الرأي العام

جوقة التَّطبيل والتَّزمير: قراءة في الواقع الثَّقافيِّ السُّوريِّ

لو بحث مدير المديريَّات سيجد كثيرًا من الحجج، الَّتي تبرِّر اصطفافه لصالح استرداد وزارة الأوقاف عقارها، إلَّا الاستشهاد بصورة الوزير المصلِّي جماعة

بُنيت المسارح الإغريقيَّة واليونانيَّة والرُّومانيَّة القديمة على أشكال دائريَّة من الحجارة الصُّلبة في الهواء الطَّلق، وكان شكلها يشبه مدرَّجات ملاعب كرة القدم في وقتنا الرَّاهن، وكانت خشبة المسرح في مركز هذه الدَّائرة، حيث يشاهد المتابعون الممثِّلين، ويسمعون غناء المنشدين وحوارات الممثِّلين وتراتيل الجوقة المسرحيَّة وأناشيدها حتَّى وإن كانوا في أبعد زاوية من زوايا المسرح. وقد فرض هذا الشَّكل على فنِّ المسرح قانون الوحدات الثَّلاث؛ أي وحدة الزَّمان ووحدة المكان ووحدة الحدث؛ أي أوجب على كاتب المسرحيَّة ومخرجها أن يُعِدُّوها على شكل قصَّة تدور أحداثها في يوم واحد ومكان واحد، وتروي حدثًا متأزِّمًا واحدًا يدور في فصول عدَّة؛ إذ لا يمكن للمخرج والممثِّلين-وبسبب انكشاف المسرح على الجمهور-أن يغيِّروا الدِّيكور أو السِّينوغرافيا؛ ليقنعوا الجمهور بأنَّ جزءًا من أحداث المسرحيَّة أو فصولها يدور في مكان آخر. أمَّا مسارح العصور الحديثة فقد بنيت بشكل شبه مغلق، يفصل فيها بين الممثِّلين والجمهور ستارة المسرح؛ تلك السِّتارة المهمَّة جدًّا، والَّتي تفصل بين عالمين؛ عالم الجمهور أمامها، وعالم الكواليس خلفها، وقد طوَّرت هذه السِّتارة المسرحَ شكلًا ومضمونًا، وحطَّمت قانون الوحدات الثَّلاث، ومكَّنت المخرجين والممثِّلين من تغيير الدِّيكور وتقديم أحداث قد تدور في أماكن متباعدة زمانًا ومكانًا.

وإن كان الحدث بحبكته وعقدته مع الحوار وصراع الشَّخصيَّات في بيئتيها الزَّمانيَّة والمكانيَّة أبرز مكوِّنات المسرح الكلاسيكيِّ القديم فإنَّ الجوقة المسرحيَّة كانت وما زالت واحدًا من أبرز عناصر المسرح والتَّمثيل والأعمال الدِّراميَّة كلِّها برغم اعتقاد البعض بأنَّ الجوقة المسرحيَّة انقرضت أو تراجع دورها على أقلِّ تقدير؛ لكنَّني أعتقد أنَّ الجوقة المسرحيَّة لم تنقرض أبدًا وإنَّما تطوَّر شكلها ومضمونها؛ وظهرت جوقات أخرى من ذاك الأصل؛ كجوقة التَّطبيل، وجوقة النِّفاق، وجوقة التَّزمير، وجوقة تمسيح الجزخ وغيرها، وظهر مثل هذه الجوقات دفعني إلى استخدام الجوقة هذه كأداة لتشريح الواقع الثَّقافيِّ السُّوريِّ في هذا المقال.

