن البلبلة السِّياسيَّة -كما يبدو في عنوان هذا المقال- فقد كانت السِّياسة الفرعونيَّة مع أُمراء بلاد الشَّام وسوريا الدَّاخليَّة سياسة عِلمانيَّة ناجحة للغاية إن صحَّ التَّعبير، وقد أقام الفراعنة علاقات ودِّيَّة مع الأمراء الفينيقيِّين في أكثر من موقع في سوريا الدَّاخليَّة؛ مثل لبنان أو (رتنو العليا) وجُبيل (بيبلوس) وأوجاريت رأس شمرا، وتبادلوا معهم الهدايا، برغم اختلاف كلٍّ من دين الفينيقيِّين وآلهتهم ولغتهم عن دين الفراعنة وآلهتهم ولغتهم، وعلى العكس من ذلك استقطب الفراعنة طُلَّابًا من سوريا الدَّاخليَّة، وعلَّموهم اللُّغة والثَّقافة الفرعونيَّة، وخرَّجوهم من المدارس المصريَّة؛ لينشروا الثَّقافة الفرعونيَّة في سوريا الدَّاخليَّة، فمال الشَّعب السُّوريُّ وأمراء سوريا الدَّاخليَّة إلى الفراعنة على حساب الأكديِّين، الَّذين لم يتقبَّلوا استقلال إيبلا الدِّينيِّ واللُّغويِّ والسِّياسيِّ عن بابل وأكاد؛ فغزا سرجون الأكديُّ مملكة إيبلا، وأحرق حفيده القصر الملكيَّ فيها، لكنَّ خوف الفراعنة المصريِّين من ويلات الزَّواج السِّياسيِّ المستقبليَّة دفعهم إلى الزَّواج من شقيقاتهم؛ كيلا يظهر منافس سياسيٌّ لهم بسبب المصاهرة في المستقبل؛ وهذا ما تسبَّب بأمراض وراثيَّة على الأُسر الفرعونيَّة في المستقبل، وتسبَّب زواج الأقارب والأشقَّاء -من وجهة نظري- بانخفاض الجمال وقِصَر القامة كما يبدو ذلك في التَّماثيل والمومياوات الفرعونيَّة المحنَّطة، وكان بعض الفراعنة يتزوَّجون من أميرات بابليَّة وآشوريَّة وغيرها، ولم يُزوِّجوا أيَّ أميرة فرعونيَّة لأيِّ ملك من ملوك الدُّول المجاورة، وربَّما كان زواج إبراهيم -عليه السَّلام- من امرأة مصريَّة استثناء وحيداً خلَّدته رسائل تلِّ العمارنة، كما يبدو من رسالة الملك البابليِّ كادشمان إنليل الأوَّل (1374-1360) قبل الميلاد إلى فرعون مصر أمنحوتب الثَّالث (1388-1351) قبل الميلاد، وهو يطلب منه الزَّواج من أميرة فرعونيَّة؛ فجاوبه الفرعون المصريُّ بأنَّه لم يسبق للفراعنة أن زوَّجوا أميرة مصريَّة خارج البلاد، فاستعطفه كادشمان برسالة ثانية ألحَّ فيها على طلبه، ووعد الفرعون بألَّا يُخبر أحدًا بقصَّة هذا الزَّواج، وذكَّره بزواج أبراهام (إبراهيم) -عليه السَّلام- من أميرة مصريَّة؛ فردَّ الفرعون قائلاً: أبراهام كان نبيّاً، وطلبك مرفوض.
بلبَلة إبراهيم عليه السَّلام من بابل حتَّى مكَّة المكرَّمة:
تشير الكتابات الدِّينيَّة والتَّاريخيَّة إلى بلبلة الألسن أو تعدُّد لغات شعوب العالم وألسنتها بطريقة مفاجئة في بابل بعد طوفان نوح -عليه السَّلام- مباشرة أو بعد ذلك بمدَّة؛ أي في زمن محاولة النَّمرود إحراق إبراهيم عليه السَّلام، ويبدو لنا من الوقوف مع قصَّة بناء برج بابل والتَّأمُّل فيها أنَّ بُناة هذا البرج أرادوا الوصول إلى أعنان السَّماء للنَّجاة من الطُّوفان، أو ليرتقي النَّمرود من خلال هذا البرج إلى السَّماء وعلى أجنحة نسور أربعة -كما تروي كتب التَّاريخ- لينظر إلى إله إبراهيم عليه السَّلام، وإبراهيم -عليه السَّلام- هو الَّذي أحدث البلبلة (السِّياسيَّة واللُّغويَّة والدِّينيَّة)؛ وذلك بسبب تفوُّقه على النَّمرود بالحِجاج والعقل والمنطق والحجُّة والبرهان ودعوته الواضحة ديانة التَّوحيد أو الحنفيَّة الإبراهيميَّة ونَبْذِ عبادة الأصنام مثل: مردوخ وعشتار وتمُّوز وأَدَد وعشتار وغيرها؛ وانتصار إبراهيم -عليه السَّلام- على النَّمرود يعني -بشكل من الأشكال- تجريد النَّمرود وكُتَّاب قصره الملكيِّ من سلطاتهم السِّياسيَّة والدِّينيَّة والعسكريَّة واللُّغويَّة-التَّدوينيَّة؛ فالقائد في ذلك الزَّمن يملك هذه السُّلطات كلَّها مجتمعة، ويفرض على رعيَّته عبادة آلهته وآلهة آبائه في سائر بابل وأكاد وما جاورها، ولا يمكن لنمرود بابل أن يسمح لإبراهيم -عليه السَّلام- أو لأيِّ شخص سواه أن ينازعه على ملكه، أو يشاركه في أيِّ سلطة من سلطاته السِّياسيَّة والدِّينيَّة والعسكريَّة واللُّغويَّة-التَّدوينيَّة.
والرَّاجح لدينا بحسب مطالعتنا في المصادر الأجنبيَّة حول وثائق إيبلا أنَّ إبراهيم -عليه السَّلام- من أصول (أموريَّة-إيبلاويَّة)؛ وذلك لوجود الأدلَّة الفيلولوجيَّة في وثائق إيبلا واحتوائها على اسم إبراهيم ذاته وأبراهام وميكائيل وميخائيل وإسماعيل وعيسى وغيرها من الأسماء المدوَّنة في ألواح إيبلا قبل ولادة إبراهيم -عليه السَّلام- بأكثر من (400)؛ وهذا يدلُّ على أصول إسماعيل وإبراهيم -عليهما السَّلام- الإيبلاويَّة، وسُكَّان مملكة إيبلا الأموريِّون هم العرب ذاتهم، الَّذين أطلقت عليهم المصادر والحوليَّات الآشوريَّة اسم (Arbo) أو العرب؛ أي سُكَّان (الغرب) بالنِّسبة لبابل وآشور ونينوى؛ ومن هنا نستنتج أنَّ النَّمرود وسائر الأُسر العراقيَّة الحاكمة في بابل وغيرها لم تكن تسمح لأيٍّ من عوائل وأُسر وسُكَّان المدن الأخرى أن ينازعوهم على ملكِهم، إن كان من سُكَّان الغرب العَرب (Arbo) أو غيرهم؛ وهذا عندي أفضل تفسير لمعنى (البلبلة)، الَّتي تشير لدينا في لهجة (إيبلا وتلَّ مرديخ المحكيَّة في سراقب وإدلب) إلى اختلاق الفوضى؛ وهذا يعني -بالنِّسبة لنمرود بابل- اختلاق إبراهيم -عليه السَّلام- نوعاً من الفوضى الدِّينيَّة والسِّياسيَّة والتَّدوينيَّة-اللُّغويَّة حين دعا إلى الحنفيَّة