الدّروز في كتابين
بقلم: صادق جلال العظم
“مذهب الدروز والتوحيد” بقلم عبد الله النجار. دار المعارف، القاهرة،1965
“أضواء على مسلك التوحيد” بقلم سامي مكارم. دار صادر، بيروت 1966
حينما صدر كتاب الدكتور سامي مكارم (أضواء على مسلك التوحيد: “الدروز”)، وبعد أن قرأت التعليقات التي نشرت حوله في بعض الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، تكونت لديّ فكرة جزئية بأن الدكتور مكارم أراد الرد على الكتاب الممنوع الذي ألّفه الاستاد عبدالله النجار تحت عنوان “مذهب الدروز والتوحيد”، كما أنني ظننت أن الدكتور مكارم أراد “تسليط الأضواء” على الكتاب الممنوع لا على المذهب الدرزي نفسه. غير أنني عندما فرغت من قراءة الكتابين المذكورين تبين لي كم كانت فكرتي التي كونتها عنهما، من خلال التعليقات المشار إليها، جزئية ومشوهة. ومما استرعى انتباهي أن ما نشر حول كتاب الدكتور مكارم لم يتناول لب الكتاب بالمناقشة والنقد والتقييم ولم يركز على الافكار التي عرضها المؤلف وعلى النقاط التي أرادها أن تكون تصحيحاً لبعض الاخطاء التي وقعت فيكتاب الأستاذ النجار، بل تركزت جهود المعلقين في الكلام عن الدوافع التي دعت الدكتور مكارم الى تأليف كتابه أصلا والتنويه بالملابسات، المؤسف حقاً، التي رافقت ظهور مؤلف الأستاذ النجار. وبعد التمعن في الأمر حصلت لديّ قناعة بأنه من الإجحاف بحق الدكتور مكارم أن ننظر إلى كتابه على أنه “رد” على ماورد في “مذهب الدروز والتوحيد” أو أنه مجرد إقرار لنظرة “الدروز الرسمية” ضد مفكر حر مثل الأستاذ عبد الله النجار. في الواقع وجدت أن الكتابين يتمم أحدهما الآخر في مواضع عديدة.
القدرية والجبرية
وقد أضاء الدكتور مكارم بعض النقاط الغامضة في كتاب الأستاذ النجار وبعض النواحي الفلسفية المستعصية من العقيدة الدرزية. وعلى سبيل المثال يعرض علينا الدكتور مكارم، من خلال مناقشته لما ورد في كتاب “مذهب الدروز والتوحيد”، الناحية الفسلفية من العقيدة الدرزية عرضا دقيقاً ومحكماً، وبين أسسها الفلسفية والتاريخية. وهذه الناحية من مذهب التوحيد لا تختلف الشيء الكثير عما سمّاه المفكرون المسلمون وفلاسفتهم “بالحكمة المشرقية” القائمة على نظرية أفلوطين في انبثاق (أو إشراق، أو أفيض) الكائنات، خارج الزمان والمكان، من الخير المحض. ومع أن هذه الناحية مهمة جداً في العقيدة الدرزية فإن كتاب “مذهب الدروز والتوحيد” لم يعطها القدر الكافي من الشرح والإيضاح الذي لاريب أنها تستحقه. فالأستاذ النجار يدخل مباشرة في الكلام من نظرية الفيض والتجلي مستعملاً مصطلحاتها الخاصة بدون أن يبدأ بعرضها عرضاً منتظماً، يسهل على القارئ الإلمام بمبادئها وأفكارها الأساسية. فالقارئ غير المتمكن من الحكمة الشرقية والأفلاطونية المحدثة يجد نفسه أمام تعابير وكلمات لا معنى حقيقياً لها بالنسبة إليه، كما أن الدكتور مكارم يبين أمراً هاماً أغفله الأستاذ النجار في عرضه لنظرة العقيدة الدرزية إلى الحرية الاخلاقية. يقول الأستاد النجار بأن مذهب التوحيد يعتقد بالتخيير، ولكنه لا يبين لنا شيئاً عن الحدود الموضوعة على حرية الإرادة الفردية في الاختيار (بالنسبة للعقيدة الدرزية ولجميع العقائد التي تقول بتقمص الأرواح). وقد بين الدكتور مكارم أن العقيدة الدرزية تقول، بالإضافة إلى التخيير، بأن “ممارسة حرية الاختيار هذه عملياً هي محدودة بما تراكم على الإنسان في أجياله السابقة والحاضرة من أعمال، اختارها لنفسه وجعلت نطاق حريته محدوداً، فقدر أثرها ونتائجها”.
