بين القطيعة والترقيع: الهوية البصرية بين عهدين
الثورات لا ترمم الموجود إنما تقتلع كل ما يمت للماضي من جذوره وتستبدله بجديد يعبر عن إرادة التغيير الشامل

محمود القداح – العربي القديم
بالأمس تم رفع الستار عن الهوية البصرية لسورية الجديدة التي حملت تغيرا في بنية الرموز والشعارات، والتي ستعبر عن الدولة الجديدة وترسم ملامح طموحها المستقبلي، بعد حقبة طويلة من سيطرة حزب البعث، ومن ثم النظام الطائفي الأقلوي الذي حوّل سورية لمزرعة عائلية بالمعنى الحرفي للكلمة، يساعده في ذلك مجموعة من المنتفعين المنافقين من بقية الطوائف، فكانت سعيدة بما يلقى إليها من فتات مقابل تبعية كاملة، وتفان في خدمة أهدافه الدنيئة التي لا تقيم وزنا لسورية الوطن التي راكمت عبر التاريخ أسفارا من الأمجاد و المساهمات المؤثرة في التاريخ البشري اقتصاديا واجتماعيا ودينيا وفكريا، فكانت درة الشرق لأزمنة طويلة من خلال حضارات متعددة قامت على أرضها حملت من خلالها مشعل الحضارة للبشرية قاطبة .
لم يكن النظام البائد يبدي أي اهتمام بالهوية البصرية في بلد لا ينظر إليه إلا كما ينظر محتل لمستعمرته التي يجب أن يمتص خيراتها قبل موعد رحيله المحتوم، فعمل على تشويه كل ما استطاع من إرث حضاري، واقتصر اهتمامه على رموز تكرس سيطرته على كل شيء بالقوة، فكانت صور رموزه تنتشر في كل مكان وتماثيل طغاته تقف في كل ساحة تذكر الشعب بسطوته وجبروته وأن عليهم الطاعة والاذعان لرغباته بل وامتداح كل فعل مهما كان خسيسا ودنيئا .
لقد صادر النظام الهوية الوطنية وجعلها مجرد شيء تافه أمام هيمنة رموزه فلم تبق مؤسسة أو شارع أو مدرسة إلا وأثقل كاهلها باسم مستمد من اسم عائلته فتحولت ظلما وزورا إلى سورية الأسد .
لم يهتم الأسدين يوما بمكانة سورية وشعبها الذي أصبح مدانا منبوذا ذليلا في كل مكان يذهب إليه، فلعنة الأسد كانت تلاحقه أينما حل أو ارتحل حتى بات يخجل من جنسيته التي يحملها لأنها كانت تشكل معاناة حقيقية له في كل مكان .
كل هذا كان مقصودا ومطلوبا من قبله فكسر إرادة الشعب وإذلاله وإخافته، كانت وصفته السحرية لضمان استمرار حكمه وسيطرته إلى الأبد .
بالأمس أعلن عن الهوية البصرية السورية الجديدة التي استبدلت فيها كل الرموز السابقة كنتيجة طبيعية لانتصار ثورة الشعب فالثورات لا ترمم الموجود إنما تقتلع كل ما يمت للماضي من جذوره واستبداله بجديد يعبر عن إرادة الشعب بالتغيير الشامل على أسس جديدة لبناء الوطن والانسان.
كان لافتا غياب هتافات التمجيد والتصفيق والنفاق المصطنع الذي كان أحد سمات العهد البائد عند كل حدث أو تجمع مهما كان تافها، هذا لوحده يبشر بخير قادم تماما كما أراد الأحرار منذ اليوم الأول من أيام الثورة المجيدة .تضمنت الهوية البصرية الجديدة مجموعة جيدة ومعبرة و طموحة من الرموز والشعارات عبر معظم السوريين عن سعادتهم بها و تفاؤلهم بتحقيقها .
هنا لابد من القول أن الرموز لا تحمل من المعاني إلا تلك التي يضفيها الإنسان عليها فالعقاب الذي نرى فيه القوة والشموخ والتحدي والانطلاق نحو المجد الذي نصبوا إليه قد لا يعني في نظر غيرنا شيئا فقيمة الرموز نحن من نحددها من خلال المعاني التي نسبغها عليها والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بجهود متواصلة من السلطة والشعب معا .
فالهوية كانت موجودة أساسا من قبل، لكن الدكتاتورية أفرغتها من محتواها وعملت بعكس مقتضاها وربطتها بشخوصها وأصبح الشعب مجرد شاهد زور على ما يجري لا حول له ولا قوة .
الشعوب هي التي تمنح السلطة لقادتها طالما خدموها بصدق وأمانة وعملوا على تحقيق أهدافها و تلبية طموحاتها وعليها أن تكون الرقيب الذي لا يغفل عن حقه كي لا يستغفل من جديد فتتكرر المأساة و يدفع الشعب الثمن من جديد.
مبارك لكل الشعب السوري الحر الذي دفع أثمانا غير مسبوقة في سبيل نيل حريته من أجل بناء دولته الجديدة كما يريد ويطمح .