الجوقة المسرحيَّة لمن لا يعرفها هي مجموعة من المنشدين أو المغنِّين يقفون على خشبة المسرح خلف الممثِّلين أو يقفون أمامهم أو بجوارهم أو في زاوية قصيَّة من المسرح، وربَّما أجلسهم بعض المخرجين بين الجماهير؛ ليغدو الجمهور جزءًا من المسرحيَّة ذاتها، وتُعرف الجوقة أحيانًا بأسماء أخرى مثل الكورال أو الكَوْرَس، وهي جزء مهمٌّ جدًّا من المسرح القديم، وربَّما كانت أهمَّ عنصر من عناصر المسرحيَّة، علاوة على كونها نموذجًا من نماذج الأسلبة (Stylization) أو طريقة من طُرق تطوُّر أحداث المسرحيَّة أو سدِّ الثَّغرات المعضلة فيها؛ فقد تُنشد الجوقة للبطل أمام الجماهير؛ فتكون صوت الضَّمير الَّذي يحثُّ البطل على الإقدام والشَّجاعة، وربَّما تصبح مونولوجه الذَّاتيَّ أو نجواه الذَّاتيَّة، وقد تغنِّي الجوقة فيشير غناؤها إلى أنَّ البطل صار في ورطة أو مأزق أو صار في مدينة أخرى أو زمن آخر، وقد تمثِّل صوت الطَّبيعة أو صوت الرِّيح أو صوت الرَّاوي العليم أو صوت البطل المساند، الَّذي يخاطب البطل الفرد أو شاعر الشُّعراء أو مدير المديريَّات، ويقدَّم النُّصح له؛ وبمثل هذه الأفكار تمكَّن المبدعون من تسخير الجوقة وتوظيفها لتلميع البطل ولتحطيم قانون الوحداث الثَّلاث قبل اكتشاف ستارة المسرح، ومن خلالها رجع كتَّاب المسرح ومخرجوه العظماء بالأحداث بطريقة تشبه (الفلاش باك)، وبها أيضًا قدَّموا الأحلام والنُّبوءات، واستشرفوا بعض الأحداث المستقبليَّة، مع أنَّ الأحداث تدور في زمان واحد ومكان واحد وفي ظلِّ ديكور واحد لا يمكن تغييره أبدًا؛ ومن هنا صارت الجوقة المسرحيَّة ذات البناء المحكم ضابط إيقاع الأحداث وأهمَّ عنصر في المسرحيَّة ومقياس نجاحها في البروفات الأوَّليَّة بين المخرج والممثِّلين وخلال العرض أمام جمهورهم الحاضر قبل شيوع المسرحيَّة وانتشار اسمها وسمعة كاتبها وسيط مخرجها وبطلها وممثَّليها في أماكن أخرى؛ لذلك صارت الجوقة كلمة السِّرُّ في نجاح الكاتب المسرحيِّ والمخرج المسرحيِّ ومدير المسرح ومدير مديريَّات الثَّقافة أيضًا؛ ومن هنا حرص كلُّ كاتب وممثِّل ومخرج ومدير على إعداد جوقته أو جوقاته الخاصَّة به؛ بطريقة تمكِّنه من قيادتها عن قرب أو توجيهها عن بعد، وبسبب جلوس بعض أعضاء الجوقات بين الجماهير وإنشادهم بينها أو تصفيقهم بينها، اختلط التَّمثيل بالواقع، وما عرف بعض المتلقِّين هل هذا التَّصفيق تصفيق عفويٌّ بسبب نجاح المشهد أو هو حيلة أسلوبيَّة مدروسة تمامًا مثلها مثل أيِّ مسرحيَّة انتخابات شكليَّة كان المجرم المخلوع بشَّار الأسد يفوز فيها بنسبة 99.99. وبهذه الحيلة الأسلوبيَّة استطاع مدير إدارة التَّوجيه المعنويِّ ومدير المسرح مع مدير المديريَّات ترتيب جوقاتهم التَّصفيقيَّة أو بناء شللهم التَّطبيليَّة داخل المسرح أو في مراكز المحافظات، وبالمحصِّلة اختلط الواقع بالتَّمثيل؛ وظهرت أقوال مهمَّة تصبُّ في هذا المنحى؛ يقول بعضها: مَن رأى ليس كمن سمع، ولا تصدِّق كلَّ ما تسمعه بل صدِّق نصف ما تراه، ولأنَّ بعض الجوقات كانت غايتها التَّطبيل المطلق بما يشبه شهادة الزَّور أو الانتفاع بشهادة الزُّور أطلق بعض الجماهير عبارته خلال متابعته إحدى المسرحيَّات؛ فقال: (شهادتي مجروحة بهذا الجوق من تحت لفوق)؛ وذهبت مقولته مثلًا يُقوله النَّاس: كلَّما شاهدوا مطبِّلًا أو شاهد زور من المنتفعين.