في الواقع وقع الأستاذ النجار في خطأ آخر حول موضوع الحرية والتخيير لم يذكره الدكتور مكارم في كتابه. يقول الأستاذ النجار عن مذهب التوحيد ما يلي: ” كما أن المذهب ينكر (القدرية) المطلقة. فهو ليس مع الأشعرية في أن كل شيء مقدر محتوم، ولا مع المعتزلة الذين نسبت إليهم القدرية. إذ إن المقدّر الجبري يتعارض مع الإيمان بالعدل الإلهي، وبالتخيير الذي يجعل المرء مسؤولاً عما يصدر عنه بإرادته واختياره”.
من الجلي أن كاتب هذه السطور يأخد (القدرية) بمعنى أن “كل شيء مقدر” أي بمعنى الجبر؛ غير أن القدرية في الفكر الاسلامي، مشتقة من قدرة الإنسان على خلق أفعاله لا من “القضاء والقدر” كما ظن الأستاذ النجار خطأ. فالقدرية هي نقيض الجبرية لا مرادفة لها، ولذلك نسبت القدرية إلى المعتزلة لأن هذه الفرقة قالت بالتخيير وبقدرة العبد على خلق أفعاله. ونسبت الجبرية إلى الأشعرية لأنها عطلت قدرة العبد وقالت بالتسيير. فإذا كانت دعوى الأستاذ النجار صحيحة بأن مذهب التوحيد يقول بالقدرية، فالمذهب مع المعتزلة في هذا الاعتقاد لا مخالف لها، وذلك بعكس ما قاله الأستاذ النجار في النص الذي أثبتناه أعلاه.
مشكلة المنطق
يقول الدكتور مكارم في بعض المواضيع من كتاب “أضواء على مسلك التوحيد”، إنه يصحح الأخطاء التي وقع فيها الأستاذ النجار، ومن ثم يعرض علينا المعتقد الدرزي الصحيح حسب رأيه، ولكن الباحث المتجرد يجد نفسه في موقف حرج حيال دعوى كل من الكاتبين الدرزيين بسبب عجزه عن الاستمرار في البحث والتنقيب للتحقيق من صحة إحدى الدعوتين المطروحتين عليه، فالدكتور مكارم لم يستشهد في مواضع عديدة بنصوص دينية درزية ليبرهن لنا على أن ما يقوله هو الرأي الصائب بالنسبة للعقيدة الدرزية، وأن دعوى الأستاذ النجار المناقضة لدعواه، لا أساس لها في المستندات الروحية لمذهب التوحيد. وعلى سبيل المثال سأعالج نقطة حساسة في العقيدة الدرزية نفاها الأستاذ النجار نفياً قاطعاً، بينما الدكتور مكارم أكد على أنها من الحقائق التي تقول بها عقائد مذهب التوحيد. أعني بذلك مشكلة “المنطق”.
من المتداول بين عامة الدروز ما يسمونه “بالمنطق”، وهو الاعتقاد بأن الروح حين تنتقل من جسد إلى جسد تحمل معها أحياناً معلومات عن “الدور” أو الجيل السابق الذي كانت فيه، فتتحدث عنه بما تعيه ذاكرتها. يعتبر الأستاذ النجار “المنطق” خرافة محض شائعة بين السذج والعامة ويقول إنه لا أصل له في العقيدة الدرزية. ولا يترك الأستاذ النجار أي مجال للشك في موقفه هذا، إذ يقول بكل جزم: “إنني لم أجد كلمة واحدة، في جميع كتب “الحكمة”، تثبت هذا الزعم. بل وجدت ما ينفيه نفياً قاطعاً، لا يترك مجالاً للتأويل. مما يستوجب تعليل هذه الظاهرة، التي كثر تداول أخبارها، تعليلاً علمياً، حتى لا يجثم هذا المجهول في ظلمة العقول”. ثم يثبت بعض النصوص من “رسائل الحكمة” التي يعتقد أنها تؤيد وجهة نظره تأييداً تاماً.
