قراءة في جداريات التشكيلي السوري خالد الساعي: عندما يسيل الحرف أحاسيس وتأملات
د. فطيم دناور – العربي القديم
لعلّ انفتاحَ الفنون على بعضها والتراسلَ فيما بينها، مكّنها من مواكبةِ العصرِ وتقلباتِ الأذواق، ويتم ذلك بتبادلِ الأدواتِ والمواد، كأن يتراسل الأدبُ والموسيقى، أو يتحاور الأدبُ والرسم، أو الموزاييك والموسيقى، أو الفنُ التشكيليُّ والمسرح.. فتتقارب الفنونُ وتتلاشى الحدودُ بينها، ما يفضي إلى تراسلِ الحواسِ الإنسانيةِ وتجاوبها. ونتيجةَ هذا التراسل نشأ “فن الحروفية”، الذي يعدّ الوليدَ الأسطوريَّ لزاوج مقدس بين فنّ الخط والتشكيل، وقد شدّني إليه حين دخله الشعر في جداريات خالد الساعي خاصةً، كان ذلك في دراسة نشرت في حوليات آداب عين شمس/ مجلد (50) عدد (أوكتوبر- ديسمبر 2022)، أقتبس منها أغلب ما في هذا المقال، لكنّ الذي استفز قلمي ثانية، وجدد جذوة عشقي لهذا الفن جداريته الجديدة التي شاركَ بها في مهرجانِ أصيلة، كما سيأتي.
ظهر فن الحروفية في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، كمحاولاتٍ تأسيسيةٍ خجولةٍ متفرقةٍ في دول عربيةٍ عدة، ما لبثت أن أصبحت اتجاهًا عامًا عند التشكيليين العرب في السبعينات، متخذةً شكلًا منظمًا في العراق على يد جماعة “البعد الواحد”. وهو فن يقوم على استخدام حروف اللغة في رسم اللوحة التشكيلية بديلًا عن الخط.
والحروفيون العرب هم الرسامون التشكيليون الذين جعلوا من الحرف العربي منبعًا لإلهامهم، وموضوعًا شكليًا للوحاتهم. فاندفع الفنان العربي نحو هذا الفن لتأكيد هوية محلية عربية في المنجز البصري، سيّما بعد أن اكتشف مدى ما يتمتع به الحرف العربي من قدرات تشكيلية وتعبيرية مطواعة، تصلح لأن تشكل معمار لوحة، أو منحوتة، أو محفورة فنية عربية الخصائص والمقومات. وأدرك الفنان العربي الحاجة لتغذية تيار فن تشكيلي عالمي بروافد عربية أصيلة، بدلا من الذوبان في ذلك التيار أو نقله نقلا آليا باردا، فاتجه نحو الحرف العربي مستثمرًا طواعيته وقدرته على التعبير عن الحركة والكتلة بسلاسة، وفق نظم جمالية بصرية مجردة من المعاني الدلالية، ومترعة بالقيم الرمزية الروحية التي اكتنزها عبر رحلته الطويلة في الفكر العربي الإسلامي، فانتقل الحرف من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الرمزية المجردة، واستحال من عنصر لغوي معنوي إلى عنصر تشكيلي مجرد. حتى تشكلت اتجاهات للحروفية نجملها في ثلاثة:
- اتجاه حافظ على معنى الكلمة أو النص سواء بإعمال الخط المقعّد أو الحرّ؛ وفيه يستثمر الفنان إمكانيات الخط من استقامة، واستدارة، وتمحور، وحركة، وتنغيم، وتناسب مع المساحة والفراغ؛ أي يلتزم بمنطق التشكيل الفني الإسلامي في الخط.
- اتجاه استخدمت فيه الحروف مفردة أو مركبة مقروءة لكنها مفرغة من معانيها بخط مقعّد: وهنا قد يُستخدم الحرف أو مجزوؤه، والكلمة أو مجزوؤها بخط مقعد مقروء، لكنه لا يوصل إلى معنى محدد، مع إشراك عناصر أخرى زخرفية، أو هندسية، أو حرة لدعمه تشكيليًا.
- اتجاه مستوحى من إيقاع حركة الحروف بصياغات تشكيلية غير مقروءة: ويشمل هذا الاتجاه أيضا الخط العربي المقعّد والحر، ويقوم النوع الأول (المقعّد) على استثمار علاقات الخط العربي المقعّد وإيقاعاته من خلال تطبيق نظمه الشكلية في تركيبات غير مقروءة، أما في النوع الثاني فقد يستخدم الفنان حروف الخط الحر غير المقعّد؛ فيستوحي إيقاعاته من إيقاع الكتابة العفوية غير النمطية.
وخالد الساعي فنان تشكيلي – حروفي، سوري، خريج دراسات عليا، فنون جميلة في جامعة دمشق. درّس الفن الإسلامي والخط العربي، وتعمق فيه بالمركز الفرنسي للدراسات بدمشق، وفي مركز أبحاث الفنون الإسلامية بإستنبول وفي جامعات: (ويلز)، (ميشيغان)، (ييل)… وحصل على العديد من الجوائز التقديرية منها: جائزة المركز البريطاني 1998، وجائزة الخط من الجزائر 2008، وجائزة ملتقى الشارقة للحدث في الخط 2002، 2006. كما حاز المركز الأول في أكثر من مسابقة عالمية للخط. واشتهر (الساعي) بتنفيذ الجداريات الحروفية، التي عرضت في أماكن متفرقة من العالم كإسبانيا، والمغرب، وألمانيا، وأمريكا وأبو ظبي..
والحرف العربي هو العنصر الرئيس في اللوحة عند الساعي بما يكتنزه من قيم تشكيلية- بصرية، تتبعه الكلمة والجملة لتشكل معًا جوقة بصرية. ويكاد خطا الثلث والديواني الجليّ يستأثران بأعماله. ويخط الساعي حروفه مستلهما مقولة ابن عربي: ” الحروف أمة من الأمم”؛ لذلك يحتفظ الحرف عنده بقيمته التقليدية، لكنه يروضه ليتناسب مع حالة اللوحة وسياقها؛ إذ ينطلق من خاصيته المدرسيّة، ثم يجنح به نحو فضاءات جديدة واجتراحات تشكيلية، غير مطروقة، بتحليل مكوناته وإعادة بنائه وفق منظومات جديدة ومبتكرة، فيحيد المعنى اللغوي مؤقتًا ويتجه نحو البعد الرمزي؛ ما يمكنه من استقبال أي محرض فني وتحويله للغة بصرية. فمن استلهام النص الشعري والعرفاني إلى استلهام الطبيعة (جداريته في متحف بون) إلى تحويل الموسيقى إلى منتج بصري (أعماله عن الجاز والبلوز والموسيقى الشرقية)، ما دفعه إلى فنون الأداء إذ عمل حفلات عن (الحوار السمعي- البصري) حيث التفاعل الآني مع موسيقى العود. وهذا يُبرز بقوة وحدة الفنون الإسلامية، التي تتجلى في بحور الشعر، ومقامات الموسيقى، وأنواع الخط، والزخارف والألوان، وبذلك تتراسل الفنون وتتلاشى الحدود الفاصلة بينها، فيصبح المرئي مسموعًا، والمقروء مرئيًا.
اتجاهه الحروفي: مزج مزجًا ابتكاريًا بين الاتجاهات الحروفية الثلاثة لكنْ (الملتزمة بالخط العربي المقعّد)، فهو يستلهم النصوص العربية الدينية، أو الأدبية، أو الميثولوجية في لوحاته وجدارياته. ويسمي العمل باسم الآية، أو القصيدة، أو الأسطورة. فيرسم “سفينة نوح” و”سورية حديقة التاريخ” و”أندلسي”… وفق توجه رمزي صوفي، يستنهض المعاني الروحية للحرف والكلمة. وهو يختار حروفه مركزًا على تفجر الدلالة فيها، ومتكئًا على إيحاءاتها الروحية التي اكتسبتها في رحلتها العلائقية عبر تاريخها في نصوص القرآن أو الشعر أو الميثولوجيا. ولا يكتفي بالرسم بالكلمات، بل يرسم بالحروف مفردة أو مركبة، مع الحفاظ على معانيها، وفق مزج ومزاوجة بين الفن الإسلامي التقليدي والتشكيل الغربي، دون عناصر زخرفية، أو هندسية، أو حرة لدعم التشكيل إلا ما ندر. بل يستعيض عن تلك العناصر بالتركيبات الطبقية لركام الحروف، واستثمار إيقاع حركتها بصياغات تشكيلية في فراغ اللوحة؛ فتتشكل جدارياته مازجةً بين الاتجاهات جميعًا عن وعي بهذا المزج.
من جداريات الساعي
جدارية العين: قامت هذه الجداية على الإشارات الرمزية والشعرية والدلالية لحرف العين، فالعين كما يرى الساعي مركز، وهي قلب الشيء ونافذته، وعين الفعل حرفه الأساسي، وعين الماء، وعين العقل، وعين القلب. ومن معانيها أيضا الرؤية القائمة على الفهم. أما أشكاله فيمكن أن يكون على شكل (الفنجان) الذي يرمز للعروبة وكرم الضيافة، ثم (العين الصادي) أي العطشان الذي يمثل الحنان والعاطفة، و(العين الثعباني) الذي يمثل المراوغة والقوة… إلى جانب غيرها من الحالات البصرية للحرف مأخوذة من تراث الخط، وتضمنت الجاداية أبياتا للسياب وجرير والشافعي:
” عيناك غابتا نخيل ساعة السحر”
إنَّ الــعيونَ الَّتي في طَرفِها حـــــــــــوَرٌ | قتلْـــــننَا ثمَّ لا يحــــــــــــــــــــــينَ قتْـــــــــــــــــــــــلانَا | |
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ | وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا |
جدارية “ذئاب الشنفرى”
استلت الأبيات من لامية العرب للشنفرى، أراد بها الساعي أن يجري مقارنة بين نظرة الغرب إلى الذئب الذي يعده وحشًا، وبين نظرة العربي الذي يعتبره صديقًا نبيلًا؛ فوجد الفنان ضالته في اللامية.وعُرضت الجدارية في مدينة “ولفسبرغ” بجانب جدارية أخرى عبرت عن الذئاب في الفكر الألماني، سعيًا لمقارنة فنية بين علاقة كلٍّ من العربي والغربيّ بالذئب. واستلّ (الساعي) الأبيات التي تتحدث عن علاقة الشاعر بوحوش الصحراء واستبدالهم بأهله وقبيلته. فاستبطن الحالة النفسية للشاعر وامتص التجربة، ثم شكلها على صورة مغامرات حرفية في اللوحة، مع إعادة توزيع الأبيات والعبارات والكلمات حسب رؤيته التشكيلية. أما الأبيات التي رسمت في الجداية فهي:
وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون: سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ | وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ، وَعَرْفَـاءُ جَيْـــــــــأَلُ | |
هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ | لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـــذَلُ | |
ثَــــلاَثَـةُ أصْحَــــــــــــــــــابٍ: فُـؤَادٌ مُشَيَّـعٌ | وأبْيَضُ إصْلِيتٌ وَصَفْـرَاءُ عَيْطَـلُ |
“جدارية السلام”
رسمت الجدارية أبياتا مستلّةً من سوناتا VI لمحمود درويش، والسوناتا بالأصل مؤلف موسيقي يتكوَّن مِن ثلاثةِ أقسامِ: العرض، والتطوُّر، والخلاصة. ثم انتقل هذا النظام إلى الشعر، فتولدت “السوناتا الشعرية”. التي اكتسحت السّاحة الأدبيّة الغربيّة منذ القرن الثّالث عشر في إيطاليا، وسرعان ما تسلّل هذا اللّون الجديد إلى سائر أنحاء أوروبا، ثم وجد لنفسه مكانًا مرموقًا عندما استوطن الشّعرية العربّية، وقد ضبط لهذا الّلون الفنّي العديد من القواعد والقوانين، التي نطلق بفضلها على القصيدة اسم “سوناتا”. وهي كما حددها درويش ذاته: قصيدة تتكون من أربعة عشر سطرًا تلتزم هندسة تقفية محددة على مثال: 4-4-3-3. وكانت أول شكل شعري غنائي يكتب لا ليؤدَّى أو يُلحن بل لكي يُقرأ قراءة صامتة.
