مطارق الاستحقاق الأخلاقي: أوجاع السوريين بين التجاهل والتعالي
ظاهرة الوصاية الأخلاقية من منظور سيكولوجي.
يقول الكاتب مارك توين: “بالنسبة لشخص يحمل مطرقة، كل شيء يبدو مسماراً” هذه العبارة تلخص بشكل لافت ظاهرة شائعة في حياتنا اليومية، وهي الميل إلى إصدار الأحكام الأخلاقية على الآخرين من منظور أحادي صارم. يتحول حامل المطرقة هنا إلى وصي أخلاقي يرى في كل تصرف أو موقف “مسماراً” يجب إصلاحه أو تهذيبه. في السياق السوري وعنوانه المتجلي بالألم والمعاناة، تتجلى هذه الظاهرة بأبعاد أكثر قسوة، تفرض نفسها على مجتمع مثقل بالنزوح والتشريد والخسارات.
الوصاية الأخلاقية: بين المثال والواقع
في ظل الظروف الاستثنائية التي يعيشها السوريون، نجد أن البعض ممن يعيشون بعيداً عن خط النار يجنحون إلى التنظير الأخلاقي والمطالبة بمثاليات تكاد تكون مستحيلة التحقق في السياقات الطبيعية، فما بالك في سياق مليء بالدمار والتهجير؟ هؤلاء الأوصياء الأخلاقيون ينصبون أنفسهم قضاةً، يمارسون نوعاً من الاستعلاء الفكري والمبدئي، متناسين أن أبناء هذا الواقع المأساوي يعانون من أزمات وجودية تُهدد إنسانيتهم في جوهرها.
يتعامل هؤلاء الأوصياء مع المتضررين وكأنهم مادة قابلة للتشكيل وفق قوالب مثالية لا تتناسب مع واقعهم. يطالبونهم بالالتزام بمعايير أخلاقية ومبادئ سامية، وكأنهم يعيشون في ظروف طبيعية تتيح لهم التفكير في هذه القضايا من موقع رفاهية، بينما هم في الحقيقة يكافحون من أجل البقاء، وكثير منهم حتى لا يملك أبسط مقومات وحاجيات الحياة.
جذور الوصاية الأخلاقية
يمكن فهم ظاهرة الوصاية الأخلاقية من منظور سيكولوجي. فهي تعكس حاجة الفرد لتعزيز شعوره بالتفوق والسيطرة والاستحقاق، خصوصاً عندما تكون هذه السيطرة غائبة عن حياته الخاصة. في سياق الواقع السوري، قد يلجأ البعض إلى التنظير الأخلاقي كوسيلة للتماهي مع إحساس زائف بالأمان أو كتعويض عن العجز أمام الكارثة الإنسانية المستمرة.
هذا النوع من الوصاية يرتكز غالباً على اعتقاد ضمني بأن القيم والمبادئ التي يحملها الشخص هي الحقيقة المطلقة، وأن الآخرين يحتاجون إلى “إصلاح” ليتماشوا مع هذه الرؤية. في الواقع هذا التصور يُظهر قصوراً في الفهم وفقدانًا للتعاطف، حيث يُنظر إلى المعاناة كفرصة للهيمنة الأخلاقية بدلاً من كونها دعوة للتراحم والدعم.
أثر الوصاية الأخلاقية على الضحايا
النازحون والمشردون، وهم الشريحة الأكثر تضرراً في الواقع السوري، ليسوا بحاجة إلى دروس أخلاقية، بل إلى مساعدة حقيقية تعينهم على الوقوف من جديد. محاولاتهم البسيطة للبقاء على قيد الحياة في ظل ظروف مأساوية يجب أن تُقابل بالتفهم، لا بالإدانة والوصاية.
عندما يطالبهم الأوصياء الأخلاقيون بالالتزام بمعايير مثالية، يُضاف عبء نفسي جديد إلى قائمة معاناتهم. بدلاً من أن تُصبح القيم الأخلاقية جسراً للألفة و للتعاطف والتواصل، تُستخدم كأداة للضغط والاتهام، مما يعمق إحساسهم بالعجز ويجعلهم يشعرون بأنهم مستهدفون حتى في محاولاتهم البسيطة للنجاة.
استحقاق أخلاقي أم تبرير للخذلان؟
أن تحمل قيماً أخلاقية وتؤمن بمبادئ سامية أمرٌ نبيل، لكنه يتحول إلى نفاق حين يُستخدم لتبرير خذلان الآخرين. في السياق السوري، يُلاحظ أن كثيراً من هذه الوصاية تُمارس من قبل أفراد أو مجموعات لم تُقدم شيئًا ملموسًا لدعم المتضررين. بدلاً من تقديم العون، يكتفي هؤلاء بالتنظير عن بُعد، متسترين وراء شعارات جوفاء.
هذا النوع من السلوك يعكس ميلاً لتجنب المسؤولية. فبدلًا من مواجهة التحديات الحقيقية التي تتطلب تقديم الدعم العملي، يفضل البعض أن يتخذوا موقفاً أخلاقياً مُتعالياً، مما يُظهرهم بمظهر المُتفوقين دون أن يكون لذلك أي تأثير إيجابي حقيقي.
نحو فهم أعمق للكرامة الإنسانية
الحقيقة التي لا يريد بعض الأوصياء الأخلاقيين إدراكها هي أن الكرامة الإنسانية لا تُبنى على الالتزام بمعايير مثالية والتطرف لها، بل على الفهم العميق للآخر كما هو، بكل ما يحمله من ضعف وقوة، من ألم وأمل. الكرامة تبدأ من الاعتراف بمعاناة الآخرين واحترامها، بدلًا من استغلالها لتأكيد التفوق الشخصي.
في السياق السوري، المطلوب هو بناء جسور من التراحم والفهم، لا أسوار من الإدانة والمطالب غير الواقعية. النازحون والمشردون بحاجة إلى أصوات تُناصرهم، لا إلى مطارق تُدينهم. دور القيم والمبادئ الأخلاقية يجب أن يكون دعماً للإنسانية، لا وسيلة لتقويضها.
الوصاية الأخلاقية ليست مجرد ظاهرة فردية بل هي انعكاس لتقصير عميق في التعاطف والفهم، تُمارَس في سياق مأساوي كالسياق السوري، حيث يتحول الألم والمعاناة إلى منصات للوعظ والتنظير. كثير ممن يسمون أنفسهم نخباً ومثقفين يقفون في أبراجهم العاجية، يوزعون أحكامهم ويرسمون معاييرهم المثالية على أوجاع المظلومين، متجاهلين أن هؤلاء الناس يكافحون فقط للبقاء.
إن حمل القيم الأخلاقية والمثل يجب أن يكون مدخلًا للتراحم والتواصل مع معاناة الآخرين، لا مطرقة نضرب بها عزيمتهم ونزيد بها أعباءهم. لنكف عن استغلال آلام المنكوبين لإثبات تفوقنا الأخلاقي، ولنوجه طاقاتنا نحو تقديم الدعم الحقيقي الذي يعينهم على تخطي مأساتهم، ويعيد لهم إحساسهم بكرامتهم، وإنسانيتهم، وحريتهم في عيش حياة كريمة وعادلة دون وصاية.
As I website possessor I believe the content material here is rattling excellent , appreciate it for your hard work. You should keep it up forever! Good Luck.