أمراض الواقع السوري بين العدالة الانتقالية والعدالة التصالحية
لقد ارتكبوا بحقنا جرائم لا يمكن وصفها، ولا يمكن أن تُغتفر أبداً
د. علي حافظ – العربي القديم
الواقع السوري مريض، مريض جداً، بكل أنواع الأمراض المزمنة الممكنة؛ والتي أصابته خلال عهود آل الأسد الاستبدادية القمعية الماضية.. يشعر الكثير من الناس بحالات من الارتياب والشك وعدم اليقين.. هم متوجسون من ربيعنا القادم؛ ويعتقدون أن زهوره التي ستزهر قريبًا، ربما لن تكون زهورهم!
في الحقيقة، إننا نخرج من بلد بقي دهراً تحت حكم أسوأ الأنظمة في العالم وأعنفها وأقذرها إطلاقاً.. لقد ارتكبوا بحقنا جرائم لا يمكن وصفها، ولا يمكن أن تُغتفر أبداً؛ فأنا لا أعرف أي كلمة، ليس في اللغة العربية فحسب وإنما في كل اللغات الأخرى، تنطبق على تلك المخلوقات الوضيعة التي كانت على استعداد لسجننا وتعذيبنا مدى العمر، وإنهاء حياتنا بكل سهولة.. إن أي كلمة في كل قواميس البشرية لا يمكنها أن تقترب حتى من وصفها!
من الطبيعي أن يخرج الناس “من زنزاناتهم نصف عميان ونصف مجانين” – كما كتب فرناندو أرابال في “رسالة إلى الجنرال فرانكو”؛ فهؤلاء يحتاجون إلى وقت طويل حتى يسترجعوا نور أعينهم وتوازنهم العقليّ والنفسي، وإدراك قيم الحياة، لينخرطوا مجدَّدًا في المجتمع وفعالياته.
أولئك الذين لم يشاركوا في الثورة لن يفهمونا؛ فرغم توافر الفرص لديهم للوقوف مع الحق، وتقاسم المصير ذاته معنا؛ إلا أنهم لم يفعلوا!
لقد دفعنا ثمناً غالياً من أجل لحظات النصر الراهنة؛ ونحن غير مستعدين للتفريط بها أو إضاعتها؛ لأنها لن تعود ثانية!
يبدأ كل شيء من تطبيق العدالة الانتقالية، وليس العدالة التصالحية التي يسعى إليها بعضهم.. يبدأ بالمحاسبة ومعاقبة مرتكبي الجرائم من كل الأطياف والجهات، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها. ومن ثم يأخذ كل شيء مساره كما يجب.
نحن اليوم أبناء وطن رجع لنا من جديد؛ لكنه ما زال مجروحًا مكلومًا مدمرًا، مليئًا بالكوارث والمقابر الجماعية.. وطن متخم بالقتلة والشبيحة والمخبرين والمتحربنين الذين تعودوا على السرقة والتسلط والتسلبط، والأخذ دون أن يعطوا أو يقدموا شيئًا…
هناك فصائل متطرفة ومرتزقة، هناك معارضة فاشلة ومرتبطة بالخارج، هناك أشخاص طفيليين ومتطفلين… انظروا إلى ما يقوله غوته على لسان بطله مفستوفيلس، الذي يتناسب تمامًا مع حال الكثير من السوريين في يومنا هذا: “ما لا تلمسه هو على بعد أميال منك، ما لا تفهمه مفقود منك تمامًا، ما لا تصدقه، ليس صحيحًا، ما لا تزنه ليس له وزن بالنسبة لك، ما لا تعمله، في رأيك، هو غير صالح!”.
أمامنا عمل كبير وعسير علينا إنجازه، ولدينا مهام ومتطلبات ومطالب صعبة جدًا… يحتاج الأمر إلى تضحيات ضخمة، والقيام بأشياء خارقة وجادة وعظيمة… يجب الاعتماد على النفس فقط؛ لأن كل من يأتي إلينا يحمل شروطه ولاءاته!
انطلقت شرارة الثورة من الجنوب؛ وانتهت من الشمال.. سوريا بعد الثامن من كانون الأول 2024 ليست كما كانت قبله؛ هي الآن تمثل صورة أولئك الملايين الذين ملأوا شوارع وساحات المدن والقرى، وهتفوا “ارفع راسك فوق أنت سوري حر”؛ نعم، حر لأول مرة منذ نصف قرن.. هي صورة أولئك الملايين من المنفيين والمهجرين قسرًا، والذين سيعودون بالتدريج إلى ديارهم بعد سنوات من التشرد والبؤس في دول لم تستقبلهم بود وترحاب.. هي صورة آلاف الخارجين من فروع المخابرات والسجون والمعتقلات…
يجب ألا ندفن أنفسنا في الظلمة.. أنا، وغيري، نريد أن نعيش في بلد حر والباقي أمور ثانوية بالنسبة لنا.. لا تحرمونا من هذه النعمة التي، ربما، تصبح حقيقة وواقعًا؛ بينما كانت من المستحيلات حتى وقت قصير!
اليوم يمكنني قراءة ما كتبته داينا ماريا مولوك في مؤلفها “حياة من أجل حياة” بكل جمال وروعة، وكأنها تعبر عن نفسي في هذا الوقت بالذات: “يا لها من راحة، راحة لا توصف، أن تشعر بالأمان..؛ فلا يكون عليك أن تزن أفكارك ولا أن تقيس الكلمات، بل أن تسكبها كلها كما هي، قشًا وحبوبًا معًا، مع العلم أن يدًا أمينة ستأخذها وتنخلها، وتحتفظ بما يستحق الاحتفاظ به، ثم، بنسمة من اللطف، تتخلص من الباقي”.
لا يوجد حلول سحرية سريعة وفعالة في الوقت الحاضر؛ والمرحلة حساسة ومفصلية وإشكالية.. أنا أؤمن بمستقبل أفضل، وأعتقد بأنه سيكون أفضل من أي وقت مضى. لكن التدخلات الداخلية والخارجية لا تحدث الآن بشكل مخفي، بل بشكل علني وعلى نطاق واسع.
يتوقع جميع الناس أشياء إيجابية سريعة بعد انتصار الثورة وتحرر البلاد. أما أنا فلا أتوقع الكثير، ومع ذلك، ما زلت أنتظر أن أعيش، وأن تعترف بيّ الحياة.. أشعر أنني خلقت في الآخرة؛ وأعود الآن تدريجيًا إلى الحياة!