وداعبت هذه الميزة مخيلة (الساعي) الموسيقية، ودعمت جهوده في تحويل الموسيقى إلى منتج بصري، كما فعل في أعماله عن الجاز والبلوز والموسيقى الشرقية، التي دفعته إلى فنون الأداء، يقول في هذا: “كأن عملي الخطي هو المادة البصرية، وعملي الموسيقي هو المادة التجريدية المصاحبة والعمل الغنائي هو الذي يوصل اللغة كمعنى”. وتبدأ السوناتا بقول الشاعر: “صُنَوْبَرَةٌ في يمينك. صَفْصَافَةٌ في شمالك”، ولكن الأبيات التي رسمها الساعي هي:
ما اسمُ المكانِ الذي وَشمَتْهُ خُطَاكِ على الأرض
أَرضاً سماويَّة لسلام العَصَافير، قرب الصدى؟
استوحى الساعي اسم الجدارية “السلام” من كلمة السلام المتضمنة في النص الشعري، وفي هذا توزيع للتقوية بين الأرض والسلام، وقد لا يكون توزيعًا يقدر ما هو نسبة، فالمراد هو أرض السلام عند (الدرويش) و(الساعي). ورسمت اللوحة بخط الديوان الجليّ الذي عادة ما يأخذ شكل قارب أو سيف عندما يكون النص طويلًا، وتكتب نصوصه من اليمين إلى اليسار متحليًا بالمرونة ودرجة الميل الكبيرة، ويستمد جماليته من حروفه المستديرة والمتداخلة، ومن العلامات الزخرفية التي تملأ الفراغات بينها؛ إذ يُزخرف بنقط تملأ وعاء الكتابة. فهو يستعمل في الزخارف أساسًا، وسخّر الفنان هذه الخصاص في رسم النص، مفيدًا من خاصية وصل الحروف، والأشكال الزخرفية بينها، ما جعلها وشمًا حروفيًا.
جدارية الزمن
وهي جدارية رسمها الفنان على جداران مدينة “أصيلة” المغربية ضمن مشاركته في مهرجانها الخامس والأربعين في نهاية شهر يوليو 2024 مع فنانيين مغربيين، وهذه المشاركة العاشرة له في جداريات أصيلة وفق ما ذكره موقع “طنجة 24” ووفق الموقع ذاته وصف الفنان الساعي تجربة الجداريات بـ “المهمة” في مسار الفنان، لأنها تجربة إبداع مباشر أمام الجمهور، مستدركا أنه خلال رسم الجدارية تتجاذب الفنان الكثير من الاقتراحات والارتجالات واللحظات الحاسمة.
ولعل هذا غير خافٍ على المطلعين على دراسة سير العملية الإبداعية، ودور اليد في أثناء التنفيذ في توجيه العمل الفني، وخلق مفاجآت وصدف فيه، وفي هذا يرى (جان برتلمي) أن لليد خبرة بالمادة تعرف ما تأنفه المادة أو ما تحبّه وتختص به من خصائص، لذا ليس من العجيب أن تسبق العقل أحيانًا وتفتح له آفاقًا جديدة، وتقدم له الأفكار.
وفي قراءة عجلى سطحية للجدارية تبدو الحروف متعانقة متشابكة، معادلاً رمزيًا للأحداث، وقد رسمت بمستويين مستوى بين واضح، ومستوى مموه باهت، فكان الواضح وسط اللوحة والمائع أسفلها وأعلاها، ولعل الفنان يشير إلى الزمن الحالي في الوسط والزمن الماضي والمستقبل في الأسفل اللوحة وأعلاها، ولذلك كان الغموض يلفّ الماضي والمستقبل، في حين تتجلى حروف الحاضر واضحةً، أما الألوان فقد توحّد الماضي والمستقبل باللّون الأزرق، ولا يخفى لما لهذا اللون من دلالات الاتساع والامتداد، بينما تنوعت ألوان حروف الحاضر بين ألوان مبهجة وقاتمة، تحاكي اختلاف الأحداث ووقعها على الإنسان، ويلاحظ أن أعلى اللوحة (وهو الذي افترضنا أنه يشير للمستقبل) لُون باللّون الأزرق المبهج، في إشارة إلى الأمل في هذا المستقبل على عكس لون الماضي الذي مال إلى الكحلي القاتم.
تلك قراءة أولية عجلى للوحة أتأملها عبر الشاشات، ولكن متعة التذوق الجمالي لهذا الفن لا تكتمل من دون الحضور إلى موقع الجدارية وتجربة الإحساس بالفضاء الذي يغلفها من أمكنة وأشخاص، ومناخ، ولا يغني المعادل البصري للإحساس اللمسي، والقياس المساحي النظري، عن تمرير اليد فوقها وتلمس حروفها، وقياس مساحتها بالخطوات، كما أن زيارة الموقع في أثناء التنفيذ ومتابعة نمو الجداريّة وتشكلها تمنح الحاضرة متعة التأمّل وشغف الانتظار ، ولو أتيح له تجربة الإمساك بالرّيشة تمريرها على الجدارية، سيصل بلا شكّ إلى ذروة التجربة الجماليّة.