الشَّاعر في المسرح

أستعير ههنا عنوانًا لكتاب مهمٍّ في النَّقد الفنِّيِّ، ألَّفه رونالد بيكوك، وترجمه ممدوح عدوان، ونشرته وزارة الثَّقافة السُّوريَّة سنة 1994، وأنصح كلَّ مشتغل في النَّقد الفنِّيِّ والنَّقد الثَّقافيِّ بقراءة هذا الكتاب نظرًا لتشريحه فنِّ المسرح بصفته أبا الفنون كلَّها، ولبحثه عن موقع الشَّاعر في المسرح، أو لبحثه عن أبوَّة المسرح للشِّعر وللقصَّة والرَّواية والدِّراما والسِّينما والتِّلفاز والموسيقا والتَّصوير والغناء والإنشاد الدِّينيِّ، الَّذي تطوَّر بدوره من أناشيد الجوقة في المسرح الوثنيِّ اليونانيِّ القديم إلى التَّراتيل الكنسيَّة في العهود المسيحيَّة.

أُعرِّج ههنا قليلًا على موقف الإسلام السَّلبيِّ في نشأته الأولى من فنون النَّحت والرَّسم والتَّصوير خوفًا على المسلمين الأوائل أو الجدد من النُّكوص إلى عبادة هذه الصُّور والأصنام أو أشكال الآلهة المتخيَّلة على أشكال أصنام، والمسرح أبو الفنون لم يكن بمنأى عن موقف الإسلام السَّلبيِّ منه نظرًا لارتباط نشأته الأولى بالأمم الوثنيَّة القديمة ممَّن يعتقدون بتعدُّد الآلهة ويجسِّمونها من فراعنة مصر القديمة أو وثنيِّي أثينا وسائر اليونان، ولو بحث رجال الدِّين عن رُخصة اجتهاديَّة تجاه بعض الفنون لما عدموا حيلة في ذلك بشرط وجود العالم الجريء أو المجتهد، فقد كان التَّصوير محرًّمًا في نشأة الإسلام الأولى، وظلَّ محرَّمًا أو مكروهًا كراهة شديدة حتَّى قبل وقتنا الرَّاهن بسنوات قليلة، وفي المشاعر المقدِّسة أيَّام الحجِّ أو العمرة في مكَّة المكرَّمة، حيث يرغب بعض الحجَّاج المسلمين بالاحتفاظ ببعض هذه الذِّكريات الجميلة والمقدِّسة والغالية على قلوبهم من خلال الصُّور أو المقاطع المرئيَّة، ولا يعدم في كثير من الأحيان شيخًا أو آخر ينصحه بعدم التَّصوير، ويكفي لمثل هذه الرُّخصة-ومن وجهة نظر شخصيَّة-أن يعرف رجل الإفتاء المجتهد أنَّ الصُّورة ذاتها في وقتنا الرَّاهن لم تعد أبدًا بوَّابة للعودة إلى الوثنيَّة أو الشِّرك أو عبادة الصُّور أو الهياكل أو الأصنام، بل القمع والاستبداد وسلب حرَّيَّة الرَّأي والتَّفكير المختلف وانتشار الجوقات الشِّلليَّة وغياب العدل والعدالة أكثر مدعاة للنُّفور والفساد بكلِّ أشكالها، فقد قيل لعمر بن عبد العزيز: فسدت الرَّعيَّة يا أمير المؤمنين، فلا بدَّ من السّوط وعصا الطَّاعة؛ فقال: لا، بل العدل يصلحها!

يبدو أنَّ مسألة الموقف من الفنون الثَّقافيَّة تحتاج الفقيه المجدِّد وليس الفقيه المجتهد وحسب، فكما انتقلت أناشيد جوقات المسرح اليونانيِّ الوثنيِّ، وأصبحت تراتيل كنسيَّة في مرحلة لاحقة، تسلَّل الغناء أو (الإنشاد) الدِّينيِّ-كما يحلو لبعض المثقَّفين المتديِّنين تسميته-إلى بعض الجوقات من المثقَّفين الدَّراويش أو مثقَّفي المتصوِّفة، وقاس فقهاء المسلمين المجتهدون إباحة بعض أنواع الموسيقا على إباحة موسيقا الدُّفوف والطُّبول فرحًا بإعلان الزَّفاف، ولم يجد كثير من المثقَّفين المتديِّنين حرجًا في الرَّقص الدِّينيِّ على أنغام الدُّفوف والطُّبول، ورقصوا في كثير من الأحيان على إيقاعات أحدث الأغاني الشَّعبيَّة أو أشهر الأغاني الضَّاربة بعد التَّلاعب ببعض كلماتها، وتحويلها إلى كلمات تمدح الرِّسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو تتغنَّى بسُكَّر الحجاز أو بعض المشاعر المقدِّسة، حتَّى وإن كان هذا التَّحوير يسرق الملكيَّة الفكريَّة، أو ينتهك حقوق صاحب الأغنية الأصليَّة، المهمُّ أن يرقص المتديِّنون الدَّراويش دون حرج، أو ترقص طائفة منهم مثل المتصوِّفة والباطنيَّة والمعتدلين بعيدًا عن النَّقد اللَّاذع، الَّذي يطال بعض الفنون كالرَّقص والموسيقا والسِّينما، إلى حدٍّ قد لا يجرؤ فيه مرسال مراسيل الحبِّ على الدِّفاع عن رسالته، وقد يعزف قاضي قضاة العشق والفنِّ عن الانتصار لحبِّه أو فنِّه، وربَّما اصطفَّ مدير مديريَّات الثَّقافة بعد مرسال المراسيل وقاضي القضاة مع طابور المنتصرين للإنشاد الدِّينيِّ أو الوقفيِّ على حساب فنِّ السِّينما، وربَّما قاس قياسًا خاطئًا لم نسمع بمثله إلَّا في بعض النُّكات الطَّريفة، إذ يجد في صلاة الوزير جماعة مدعاة لصمت النَّاس عن قضيَّة استرداد وزارة الأوقاف عقارًا من عقاراتها بعد تأجيره بعقد مجحف؛ لافتتاحه دارًا للسِّينما، ولو بحث مدير المديريَّات سيجد كثيرًا من الحجج، الَّتي تبرِّر اصطفافه لصالح استرداد وزارة الأوقاف عقارها، إلَّا الاستشهاد بصورة الوزير المصلِّي جماعة، فقد نشر مدير المديريَّات صورة للوزير رائد الصَّالح، وهو يصلِّي جماعة مع بعض المصلِّين، وعلَّق عليها: (هؤلاء هنا…وهناك من يتظاهر احتجاجًا على إغلاق السِّينما)، بطريقة تذكِّرنا بعادل إمام ويونس شلبي وغيرهما عندما سأل أحدهم الآخر في بعض حواراتهم الفنِّيَّة، الَّتي تكشف عن حالة الضَّياع: أنت مع مين؛ معنا إلَّا مع التَّانيين؟ فقال: أنا معكم؛ فقال له: نحن التَّانيين! فما دخل عبَّاس بدبَّاس؟ وما دخل هذا بذاك؟ وما دخل صلاة الوزير أو غير الوزير بإغلاق السِّينما أو تظاهر هذا وتأييد ذاك!

وإن كنت تريد من بعض النَّاس أو بعض المثقَّفين عدم التَّظاهر للمطالبة بعدم إغلاق السِّينما فهذا حقٌّ لك، وإن أردت أن تمنع ذلك بوصفك مديرًا للمديريَّات فهذا قد يكون حقُّك أيضًا، مع أنَّ شقيقك الشِّيخ حسن الدّغيم المفتي في محكمة خان السِّبل أوَّلًا، ثمَّ مدير دائرة التَّوجيه المعنويِّ في الجيش الحرِّ ثانيًا، وعضو لجنة الإعلان الدُّستوريِّ ولجنة اختيار أعضاء مجلس الشَّعب ثالثًا اجتمع بالأمس القريب مع الفنَّانتين منى واصف وكاريس بشَّار وباقي فنَّانات الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة، وطمأن فنَّانيها أيضًا، فما بالك وأنت مدير المديريَّات الثَّقافيَّة؟ تستنكر من خلال التَّعليق على صورة للمصلِّين احتجاج بعض المثقَّفين أو المتظاهرين على إغلاق السِّينما بطريقة غير موفَّقة إطلاقًا هذا بدلًا من نصرتهم أو الصَّمت أو التَّبرير المنطقيِّ على أقلِّ تقدير، بل بأيِّ حقِّ توظِّف صورة المصلِّين-(والصَّلاة شأن خاصٌّ بين الفرد وخالقه)-للتَّعريض بالمتظاهرين؟

كان بإمكانك-وبكلِّ بساطة أن تصمت عن الموضوع، والصَّمتُ حكم، وقليل فاعله، وكان بإمكانك أن تنتصر لوزارة الأوقاف ضدَّ وزارة الثَّقافة ومدير مديريَّاتها ومدير المسارح ومعاهد الموسيقا فيها، كان بإمكانك أن تقول: من حقِّ وزارة الأوقاف أن تستعيد عقارها دون نشر صور المصلِّين ودون التَّعريض بمن يتظاهر ضدَّ إغلاق السِّينما، بل كان عليك أن تتذكَّر أنَّ السِّينما والتِّلفاز والشَّاعر مع مسرحه وجمهوره وإنشاده الدِّينيِّ والأوبِّراليِّ في دار الأوبِّرا كلَّهم مع بعضهم أبناء المسرح فنِّيًّا وأبناء الجوقة المسرحيَّة بأصولها الوثنيَّة أيضًا، وهناك من يرى أنَّ الشِّعر والأغاني والمسرح مع الرَّقص الدِّينيِّ والإنشاد الأوبِّراليِّ كلٌّها نشأت في طقوس الاستسقاء الوثنيَّة في مصر الفرعونيَّة القديمة، وحافظت صلاة الاستسقاء الإسلاميَّة ابتهالًا بسقوط المطر وإطفاء الحرائق على بعض هذه الطُّقوس، ومنها قلبُ الملابس كناية عن البؤس وتغيِّر الحال خلال صلاة الاستسقاء، فقد كان الفراعنة القدماء يقلبون ملابسهم عند احتباس المطر، ويشعلون حُزمًا من الحطب، ويجرُّونها خلف المواشي، الَّتي يضربونها، ويصعدون بها إلى أعالي الجبال ابتهالًا واستسقاء، فيتطاير الشَّرر، ويستحضر مشهد البرق، وتخور الأبقار والثِّيران، ويستحضر الخوار صوت هدير الرَّعد، لعلَّ الخالق بسبب التَّضرُّع والابتهال يتجلَّى بعطفعه على الحيوان والنَّبات والبشر؛ فتجود السَّماء ببعض المطر.

مستقبل الثَّقافة السُّوريَّة على المحكِّ بين الجوقة المسرحيَّة وجوقات الشِّلل الثَّقافيَّة