الإبراهيميَّة، الَّتي تنصُّ على نبذ عبادة الأصنام وعبادة الله الواحد الأحد، وهذه الدَّعوة بلبلة كبرى؛ لأنَّها -لو نجحت- ستُجرِّد النَّمرود وكُتَّابه في القصر الملكيِّ من سلطاتهم الدِّينيَّة والعسكريَّة والسِّياسيَّة والتَّدوينيَّة، الَّتي يحكمون بها بابل وسائر بلاد الرَّافدين؛ ولهذا قرَّر النَّمرود -بحسب روايات المؤرِّخين- إحراق إبراهيم -عليه السَّلام- بعد عجزه عن الارتقاء إلى السَّماء من خلال برج بابل، الَّذي دمَّره الله مع بُنَاته، فقد قال الله سبحانه وتعالى عن تدمير برج بابل في سورة النَّحل: (قد مكر الَّذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرَّ عليهم السَّقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) [سورة النَّحل الآية: 26]، وحين فشل النَّمرود بالوصول إلى إله إبراهيم -عليه السَّلام- من خلال التَّحليق على أجنحة نسور أربعة -بحسب روايات المؤرِّخين- لم يبقَ أمامه إلَّا أن يحرق إبراهيم -عليه السَّلام- بالنَّار، الَّتي نجَّاه الله-سبحانه وتعالى-منها مجدَّدًا؛ حيث قال المولى عزَّ وجلَّ في سورة الأنبياء: (قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم. وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين) [سورة الأنبياء، الآيتان: 69-70].
يتشكَّل اسم بابل فيلولوجيًّا من تركيب مَزْجيٍّ من كلمتي: باب وإيل؛ أي باب الله؛ وهو المعنى الدَّقيق لاسم بابل من وجهة نظري، ويبدو لي أنَّ بلبة الألسن، الَّتي يتحدَّث عنها بعض المؤرِّخين في معنى كلٍّ من بابل وبرج بابل هي نوع من الفوضى السِّياسيَّة وزعزعة أمن النَّمرود واستقرار مملكته السِّياسيِّ والدِّينيِّ واللُّغويِّ-التَّدوينيّ، ولا يمكن أن تشير إلى تعدُّد لُغات شعوب سكَّان بابل والعالم المحيط بهم فجأة بعد انهيار برج بابل بين عشيَّة وضُحاها كما فهم من ذلك بعض المؤرِّخين، وبالاستناد إلى أحيائيَّة اللُّغة والمنطق الحيويِّ؛ أي بالاستناد إلى التَّطوُّر الطَّبيعيِّ والبعد الحيويِّ العصبيِّ والاجتماعيِّ لظهور أيِّ لغة واندثارها لا يمكن أن تتبلبل الألسن بطريقة مفاجئة بين عشيَّة وضحاها، ولا تستقيم هذه القصَّة مع المنطق التَّقليديِّ إلَّا إذا كانت إعجازاً إلهيًّا خصَّ الله -سبحانه وتعالى- به شعوب بابل وهذه المنطقة، وقسَّمهم بطريقة مفاجئة إلى شعوب وألسن لغاية أرادها عزَّ وجلَّ، وإن كانت القضيَّة قضيَّة إعجاز وخروج خارق عن المألوف فإنَّ هذه القصَّة تخرج بهذا الإعجاز عن حدود النِّقاش العلميِّ، ومع ذلك يحقُّ -من وجهة نظري- لأيِّ إنسان أن يفهم هذه القصَّة كخارقة أو معجزة بشرط ألَّا يمنعه هذا النَّوع من الإيمان بها -من جهة أولى- عن التَّأمُّل في معنى البلبلة والبحث عن أكثر من دلالة منطقيَّة فيها، وألَّا يقوده هذا الإيمان -من جهة ثانية- إلى موقف عدائيٍّ تجاه أيِّ بلبلة جديدة أو أيِّ فكرة تأويليَّة أو تنويريَّة جديدة حول معنى كلٍّ من بابل والبلبلة.