ومن ناحية أخرى يقول الدكتور مكارم حول رأي الأستاذ النجار في المنطق ما يلي: “إن في هذا القول تحريفاً للواقع. فالأكثرية الساحقة من الدروز الذين يعتقدون بالتقمص، يعتقدون أيضاً بالمنطق… خصوصاً أن الاقوال التي استشهد بها من النصوص لا تنفي المنطق ولا علاقة لها بهذا الموضوع، وهي واردة في أصلها في غير معنى. ولو كان المؤلف قد أكمل بحثه واعتمد على النصوص التي تثبت إمكانية تذكير بعض ما يحدث في الحيوات السابقة. فالمستجيبون حسب ما جاء في النص إنما استجابوا إلى الدعوة بعد أن ذكّروا بالحق فذكروه وعرّفوه فعرفوه “.
أعتقد أن قول الدكتور مكارم يتركنا في ظلام دامس حول هذه القضية. لقد رفض رأي الاستاذ النجار في موضوع المنطق ورفض تأويله للنصوص المذكروة ولكنه لم يأت بشاهد واحد ولا بأدنى بيّنة على صدق دعواه. والدكتور مكارم الذي أعلن أنه يريد معالجة الموضوع بجملته معالجة علمية مجردة، لا يتوقع منا أن نقبل برأيه لمجرد أنه مرد في كتابه بصورة تقريرية حاسمة؟ فإذا كانت النصوص التي أثبتها الأستاذ النجار “لا تنفي المنطق وهي واردة في أصلها في غير معنى” حسب دعوى الدكتور مكارم، كان عليه إذاً أن يفصل القول في هذا الموضوع، ويبيّن لنا بوضوح كيف أن هذه النصوص لا تنفي “المنطق” وما هو المعنى الأصلي الذي وردت فيه. وطالما أن الدكتور مكارم لم يفعل شيئاً من هذا فما على الباحث إلا أن يعلق الحكم حول ما إذا كانت العقيدة الدرزية تقول حقاً “بالمنطق” إم لا، إلى أن تتوفر الأدلة والشواهد على صدق أحد هذين الرأيين المتضاربين، ولا شك أن موقف الأستاذ النجار حول هذا الموضوع أقوى وأمتن من موقف الدكتور مكارم، بسبب استشهاده بنصوص وبينات لم يرد عليها الدكتور مكارم بالطريقة العلمية المعروفة.
أعتقد أن المنطق، من الناحة المنطقية البحتة، نتيجة تلزم عن نظرية التقمص التي يقول بها مذهب التوحيد. وذلك لأنه من المستبعد جداً ألا تتذكر النفس بعض الأمور عن حياتها السابقة فتنطق بها في حياتها الحاضرة. والخلاف بين الدكتور مكارم والأستاذ النجار يتركز في أن الأول يقول بأن العقيدة الدرزية تقبل بهذه النتيجة بينما يقول الثاني عكس ذلك. ولا أدري أيهما على حق، ولا أدري كيفية الوصول إلى الحقيقة حول هذا الموضوع.
تقمص الأرواح
كان الدكتور مكارم مقتضباً جداً في معالجته لعقيدة تقمص الأرواح، مع أنها من أطرف الموضوعات التي يمكن للمفكر أن يعالجها في العقائد الدينية. ولم يأت بأي شيء هام بالإضافة إلى ما قاله الأستاذ النجار في كتابه، سوى تصحيح بعض الهفوات التي يبدو أن المؤلف وقع فيها. وهنا أيضاً يعرض علينا الدكتور مكارم ما يراه أنه وجهة نظر الدرزية الصحيحة حول عقيدة التقمص بصورة تقريرية، بدون اللجوء إلى الشواهد والبينات التي يجب أن تكون الأساس الوحيد لقناعتنا بصحة دعواه وبطلان دعوى الأستاذ النجار. ورجوع الدكتور مكارم في هذا الموضوع إلى بعض المصادر العامة حول عقيدة التقمص والمنطق لا يفيدنا بشيء، لأن المشكلة التي نعالجها ليست إثبات أو نفي حقيقة التقمص والمنطق، وإنما التأكد من حقيقة موقف العقيدة الدرزية منهما.
ميّز الأستاذ النجار في كتابه بين عقيدة تقمص الأرواح وبين عقيدة تناسخ الأرواح، وقال إن المذهب الدرزي يقول بالأولى ويرفض الثانية لأنها تعني” المسخ” (أي تحويل صورة الشيء إلى صورة أقبح منها، مثل مسخ الإنسان قرداً) والعقيدة الدرزية لا تقول بمسخ الأرواح من الصورة البشرية إلى صورة حيوانية، ولا بانتقالها إلى نبات (الرسخ) أو جماد (الفسخ). غير أن الأستاذ النجار أخذ عقيدة تناسخ الأرواح بمعناها الحرفي الشائع لا بمعناها الروحي والفلسفي الباطني. والدكتور مكارم لم يعالجها من هذه الناحية أيضاً. فلو تنبهنا لمحتوى العقيدة المعنوي والروحي لوجدنا أن فكرة التناسخ متممة في الواقع لعقيدة التقمص. ولإيضاح ذلك نعود الى تعاليم الحكمة الشرقية (الأفلاطونية المحدثة) التي تقول أن الأنفس الجزئية ليست إلا أجزاء متكثرة ومتعددة للنفس الكلية (لنذكر هنا أن الجزئيات نسخ متعددة لمثال واحد عند أفلاطون) وبهذا المعنى بإمكاننا اعتبارها “نسخاً” عن النفس الكلية . كما أن تعدد النفس الكلية وتكثرها وتجزؤها هي عملية “تناسخ”، أي عملية ترديد للصورة الكلية الواحدة في نسخ متعددة (هي الأنفس الجزئية) أدنى منها مرتبة وكمالاً، وجمالاً، وبهاءً من النفس الكلية ذاتها. فالنسخة لا تكون أبداً في كمال الأصل وهي دائماً أدنى في كمالها من المنسوخ عنه وهنا حديث نبوي يقول: “إن الله خلق آدم على صورته” كما ورد في التوراة: “فخلق الله الإنسان على صورته”.
والشبه المقصود هنا بين الخالق والمخلوق ليس شبها خارجياً أو شبه بالصورة الظاهرة، وإنما هو من باب الشبه القائم بين الكليات وبين الجزئيات المندرجة تحتها – هذا الشبه الذي لا سبيل إلى إدراكه إدراكاً صحيحاً وتاماً إلا عن طريق الحدس والذوق .فإذا لجأنا إلى تعابير عقيدة التناسخ استطعنا أن تقول أن جوهر آدم الروحي نسخة جزئية عن الحقيقة الروحية المطلقة، بالإضافة إلى ذلك يعني النسخ أيضاً إبطال الشيء أو إزالته، أي أن تناسخ النفس عن النفس الأصلية يزيل عن الأولى صفة الكلية، ويحل محلها صفة الجزئية.
نرى إذاً أن عقيدة تناسخ الأرواح بمعناها الفلسفي الروحي لا تتعارض بشيء مع نظرية التقمص، ولا مع بقية العقائد الدرزية (ضمن الحدود التي وضحت لنا حتى الآن). ويتضح هذا الأمراذا ذكرنا ان عقيدة مذهب التوحيد تستند إلى الحكمة المشرقية وإلى فكرة التجلي في نواحيها الفلسفية، وعقيدة تناسخ الأرواح كما بيناها هي من صلب الحكمة المشرقية. بل إن عقيدة التقمص نفسها تقول “بالمسخ”، بالمعنى الروحي للعبارة: فعندما تدخل روح إنسان ما إلى جسد آخر أدنى مرتبة من الجسد السابق الذي كانت فيه، فإنها تكون قد “مسخت” إلى حد ما، بمعنى أنها ابتعدت قليلاً أو كثيراً عن النفس الكلية التي انبثقت عنها والتي تصبو للعودة إليها، وبمعنى أنها أصبحت في مرتبة أدنى مما كانت عليه في سلم الكمالات كما تراه الحكمة المشرقية.
كما أني أجد عقيدة تقمص الأرواح نظرية طريفة جداً و”معقولة” إلى حد أبعد بكثير من النظرية التقليدية القائلة بمجرد خلود النفس بعد فناء الجسد، لأن نظرية خلود النفس تثير أسئلة ومشكلات محيرة حول مصير الروح بعد موت جسدها، وقبل حشرها يوم القيامة. بينما نجد أن نظرية التقمص تجيب على هذه الأسئلة بوضوح؛ كما أن لنظرية التقمص حسنات أخلاقية نوه بها الاستاذ النجار، إذ لا يقوم حساب النفس حسب عقيدة التقمص على أساس حياة واحدة قصيرة، وإنما على مدى دهر طويل وفي حيوات متنوعة ثؤثر كل واحدة منها على الأخرى (من الناحية الاخلاقية)، وتمنح النفس بذلك دهراً طويلاً فرصاً كبيرة لاكتساب العقاب والثواب والنجاة أو الهلاك. ويكون حسابها عندئذ على مجموعة ما كسبت في حيواتها المتعددة، لأن مكتسبات النفس ذات طابع تراكمي. ويجب أن أذكر هنا أن الأستاذ النجار بيّن أن عبارة “المسخ” واردة في العقيدة الدرزية ولكن ليس بمعناها الحرفي، وإنما بمعناها الباطني الذي يشير إلى التشويه الروحي والأخلاقي الذي يطرأ على النفس. وهو يستشهد ببعض النصوص الجميلة ـــ تدليلاً على دعواه ــ من رسائل الحكمة، نذكر منها النص التالي:
“يا أصحاب الأجسام الخالية من الأرواح… والهياكل القائمة كظلام الأشباح… عكست نفوسكم، وتقهقرت في درج المسوخية، بالانخفاض والانسفال”.
سرية العقائد الدرزية
من أهم النقاط التي أثارها الدكتور مكارم مشكلة سرية العقائد الدرزية وسترها عن العامة. وهنا يميز الدكتور مكارم بين الشق العقلي في عقيدة المذهب التوحيدي، وهو النظرية الميتافزيقية المسماة بالحكمة المشرقية وما تستلزمه من نظرات أخلاقية واجتماعية، وهي مكشوفة لكل من أحب الاطلاع عليها ووجد في نفسه القدرة على تعلم مبادئها ومصطلحاتها، وبين الشق العرفاني الذي “يتعلق بالتأويلات اليقينية” والحقائق الناتجة عن ” الاستكشاف العرفاني”، وهي أمور تستحيل على عامة الناس، الذين لم يستطيعوا فهمها واستبعابها وهم إن اطلعوا عليها أساؤوا فهمها وأساؤوا إلى أصحابها وإلى أنفسهم. يذكر الدكتور مكارم بهذا الصدد أن الحكماء والفلاسفة أوصوا بستر هذه الحقائق عن العامة، ويستشهد بابن رشد وغيره من المفكرين والعلماء الذين عالجوا هذا الموضوع.
وهنا يبين الدكتور مكارم أن سباب الستر لم تكن كما قال الأستاذ النجار، نتيجة لعوامل اجتماعية وأسباب عملية، أهمها الوقاية من العدوان على أصحاب المذهب والصيانة لعقيدتهم ولأنفسهم من الاضطهاد، وإنما لأن “السرية” هي بالأصل عقيدة أساسية في مسلك التوحيد، كما هي في جميع المسالك العرفانية المعروفة”، ولأن” صيانة الحقائق في مسلك التوحيد هي أصل وأسّ رئيسي لا نهج طارئ”.
أعتقد أن الدكتورمكارم غالى بدون مبرر، في رفضه للتعليلات الاجتماعية والعملية لعقيدة الستر عند الدروز خاصة، وفي المذاهب العرفانية عامة.
كما أنه غالى في تشديده على أن الستر والسرية في المذاهب العرفانية هي من جوهر العقيدة المذهبية، وفي رفضه للرأي الذي قال به الأستاذ النجار. يقول الدكتور مكارم حول هذا الموضوع: “فكشف أسرار الحقيقة الأخيرة للوجود إذاً يعرضها، كما تقول مسالك العرفان، إلى ضروب من التأويل والتحريف وإساءة الفهم من جانب الذي يجهلون هذه المسالك العرفانية. وهذه حسب معتقد التوحيد، يكون أسوأ أثراً بكثير من إبقاء هذا المسلك على سريته، كما أن أحداً لا يستفيد من هذا الكشف، كما يقول الدروز، إلا إذا كان قد سلك هذا المسلك العرفاني وعاش فيه وشعر به واختبره”.
ولعله لم يخطر ببال المؤلف أنه بالرغم من أن نهج صيانة الحقائق وسترها في مسالك العرفان ليس نهجاً طارئاً عليها، فإن من الأرجح أن هذا النهج طرأ عليها في يوم من الأيام لاسباب اجتماعية معينة ومبررات علمية معروفة، ومن ثم تحول مع مرور الزمن، إلى ركن رئيسي من أركان عقيدتها وبقي كذلك، حتى بعد أن زالت جميع الأسباب والظروف التي أدت إلى إدخاله في المذهب. ومثل هذه الأحداث تطرأ على جميع الديانات والعقائد، المكشوفة منها والمستورة. بالإضافة إلى ذلك أن قراءة دقيقة للنص الذي استشهد به الدكتور مكارم من كتابات ابن رشد حول موضوع الستر والسرية، يبين لنا أن الفيلسوف الكبير أوصى بستر “التأويلات اليقينية” والحقائق العرفانية لأسباب اجتماعية وعملية عائدة إلى النتائج السيئة والعواقب الوخيمة التي تؤدي إليها كشف مثل هذه الأمور لعامة الناس. فابن رشد حسب النص المذكور يبغي ستر هذه الحقائق لا حباً بالستر ذاته، ولا لمجرد حرصه على الحقيقة الخالصة، وإنما لأن إفشاءها قد تكون له عواقب غير محمودة على أصحاب المذهب أنفسهم، وعلى عامة الناس ممن يسمع بهذه الحقائق وهو ليس من أهلها.
ويعترف الدكتور مكارم في موضع آخر بأهمية الأسباب الاجتماعية والعملية في جعل العقيدة الدرزية عقيدة سرية ومستورة اذ يقول: “لذلك كانت هذه الصيانة في قصدها الأول والأصيل وقاية للعامة من الناس الذين لا يقوون على هذا المرتقى الجليل في مرتقى التوحيد، فتكون أذى لهم وإفساداً للظاهر الذي به يؤمنون، وهكذا يندفعون لما اختلط في نفوسهم وأشكل عليهم من حقيقة التوحيد والعرفان، إلى إيذاء رجاله ومريديه وإلى سوء فهم هذه الحقيقة”.
أي أن الستر لم يأت لمجرد الحفاظ على الحقائق العرفانية كما يوحي الدكتور مكارم في مواضع عديدة من كتابه. أضف إلى ذلك ان مجرد كون بعض الحقائق لا تفهم ولا تدرك إلا من قبل الخاصة لا يوجب وحده سترها وإخفاءها ففي كل دين أسرار وحقائق تخفى وتستعصي على العامة، ولا يفهمها إلا الخاصة، وفي كل علم بما فيها العلوم الطبيعية، حقائق صعبة المنال تتطلب جهداً كبيراً ودراسة طويلة، لاستيعابها وفهمها حق الفهم.
ولكن هذا الاعتبار بحد ذاته لا يستوجب ضرب نطاق من السرية والكتمان حولها. أعتقد أن الأستاذ النجار على صواب في إرجاعه عقيدة الستر إلى اسباب عملية واجتماعية، وهو على حق في توقعه زوالها بعد زوال الأسباب والموجبات التي أدت إلى إدخالها في المذهب. وما كتاب الدكتور مكارم وكتب الأستاذ النجار غير دليل على بداية هذا الاتجاه.
عقيدة الحلول
لا أدري لماذا ينظر الدكتور مكارم إلى عقيدة وحدة الوجود والحلول على أنها نوع من التهمة التي يجب ردها عن مذهب التوحيد. وأذكر هنا أن مقدم الكتاب، الأستاذ كمال جنبلاط، نظر نظرة مماثلة إلى وحدة الوجود في معرض دفاعه عن محي الدين بن عربي. وبهذه المناسبة استشهد الدكتور مكارم بكتاب المتصوف الكبير فريد الدين العطار (منطق الطير) لأن “الشاعر الصوفي الكبير يعبرعما عبر عنه معتقد التوحيد”، حسب قوله.
وبعد ذلك ينفي الدكتور مكارم أن مذهب التوحيد يقول بالحلول في الذات الإلهية: “غير أن هذه الصورة الناسوتية التي ينعم بمشاهدتها الـعراف المتحققون، وكأنهم ينظرون إلى وجوههم في المرآة ، لا تعني حلولاً في ذات الله”.
