تاريخ العالم

انفصالي ورجعي وأسْود!

ضحكتِ الصديقة الرائعة (س) عندما سألتُها: ألن تساهمي معي في العدد الخاص الذي ستُصدره (العربي القديم) عن حكم الانفصال الرجعي الأسود؟! فلا شيء يُضحك السوريين اليوم مثل شعارات البعث التي نشأ وكبرتْ معها أجيالٌ منهم، وكانت – هي والشعارات الناصرية – كما وصفها محمد الماغوط ذات يوم، مثل: “نيدو التي تنمو معه كلّ الأجيال” وبأنها: “لوعملت بها زيمبابوي سنة واحدة لصارت مثل السويد، ولو عملت بها السويد شهراً واحداً لصارت مثل زيمبابوي!”.

أجمل ما في فترة حكم الانفصال أنها كانت خالية من الشعارات، ومن الأيديولوجيات المسعورة، فقد كانت تقودها الروح الوطنية السورية الباحثة عن نهوض جديد، بعد ثلاث سنوات ونصف، من وحدة لم تُحققِ الآمال التي كان يطمح إليها كثيرٌ من السوريين الذين شكّلتِ الوحدة حلمهم التاريخيّ، وإنْ بقيتْ بالنسبة لمَن عاشوها، جزءاً من ذكرياتهم الحلوة والمرّة، وقد تصالحوا معها، ومع أخوتهم المصريين الذين لم يُفسدِ الانفصال بينهم للودّ قضية.

لم تُشتَمْ مرحلةٌ في تاريخ سورية الحديث، كما شُتمت مرحلة الانفصال، ولم تُظلم منجزات مرحلة، وتسودّ صورتها، وتُسرق منجزاتها، كما حدث مع فترة الانفصال. فقد عاش هذا الحكم حالة عداء مع مَن سبقه، فسامَه الإعلامُ الناصريّ سوءَ العذاب، وحالة طمس واقتلاع مع مَن أتى بعده، فعاث البعثيّون، ثمّ الطائفيّون الذين تلطوا خلف شعارات البعث وهبلِ مُنظريه، تنكيلاً وتشويهاً في كلّ تاريخه.  وهذا العدد الخاص لا يهدف إلى إظهار مساوئ وأخطاء الوحدة، وإنما بشاعة وقذارة مرحلة البعث التي أنهتْ حكم الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة بانفصال أعمق، وأدهى عن الشعب، وحقّه بالحياة الحرّة الكريمة، وأدخلت سورية في نفق مظلم، انتهى بها إلى بحيرة من الدم، ومدن من الركام، وملايين من اللاجئين والمهجرين.

كان حكم الانفصال حكماً مدينياً متحضراً، وإنْ شابتْه كثيرٌ من الأخطاء والعثرات السياسية، والنوازع العسكرتارية. لم نحاول في عددنا الخاص هذا أن ندافع عنه، أو نُبرز محاسنه ومزاياه، وفق أهوائنا وميولنا، بل سعينا لتقديم صورة ذلك العهد بأقلام من عاشوا فيه، فكان ملفنا الأبرز عن الثقافة في عهد الانفصال بأقلام كتاب بارزين رصدوا النشاط الثقافيّ والفنيّ في حينه، وكانت قضيتنا عن صورة عبد الناصر في صحافة عهد الانفصال بأقلام كبار صحفيي تلك الفترة، وقد وضعناها برسم نقاش حرّ ساهم فيه كتّاب اليوم، وفق توجهاتهم وآرائهم، لا توجهاتنا نحن. لكنني شخصياً لن أخفي دهشتي، عندما أقرأ أن العروض المسرحية الترفيهية كانت تُقدّم للمساجين في دمشق التي يكفي أن تستحضر فظاعات سجون عهودها اللاحقة، كي تعرف ما هو جوهر حكم الانفصال الرجعيّ الأسود الذي كان!

_________________________________________

من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاما على الانفصال-  أيلول/ سبتمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى