الرأي العام

دلالات وقضايا | لعيونك يا جرجناز

أطفال فجَّروا الثَّورة، وشهداء ضحُّوا بها، وأناس تاجروا بها أيضًا، وفاوضوا على المكاسب في الفنادق، واختلفوا في جلسات تقسيم الغنائم

د. مهنا بلال الرشيد- العربي القديم

ينتظر ريف معرَّة النُّعمان الشَّرقيُّ حملة (لعيونك يا جرجناز!) يوم الجمعة القادم في 14 تشرين الثَّاني-نوفمبر 2025، ويعيدنا عنوان هذه الحملة إلى واحدة من أشهر أناشيد الثَّورة السُّوريَّة إن لم تكن أشهرها وأكثرها شعبيَّة وانتشارًا على الإطلاق، ولا شكَّ أنَّ كلَّ سوريٍّ ثائر قد سمع هذه الأغنية الثَّوريَّة إن لم ينشدها أو يردِّدها في ساحات التَّظاهر، ولربَّما أصبحت هذه الأغنية أشبه بنشيد الثَّورة في ساحات الوطن وفي ليالي السَّمر خلال أربعة عشر عامًا مباركًا، كانت فيها هذه الأنشودة ما يشبه المرآة الفنِّيَّة الَّتي ترى فيها ألق الحراك الثَّوريِّ، وتقيس بها نبض الشَّارع أيضًا، وكما أنَّ المرآة لا تجامل؛ تريك نفسَك كما أنت؛ وكما قياس النَّبض وضغط الدَّم لا يجاملك، ويُنبئك بحالتك الصِّحِّيَّة، سنحاول النَّظر في الواقع الثَّوريِّ السُّوريِّ خلال سنوات الثَّورة وانعكاساته على واقع حملات الإعمار الرَّاهنة؛ لنشيد بالإيجابيَّات، ونشخِّص بعض الأخطاء؛ لعلَّنا نستفيد منها أو نتجاوز آثارها السَّلبيَّة؛ وقبل هذا وذاك تقول الأغنية الثَّوريَّة المنشورة على موقع اليوتيوب قبل اثنتي عشرة سنة:

يا إيراني كلبك ودِّع!

تعا شوف وتعا تسمَّع

هوِّي ساقط بس يتدلَّع

ناسي حاولو أنُّو حمار

ساقط ساقط يا بشَّار!

حملات تعكس الوحدة الوطنيَّة وتماسك المجتمع

تقرأ على صفحات هذه الحملة دعوة للانضمام لها أو المشاركة فيها أو مؤازرتها بكلِّ جهد ممكن لبناء مدارس جرجناز وتعبِّد طرقها وتعيد تجهيز مركزها الصِّحِّيِّ أو شركة مياهها فتُكبُرها، وتتضامن مع القائمين عليها، وتقرأ دعوة أخرى لرئيس لجنة انتخابات مجلس الشَّعب للمشاركة فيها، وتسمع أبناء جرجناز، وهم يدعون الأحرار في مقاطع مصوَّرة إلى المساهمة فيها؛ هذا من مدرسته في الخليج العربيِّ، وذاك من شارع في جرجناز، والثَّالث من مكان إجازته الأسبوعيَّة، والرَّابع من خلف مكتبه، والخامس من زيارة عمله خارج سوريا؛ فتتذكَّر حديث رسولنا الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى).

تتذكَّر حديث الرَّسول الكريم، وتدعو إلى الاستفادة الحقَّة من روح التَّكافل الاجتماعيِّ المذكور في حديث الرَّسول الكريم، تتواصل مع بعض أصدقائك في جرجناز، وتتذكَّر زمالتك مع بعضهم الآخر في هذا المكان أو ذاك داخل الوطن أو خارجه، تتواصل وتتذكَّر وأنت موقن حقًّا بأنَّهم سوف يساهمون في هذه الحملة، ويقدِّر بعض المتابعين عدد سكَّان بلدة جرجناز بين 30-35 ألف نسمة، ويحصي بعضهم عدد مغتربيها، ويركِّز آخرون على عدد شهدائها، ويذكر بعضهم كم شخصًا من جرجناز وصل إلى مركز قياديٍّ أو آخر بعد انتصار الثَّورة، ويشرح آخرون كيف عكست هذه المناصب القياديَّة مشاركة أبناء البلدة وتضامنهم خلال الثَّورة حين قلَّ الخبز والغاز، وحين تحدَّى ريف معرَّة النُّعمان جلَّاد سوريا ومجرمها بأنشودة ثوريَّة، وحين عاش قسم كبير من الثَّائرين على السِّلل الغذائيَّة بسبب الحصار والقصف والدَّمار الممنهج أيضًا؛ فتتشعَّبت الأحاديث؛ لتغدو (لعيونك يا جرجناز) مرآة نطلُّ من خلالها على واقعنا خلال الثَّورة، وواقع عودة الحقوق لأهلها بعد انتصار الثَّورة، وواقع حملات تبرُّعنا من أجل إعمار وطننا مدينة مدينة… وبلدة بلدة… وقرية قرية، لتغدو هذه الحملة وما سبقها من إعداد لها صورة مصغَّرة عن الواقع السُّوريِّ كلِّه.

الشُّعراء في جرجناز والممثِّلون في السُّعوديَّة والإعلاميُّون عند عزمي بشارة

قرأتُ بعض المنظومات الشِّعريَّة دعمًا لهذه الحملة، وسمعتُ بعضها الآخر، ورأيت بعض الدَّعوات الموجَّهة لبعض الشُّعراء والمؤثِّرين للمشاركة في هذه الحملة خلال جلسة مع بعض الأصدقاء، وتباحثنا خلال جلستنا في وظيفة الشَّعر، وتحدَّث نفرٌ عن دور الشِّعر والشُّعراء في حثِّ الهمم، واستفاض بعضها في اعتياد بعض الشُّعراء على التَّكسُّب بشعرهم أموالًا ومناصب؛ وخلصنا إلى أنَّ الشِّعر هو الشِّعر، وصاحبه هو صاحبه؛ هذا يقاتل نصرة للمبادئ، وذاك يتاجر بها، وذيَّاك يبحث عن المكاسب والأموال والمناصب، وهناك مَن لا يملك غير كلمته لينصر الحقَّ فيها، ويوجد مَن يشارك لأنَّ المشاركة تكافل اجتماعيٍّ، وخلصنا في ختام الحديث إلى أنَّ المشاركة شكل من أشكال الهجرة الَّتي تحدَّث عنها الرَّسول الكريم أيضًا: (إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

ولأنَّ جلستي مع أصدقائي غالبًا ما تكون جلسة ديمقراطيَّة يحضرها أصدقاء متعدِّدو المواهب ومتنوِّعو الثَّقافات والانتماءات والميول والاتِّجاهات بطريقة تعكس تنوُّع فسيفساء المجتمع السٌّوريِّ عرَّجنا إلى التَّساؤل عن إعمار المدن والبلدات والقرى الأخرى، تلك الَّتي لا يستطيع رئيس لجنة انتخابات مجلس الشَّعب أن يحضر حملاتها، وتلك الَّتي لا يمكن للشُّعراء أن يشاركوا فيها، وتلك الَّتي لا تملك جالية اغترابيَّة مثل الجالية الجرجنازيَّة أيضًا، وخلصنا إلى أنَّ الدَّولة ملاذنا الأخير، وعبَّرنا عن أملنا في أن نرى سوريا واحدة موحَّدة تسير على طريق الإعمار، وإن سبقت بعض البلدات بعضها الآخر بوتيرة الانطلاق.

وقال صديق في الجلسة: هل رأيتم اجتماع الفنَّانين السُّوريِّين في الرِّياض؟ فردَّ عليه صديق بسؤال آخر: هل رأيتم تغلغل العاملين مع عزمي بشارة في دوائر الدَّولة ووزاراتها واتِّحاداتها؟ وهل رأيتم تنقُّلَ بعضهم وترحالهم من بلد إلى آخر؟ فقال صديق ثالث: يمكننا التَّناقش حول هذه الأسئلة واحدًا تلو الآخر، وبما أنَّ عزمي بشارة بدأ الاستثمار في بعض كُتَّاب سوريا وشعرائها وصحفيِّيها وإعلاميِّيها وفنَّانيها ومؤثِّريها منذ انطلاقة تلفزيون سوريا في إسطنبول ومنذ تزايد مواقع نشره باللُّغة العربيَّة ومنذ استقطابه بعض الممثِّلين من خلال تمويل شركة ميتافورا مسلسل: (ابتسم أيُّها الجنرال) فقد صار الاستثمار في المؤثِّر السُّوريِّ ظاهرة؛ وهذا الاستثمار ينطبق على كلِّ مؤثِّر؛ إن كان ممثِّلًا أو شاعرًا أو إعلاميًّا أو كاتبًا صحفيًّا أو رجل سياسية، وناقشناه حول زيارة الممثِّلين السُّوريِّين الأخيرة إلى الرِّياض، ورأى بعض المناقشين إيجابيَّات هذه الزِّيارة في اجتماع الفنَّانين السُّوريِّين كبداية لتصالح بعضهم مع ذاته وتراجع بعضهم الآخر أو اعتذاره عن دعم المجرم المخلوع وبداية للتَّصالح بين الفنَّانين وجماهيرهم أيضًا ما أمكن هذا التَّصالح، واستفاض بعض المناقشين، ورأى أنَّ دعم السُّعوديَّة للفنَّانين السُّوريِّين سيحمي الفنَّ السُّوريَّ من مخاطر الخضوع لإرادة عزمي بشارة، وسيحمي الثَّقافة السُّوريَّة من الأدلجة الصُّهيونيَّة أيضًا.

مثقَّفون خذلوا الثَّورة

تركَّز الحديث في جلستنا على الفنَّانين والمثقَّفين الَّذين خذلوا الثَّورة؛ خذلوها بمناصرة المجرم المخلوع بوحًا بواحًا وجهرًا جهارًا نهارًا، وقال بعضنا: هذا أشدُّ نوع من أنواع الخيانة، ومال بعض المتحدِّثين الآخرين إلى أنَّ الهجرة من سوريا والارتهان إلى جهات معادية لسوريا مثل عزمي بشارة بعد التَّلحُّف بعباءة الثُّورة أو لبسِ لبوسها خيانة مقنَّعة أشدُّ خطرًا من خيانة الجهر الجهار، لكنَّ معظم المتحدِّثين توافقوا على ضرورة ضبط البوصلة وتوجيهها في الاتِّجاه الصَّحيح مجدَّدًا؛ وذلك من خلال تفعيل مسار العدالة الانتقاليَّة، فلا تراجع عن محاكمة من تلطَّخت أيديه بالدِّماء محاكمة عادلة، أمَّا باقي الأخطاء الَّتي يرقى بعضها إلى جريمة الخيانة الثَّقافيَّة فيمكن النَّظر في كلِّ حالة من حالاتها لتقييمها والبتِّ فيها، ويمكن البدء بمعالجة كثير من الحالات بخطوة أولى تبدأ باعتذار كلِّ من ناصر المجرم المخلوع؛ الاعتذار من الشَّعب السُّوريِّ، الاعتذار من الشُّهداء والمعتقلين والنَّازحين والمهجَّرين والمظلومين، الاعتذار من أهلهم ومن ذويهم؛ هذا يعني الاعتذار من الشَّعب السُّوريِّ كلِّه، مع تخفيف الظُّهور والحذر من اتِّخاذ أيِّ موقف مشبوه في المستقبل، مع الحذر من اتِّخاذ أيِّ موقف لا يتماهى مع الواجب الأخلاقيِّ أو لا ينسجم معه، ثمَّ يُترك الأمر بعد ذلك للجماهير وللأيَّام أيضًا؛ وذلك للاستفادة من عبرة الأخطاء السَّالفة.