تدوين الكتاب المقدَّس
يُجمع نُقَّاد الكتاب المقدَّس على أنَّ عدداً كبيراً من المؤلِّفين والمحرِّرين والكُتَّاب قد كتبوا الكتاب المقدَّس بعهديه: (القديم والجديد) على مدار ألف سنة تقريباً، ولربَّما تلقَّى بعض أولئك المؤلِّفين والمحرِّرين بعض قصص الكتاب المقدَّس أو مزاميره أو أسفاره وحياً، ويرى أولئك النُّقَّاد أنَّ هذا الكتاب المقدَّس يمثِّل كلمة الله بالنَّسبة إلى معظم المؤمنين اليهود والمسيحيِّين برغم اشتمال العهد القديم لدى الرُّومان الكاثوليك على أسفار عدَّة من أسفار النُّسخة السَّبعينيَّة أو التَّرجمة السَّبعينيَّة للعهد القديم، وهي ترجمة يونانيَّة قديمة للأسفار العبريَّة، وكذلك تضيف الكنائس الأرثوذكسيَّة الشَّرقيَّة إلى العهد القديم أسفارًا قليلة أخرى، ومهما يكن فقد نجت لفائف الكتاب المقدَّس بعد حفظ بعضها على الجلود والرَّقائق في الكهوف والجبال على مدار (2000) سنة تقريباً، ونجا بعضها من الحرائق وألسنة اللَّهب؛ لذلك ظلَّت هذه القصص والأسفار والمزامير والتَّراتيل الدِّينيَّة تلهب عواطف كثير من المؤمنين بها في مشارق الأرض ومغاربها.
سنرجعُ قليلاً إلى أصول إبراهيم عليه السَّلام الأموريَّة، ونستدلُّ على ذلك بخمسة أدلَّة؛ أوَّلها: ما قاله فراس السَّوَّاح عن الأصل الإيبلاويِّ للكنعانيِّين والفينيقيِّين والآراميِّين، وثاني هذه الأدلَّة دليلٌ فيلولوجيٌّ فيه غير قليل من الحجِّيَّة والمصداقيَّة؛ فأسماء: إبراهيم وأبراهام وإسماعيل وميكائيل وعيسى أسماء شائعة في رُقم إيبلا المدوَّنة حوالي (2300) قبل الميلاد؛ أي قبل ولادة إبراهيم عليه السَّلام، وقبل بعثته بما لا يقلَّ عن (400-300) سنة على أقلِّ تقدير؛ وهذا يدلُّ على أنَّ سُكَّان إيبلا العرب الأموريِّين هم الأجداد الحقيقيِّون لإبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام، أمَّا الدَّليل الثَّالث فهو دليلٌ فيلولوجيٌّ أيضاً، وهو -من وجهة نظري- أقوى هذه الأدلَّة كلِّها؛ فالآية الأولى أو السَّطر الأوَّل من سفر التَّكوين في العهد القديم يتطابق تماماً مع لوح من ألواح إيبلا المدوَّنة قبل سِفر التَّكوين بمئات السِّنين؛ وقد جاء في هذا اللَّوح: “لم تكن الأرض، أنت خلقتها، لم يكن ضوء النَّهار، أنت خلقته، ضوء الصَّباح الَّذي لم يكن [بعد] موجودًا أنت خلقته”، وقد جاء هذا المعنى في سِفر التَّكوين من نسخة الكتاب المقدَّس بعهديه: القديم والجديد مع نسخة التَّرجمة السَّبعينيَّة المشتركة من اللُّغات الأصليَّة مع الكتب اليونانيَّة من التَّرجمة السَّبعينيَّة: “في البدء خلق الله السَّماوات والأرض، وكانت الأرض خاوية خالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفُّ وجه المياه. وقال الله: ليكن نور، فكان نور”. والدَّليل الرَّابع عندي هو خطُّ هجرة إبراهيم -عليه السَّلام- حين نجَّاه الله من نار النَّمرود في بابل، فقد صعد في طريق رحلته مع نهر الفرات شمالاً، ولم يتِّجه إلى سواحل البحر الأحمر نحو الجنوب الغربيِّ إلى مكَّة المكرَّمة مباشرة، وما صعد مع إلى مملكة ماري على نهر الفرات قرب البوكمال السُّوريَّة إلَّا لانتشار أهله وأجداده الأموريِّين في تلك الممالك، ثمَّ تابع صعوده إلى مسكنة (إيمار) على نهر الفرات جنوب حلب -وكان أمير (مسكنة- إيمار) متزوِّجًا من أميرة إيبلاويَّة قبل غزو نارام سين وقبل إحراق مملكة إيبلا؛ أي في زمن تدوين رُقم إيبلا وقبل ولادة إبراهيم-عليه السَّلام -وبعثته بما لا يقلُّ عن (400-300) سنة، ثمَّ صعد إلى حرَّان في تركيا قُرب (كوبكلي تبَّه)، ثمَّ جلس في مدينة أورفا التُّركيَّة حيث مقام إبراهيم -عليه السَّلام- الآن، ثمَّ نزل إلى (حلب- إيبلا)، وتابع طريقه إلى مدينة الخليل، ثمَّ وصل مصر، وتزوَّج منها ثمَّ نزل مكَّة المكرَّمة، وبنى مع ابنه إسماعيل -عليهما السَّلام-الكعبةَ المشرَّفة. والدَّليل الخامس عندي هو ما يُجمع عليه علماء الفيلولوجيا والخطوط والكتابات التَّاريخيَّة القديمة من أنَّ الخطَّ العبريَّ مأخوذ من الخطِّ الأوجاريتيِّ أو من أبجديَّة أوجاريت في رأس شمرا على سواحل اللَّاذقيَّة شمال سوريا؛ وهنا لا بدَّ لنا من أن نعيد أسئلتنا الجوهريَّة، ولن نملَّ من إعادتها: أين رُقم إيبلا ورُقم أوجاريت؟ وأين تمثال (إبِّت ليم) ملك إيبلا؟ وأين نتائج دراسة هذه الرُّقم والنُّقوش؟
جَمْعُ القرآن الكريم وتدوينه
يُجمع العلماء المسلمون بأنَّ القرآن الكريم حظي بعناية خاصَّة؛ فقد تعهَّد الله -سبحانه وتعالى- بحفظه وفقًا لما جاء في سورة الحجر: (إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون) [سورة الحجر، الآية: 9]، ويروي المحدِّثون أنَّ عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- تنبَّه إلى استشهادِ عددٍ كبير من حفظة القرآن الكريم في حروب أبي بكر الصِّدِّيق -رضي الله عنه- ضدَّ المرتدِّين؛ فخشي على القرآن الكريم المحفوظ في الصُّدور من الضِّياع، وقد سمع الحفظة سُوَرَ القرآن الكريم من رسول الله صلَّى الله عليه وسلمَّ، بالإضافة إلى حفظه على الجلود والرُّقم؛ ونظرًا لفطنة عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- وخبرته وثقافته العالية مع خشيته على المسلمين من الاختلاف حول تدوين القرآن الكريم وتأويل معانيه مثلما حصل مع كُتَّاب (الكتاب المقدَّس)، فقد أشار على أبي بكر الصِّديق -رضي الله عنه- أن يجمع القرآن الكريم؛ فجمع أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله عنه- القرآن الكريم، ثمَّ وُضعت سُوَرُ القرآن الكريم عند حفصة بنت عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنهما- زَمن خلافة والدها، وفي زَمن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، كثرت الفتوحات الإسلاميَّة؛ فجمعتْ لجنة رُباعيَّة سُوَرَ القرآن الكريم في مصحف واحد، ونَسَخَتْ نُسخًا عدَّة من هذا المصحف، ووزَّعوها على الأمصار والبلاد، وتألَّفت هذه اللَّجنة من ثلاثة قرشيِّين؛ هم: عبد الله بن الزُّبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، وكان الرَّابع زيد بن ثابت الأنصاريِّ رضي الله عنه، وقال عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- لأعضاء اللّجنة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربيَّة من عربيَّة القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإنَّ القرآن أنزل بلسانهم.