تطوَّرت الجوقة المسرحيَّة، وفي بعض الجوانب من أسوأ تطوُّراتها أو تحوُّلاتها اختلط منشد الجوقة والممثِّل المنحازان لمسرحيَّتهما بالجماهير؛ فصارا يصفِّقان، ويطبِّلان لبعضهما وللمخرج بعد كلِّ حركة مسرحيَّة سخيفة، وجمهور السوشال ميديا والحياة في كثير من الأحيان مثل جمهور المسرح، تحكمهم جميعهم سيكولوجيا الجماهير، وتأخذهم العواطف، فما إن يصفِّق أحدهم حتَّى يصفِّق الباقون، ولا يعرف كثير منهم: كيف ومتى وأين ولمن ولماذا صفَّق، ويصفِّقون؟ لماذا ولمن وعلامَ يباركون؟ ولو مرَّ خروف أمام مديريَّة الثَّقافة أو البرلمان سابقًا، وصاح: ماع؛ لارتدَّ الصَّدى داخل قبَّة التَّصفيق: إجمااااع…وأنا ههنا أتصرَّف ببعض الجمل المشرقة للكاتب المتميِّز المنصف المزغنِّيِّ، فقبل التَّصفيق لصديقك الشَّاعر في المسرح حبَّذا لو سألته أو سألت نفسك: هل يصلح مدير المديريَّات المنتصر لمدير مديريَّات الوزارة الأخرى قائدًا ثقافيًّا؟ أو لتبسيط السُّؤال بطريقة أخرى: هل يصلح الشَّاعر المشغوف بنبرته الخطابيَّة العالية (الصَّالحة لمرحلة الانتفاض الثَّوريِّ) لمرحلة بناء الثَّقافة بعد التَّحرير؟ هل يجوز لمدير الثَّقافة أن ينحاز للشِّعر ضدَّ المسرح والسِّينما والتَّمثيل والإنشاد الأوبِّراليِّ والدِّينيِّ معًا؟

بالتَّأكيد، هناك أسئلة أخرى وتفريعات نقاشيَّة أعقد وأدقّ، لا يستحمل هذا المقال الخوض فيها؛ يرتبط بعضها بسيكولوجيَّة الجماهير ويرتبط بعضها الآخر بسيكولوجيَّة المدير وتحوُّلاته أيضًا، وللإنصاف أيضًا قد يكسب المسؤول والمدير في موقع المسؤوليَّة بعض المطبِّلين، وقد ينجح في تشكيل شلل جديدة أو جوقات شلليَّة جديدة، أو بمعنى أدقّ قد يحقِّق مكاسب شعبيَّة أو جماهيريَّة أو مادِّيَّة أو سياسيَّة أو إعلاميَّة من منصبه؛ لكنَّه من جانب آخر سيفقد وقته المخصَّص لفنِّه وعائلته، سيتراجع فنُّه وقبل نضوج تجربته إن هرول إلى المناصب، وسيصبح هو وفنُّه وربَّما شؤونه الخاصَّة أيضًا…سيصبحون على المحكِّ وتحت رادار الرَّقيب، وسيصبح عرضة لكلِّ نقدٍ محقٍّ أو غير محقٍّ، وأنا ههنا قد لا أكون محقًّا في بعض كلامي…لكنَّني-وبكلِّ أمانة-لا أكتب إلَّا من خشيتي على الثَّقافة السُّوريَّة بأن تصبح ثقافة جوقات شلليَّة، ولديَّ أمثلة حيَّة وصعبة ومريرة عن الفساد في جامعة حلب الحرَّة وعن الجوقات الشِّلليَّة فيها قبل ردع العدوان والتَّحرير، ففي يوم من الأيَّام عندما كان الدُّكتور عبد العزيز الدّغيم رئيسًا لجامعة حلب الحرَّة قبل التَّحرير (وهو شقيق أنس الدّغيم مدير المديريَّات)، قدَّم الباحث إبراهيم الدّغيم (وهو ابن عمَّة أنس الدّغيم) رسالة ماجستير عن التَّناصِّ في شعر أنس الدّغيم، وأُبعد أكثر من دكتور كفء بسبب الجوقات الشلليَّة الفاسدة عن مقاعد التَّدريس من جامعة حلب الحرَّة؛ لأنَّه خارج جوقات التَّصفيق الشّلليَّة؛ فرحل بعض الأساتذة المتميِّزون من جوقات الشِّلل والتَّصفيق والتَّطبيل والتَّزمير والنِّفاق والفساد وتمسيح الجوخ، واستقرُّوا في أكبر الجامعات المرموقة في الوطن العربيِّ، وفي الختام أكتب عن الجوقة وتحوُّلاتها لا للتَّشهير ببعض الجوقات ومسِّيحة الجوخ والمنتفعين بنفاقهم، وإنَّما أكتب كيلا نرحل من تحت الدَّلف إلى تحت المزراب؛ أكتب كيلا نستبدل جوقة المسرح بجوقات من شلل التَّصفيق والتَّطبيل والتَّزمير!

زر الذهاب إلى الأعلى