ومن جملة الأحاديث الَّتي دارت بيننا بعد الحديث عن المثقَّفين الَّذين خذلوا الثَّورة، أوجز بعض المتحدِّثين خلاصة جلستنا بقوله: أطفال فجَّروا الثَّورة، وشهداء ضحُّوا بها، وأناس تاجروا بها أيضًا، وفاوضوا على المكاسب في الفنادق، واختلفوا في جلسات تقسيم الغنائم، وصدق القول معنا: ثورة يفجِّرها الأطفال والأغيار، ويضحِّي بها الشُّهداء، ويتاجر بها آخرون، وأكَّد بعض المناقشين وجود كثير من المصابين من جرحى الثَّورة ومبتوري الأعضاء، وهناك أشخاص لم يبق في أجسادهم موضع شبر إلى وفيه شظيَّة أو رصاصة ولم يسمع أحد بتضحياتهم بين المؤثِّرين، وهنا وهنالك وهناك؛ هذه هي سيكولوجيا البشر…وهذا يرجع إلى أصل التَّفاوت بين البشر الَّذي تحدَّث عنه جان جاك روسو في كتاب يحمل هذا العنوان؛ هناك بشر ضحُّوا في الثَّورة، وهناك بشر تصوَّروا مع مَن ضحَّى، وعند العزاء والتَّأبين وفي كلِّ ذكرى سنويَّة لاستشهاد أيِّ بطل من الأبطال الحقيقيِّين ينشر بعض المتاجرين صورهم مع الشَّهيد، ويتحوَّل الحديث من رثاء الشَّهيد إلى مدح الذَّات بسبب أصل التَّفاوت بين البشر، وبسبب أصل التَّفاوت بين البشر هناك من يشارك بإخلاص في حملة (لعيونك يا جرجناز) يشارك فيها ويأمل لبلدته ولسوريا أن تنهض من تحت الرَّماد، لا سيَّما المغتربون، وهناك من ينقد، ويشارك، ويقول: نأمل أن تنهض بلدتنا، ونرى فيها انتخابًا للمختار، وانتخابًا لأعضاء المجلس المحلِّيِّ ورئيسه، ونأمل أن نرى هذه التَّجربة في قرى سوريا وبلداتها ومدنها كلِّها؛ لأنَّ كثيرًا منَّا، وبسبب التَّفاوت بين البشر، وبسبب صدق أصحاب هذا النَّوع من الملاحظات، يشعرون بالارتياح عندما يستلم ليرتهم الَّتي تبرَّعوا بها مجلس محلِّيٌّ منتخب، ورئيس مجلس محلِّيٍّ محبوب ومنتخب من الجماهير، هناك أناس يتبرَّعون، ويشاركون، ويكرهون المظاهر، وهناك أناس يحبُّون الشُّهرة والأضواء، ولا ضير في ذلك ما دام هذا التَّنوُّع يصبُّ لصالح إعادة الإعمار، ولا يصادر قرار الجماهير، هنالك أطفال فجَّروا الثَّورة، وهنالك شهداء ضحُّوا بأرواحهم من أجل انتصارها، وهناك متظاهرون غنُّوا، وهنالك متفائلون؛ سيجتمعون، وهم يأملون بإعمار بلدتهم وسائر بلدات سوريا وقراها ومدنها، وكلُّنا على موعد مع الأحرار وهم ينشدون: لعيونك يا جرجناز!

زر الذهاب إلى الأعلى