ولكن إذا دققنا النظر في أقوال فريد الدين العطار – التي استشهد بها المؤلف – عن المرحلة الأخيرة في رحلة طيور السي مرغ لبلوغ ملكهن طائر السيمرغ، نجد التعبير التالي عن حالة الوصول الصوفي: ” وقد أذهلهن هذا حتى أنهن لم يدركن إذا كنّ لم يزلن أنفسهنّ، أم أنهن قد أصبحن السيمرغ ذاته. أخيراً، وفي حالة من التأمل، تحققن أنهن السيمرغ، وأن السيمرغ هو الطيور الثلاثون (سي مرغ). وعندما كن يَشخَصن بالسيمرغ كي يرين أن السيمرغ حقيقة هو هناك، وعندما كن يدرن أبصارهن إلى أنفسهن وإلى السيمرغ معاً، كن يرين انهن والسيمرغ كائن واحد”.
أو ليس هذا الكلام تعبيراً واضحاً كل الوضوع عن حالة الاتحاد بالذات الإلهية والحلول فيها والفناء فيها؟ وإذا كان العطار يعبر عما عبر عنه معتقد التوحيد، فلا مناص من القول بأن معتقد التوحيد يقول بعقيدة الحلول، وليس في ذلك أي تهمة يجب نفيها عن العقيدة الدرزية، بل بالعكس يحق لها أن تفخر بذلك، لأن طريق الصوفية كانت دائماً الطريق الأساسية، لتعميق الوجدان الديني والشعور بالاتصال والتعاطف مع جميع الكائنات من خلال الاتصل بالذات الالهية. ولذلك كانت نفس الصوفي الكبير تشع دائماً محبة لا متناهية تشمل الكائنات كلها برعايتها، تلك المحبة التي لا يمكن اكتسابها إلا بالفناء في المحبة الإلهية نفسها: وما الفارق بالنسبة للصوفي الحقيقي، بين المحبة الإلهية الخالصة وبين الذات الإلهية؟
يعرف الدكتور مكارم الدرزية على أنها “مسلك توحيدي استجاب إلى الإسلام وأدرج فيها، غير أنه كان مستبطناً أيضاً في الشرائع التي تقدمت الإسلام”. وهذا التعريف يثير سؤالاً هاماً: إلى أي حد يمكننا أن تعتبر الدروز إسلاماً حسب التعريف المتواضع عليه والسائد للسلام وعقائده؟ لا شك أن المذهب الدرزي مشتق من الفرق الإسلامية العديدة، ولا ريب أنه نما وترعرع ضمن نطاق الحضارة الإسلامية وإطارها الثقافي والديني واللغوي والفلسفي. ولكن السؤال الذي طرحناه لا يتعلق بتاريخ الدرزية وجذورها وإنما هو سؤال مذهبي يتعلق بالعقائد الدرزية الجوهرية ومدى تطابقها مع العقائد الاسلامية التي تحدد جوهر الإسلام وفحواه.
ويبدو لي، مما اطلعت عليه، أن العقيدة الدرزية لا تؤمن برسالة محمد وبنبوته ودعوته بالمعنى الذي يؤمن بها المسلم ويتقبلها، كما أن العقيدة الدرزية لا تؤمن بما يتبع من نبوة محمد من النتائج مثل كونه “سيد المرسلين” و”خاتم الأنبياء” ألخ… ولذلك لابد لنا من نفي صفة الإسلام عن العقيدة الدرزية بالمعنى المذهبي والعقائدي للعبارة. وأنا لا أعبر عن هذا الرأي باعتباره نقداً أو مأخذاً على العقيدة الدرزية، بل بالعكس أقوله احتراماً مني لها كعقيدة دينية قائمة بذاتها، لها مقومات أساسية تعطيها طابعها الخاص والمميز عن بقية الديانات، علماً بانها تفاعلت تفاعلاً مجدياً وخلاقاً مع البيئة الحضارية والثقافية التي وجدت فيها، فكانت مذهباً روحياً غنياً جمع بين العقل والإشراق الصوفي، وبين الحكمة والعاطفة الدينية الحية.
- المصدر: مجلة (حوار) العدد (23) آب/ أغسطس 1966
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023