ومع مرور الزَّمن أسلم كثيرٌ من الأعاجم؛ ممَّن لا يُجيدون القراءة والكتابة العربيَّة؛ فحدثت بلبلة صُغرى؛ لم تكن بحجم بلبلة إبراهيم -عليه السَّلام- حين صمد في وجه النَّمرود، وهاجر إلى مكَّة المكرَّمة، وبنى مع ابنه إسماعيل -عليه السَّلام- الكعبة المشرَّفة، ونشر ديانة التَّوحيد والحنفيَّة الإبراهيميَّة في الجزيرة العربيَّة، ودفعت هذه البلبلة الصُّغرى النَّاتجة عن ضعف الأعاجم في قراءة النَّصِّ العربيِّ إلى إعجام أبي الأسود الدُّؤليِّ (ت: 603.م) ونصر بن عاصم اللَّيثيِّ (ت: 708.م) مفردات القرآن الكريم؛ وكان هذا الإعجام بنقط الكلمات بالنُّقاط وتشكيلها بالحركات لفهم دلالاتها ومعانيها الإعرابيَّة؛ كمعاني الفاعليَّة والمفعوليَّة وغيرها، وإن كان الخطُّ العربيِّ قد تطوَّر من شكله المسماريِّ في إيبلا إلى شكله الأبجديِّ في أوجاريت وشكله الآراميِّ أو العبريِّ المربَّع في مدوَّنات العهد القديم؛ فإنَّه لم يبتعد كثيرًا عن هذا الشَّكل في نقش (عين عبدات)، الَّذي يحكي عن عبدات الأوَّل؛ جدِّ الأنباط وملكهم حوالي (95-86) قبل الميلاد، وهكذا كان شكلُ الحرف العربيِّ في مصحف عثمان بن عفَّان-رضي الله عنه-حتَّى أُعجم فيما بعد بالنُّقاط والحركات، ثمَّ تفنَّن الخطَّاطون بكتابة الحرف العربيِّ، وظهرت مدارس الخطِّ، الَّتي تتفنَّن بكتابة هذا الحرف الجميل، مثلما رتَّب المعجميُّون العرب حروف أجدادهم على نظام الجُمَّل الأبجديِّ مرَّة، ورتَّبوه على النِّظام الألفبائيِّ؛ لتسهيل تعليمه وترتيب أبواب الكلمات في المعجم مرَّة أخرى، وبرغم هذه العناية الشَّديدة بالقرآن الكريم وضبط الحرف العربيِّ ما تزال قضيَّة التَّأويل قضيَّة مهمَّة ومثيرة لدى الفلاسفة والمفسِّرين والمؤرِّخين وعلماء الفيلولوجيا؛ لأنَّ أفهام البشر وأذواقهم مختلفة؛ وبعد أن يُرْسَل النَّصُّ، أو يُحكى، أو يُقال يموت المؤلِّف؛ أي يصبح النَّصُّ ملكًا للمتلقِّي، الِّذي يؤوِّله ويحلِّله، ويفهم مقاصده بعد أن يُعْمِلَ ثقافتَه فيه؛ ولأنَّ ثقافاتنا متنوِّعة ومختلفة سيكون اختلاف الفهم والتَّأويل نتيجة طبيعيَّة، وسيكون الحوار وقبول التَّأويلات المتعدِّدة علامة من علامات الرُّقيِّ الحضاريِّ في أيِّ مجتمع بشريٍّ يتَّسع لمثل هذه الحوارات والتَّأويلات.