أرشيف المجلة الشهرية

شخصيات من حماة وذكريات

العربي القديم – ميخائيل سعد

المعروف تاريخيا عن حماة، إنها مدينة “الزكرتيي” والقبضايات، وعن الحمويين أنهم فرسان وأصحاب شهامة وكرم، ومعروف للجميع الدور الكبير والرائد الذي لعبه الحمويون في الثورات السورية المتعددة منذ عام 1925، وحتى وقتنا الراهن.

لست الآن بصدد عرض تاريخ حماة الاجتماعي أو السياسي، فهو أكبر من قدراتي الشخصية وأكبر من المساحة التي يمكن أن تخصص لهذا الأمر مهما كانت كبيرة.

ولكن في الثاني من شباط من كل عام، وهو تاريخ المذبحة الأسدية للمدينة عام 1982، أتذكر بعض النماذج الحموية التي مرت في حياتي، والتي قد تكون نماذج نمطية رائعة عن الحمويين، وفي استعراض حالتين مرتا معي في المدينة، وأنا أعيش ظرفا استثنائيا فرضه علي أيضا نظام حافظ الأسد، ما قد يلقي الضوء على سبب من الأسباب الكثيرة التي دفعت حافظ الأسد إلى تدمير المدينة، وقتل أكثر من ثلاثين ألف من الحمويين، إنها نخوة الحمويين؛ نعم “النخوة” التي تدفع الإنسان للمغامرة أحيانا بمستقبله من أجل مساعدة الآخرين والتضامن معهم، وقول كلمة الحق، ومحاولة رفع المظلومية عنهم. في هذه المقالة سأكتفي بالإشارة إلى شخصين قدما لي خدمات مهمة عندما كنت سجينا سياسيا في سجن حماه المدني عام 1976.

*الشرطي أبو عبدو

كنت أبحث عن سبب أغادر فيه السجن، فطلبت من الطبيب الحموي الطيب المشرف على السجناء أن يحولني إلى مشفى حماه الوطني لإجراء عملية “طهور” مدعيا أنني دائما أصاب بالتهابات بولية، ضحك الطبيب وأرسلني إلى المشفى. كنت عازبا وفي السادسة والعشرين من عمري، وكان الشائع أن الرجل “المطهر” أكثر ”فحولة“ من غيره، وتساءلت لماذا لا أكون “فحلا” وفي الوقت نفسه أكسب إجازة أسبوعين أمضيهما في نظارة السجن، وهذا ما كان.

استطعت خلال الأسبوعين اللذين أمضيتهما في المشفى، أن أكسب صداقة شرطة المخفر، وأن أزيل من عقولهم الخوف من السجين السياسي، فهو ليس داء معديا كالجرب مثلا، كما قيل لهم، وهو ليس خطيرا ولا قاتلا، إنه إنسان سلاحه الكلمة التي تطلب الإصلاح، وتشير إلى مواطن الفساد في الدولة والمجتمع، وما أكثرها.

وكان الشرطي الحموي أبو عبدو أحد هؤلاء وأكثرهم إصغاء لي، رغم فارق السن بيننا، فهو في حدود الأربعين من العمر.

بعد انقضاء مدة الأسبوعين سألني الطبيب، إذا كنت أودّ العودة الآن إلى السجن، فقلت له نعم، يكفي هذا. كتب الطبيب أمر إخراجي من المشفى وإعادتي إلى السجن، وفي الثانية بعد الظهر كنت قد أصبحت خارج السجن برفقة صديقي الشرطي “أبو عبدو”. ولمن لا يعرف، كان المشفى خارج مدينة حماه على طريق حمص في ذلك الزمن. عندما وصلنا إلى الطريق العالم، وكان قد نزع “الكلبجات” من يدي بمجرد مغادرتنا للمشفى. وقف أبو عبدو وجها لوجه أمامي قائلا: أسمع يا صديقي، ستذهب إلى حمص الآن، على أن تكون هنا قبل التاسعة مساء، فالقانون يعطيني الحق بذلك، المهم أن نكون عند باب السجن قبل التاسعة.

نظرت مليا في وجه الرجل، وبثانية واحدة عبرت بذهني كل قصص الهروب السياسي من السجون، متخيلا نفسي بطلا تتحدث عنه الصحف ووسائل الإعلام، وتذكرت كل الأفلام، وخاصة الحسناوات اللواتي يرافقن أبطال الهروب، ولكنني استيقظت على سؤال “أبو عبدو”: وين صرت يا أستاذ، شو قررت؟

قلت له: شكرا أبو عبدو، لن أذهب إلا إلى السجن.

قال مازحا: أليس عندك زوجة أو عشيقة، يمكنك أن تقضي معها عدة ساعات، تجرب فيها فاعلية “الطهور”، كما يمكنك أيضا أن ترى أهلك، لا شك أنك تشتاق لهم ولحارتك، ولا تظن أنني سأذهب معك، ستذهب وحيدا، ونتفق الآن على المكان الذي نلتقي فيه عند عودتك.

شكرت أبو عبدو، مكررا رفضي لعرضه الكريم. وأنني لا يمكن أن أقبله خوفا عليه أولا وعلى عائلته.

فربما حصل حادث للسيارة التي تقلني من حماه إلى حمص، وربما يراني أحد في حمص وهو يعرف أنني في السجن فينتشر الخبر ويصل إلى المخابرات، وقد يحدث لأهلي، وخاصة أبي، صدمة عندما يراني ويعرف أنني سأعود إلى السجن بعد قليل، في كل الاحتمالات التي ذكرتها سيتم إلقاء القبض عليك بتهمة تهريب سجين سياسي، ولا أستطيع بالمقابل تحمل مسؤولية أولادك وأفراد أسرتك الأربعة ماديا وأخلاقيا. لذلك أشكرك على هذه النخوة التي لن تفيدنا، لا أنت ولا أنا.

نظر إليّ أبو عبدو، الذي لا يزن أكثر من خمسين كيلو غرام في أحسن الأحوال، ثم فتل شاربيه المعقوفين كمنقار صقر، وقال بحسرة: طيب ماذا ترغب أن تفعل في حماه حتى المساء؟

قلت له: اعذرني يا صديقي، سأسألك سؤالا شخصيا أرجوأن لا يزعجك: هل تشرب خمرا بين وقت وآخر؟

قال ضاحكا: طبعا، بين وقت ووقت، هل ترغب بشرب قدح من العرق على ضفاف العاصي؟

وكان أن أمضينا عدة ساعات في أحد مطاعم المدينة المنتشرة على ضفاف العاصي، وفي السابعة مساء ودعت “الزكرت” الحموي أبو عبدو على باب سجن حماه المدني، ولم أره بعد ذلك.

*الدكتور عادل زكار

كل نزلاء سجن حماة المدني ينصحونك بالذهاب إلى عيادة الدكتور عادل زكار عندما يصيب أسنانك مصيبة، ومصائب الأسنان في السجون كثيرة، وخاصة لمن كان في سجن المزة قبل أن يصل إلى سجن حماه، كما هو وضعي مع المجموعة السياسية التي تم نقلنا من هناك إلى هنا، وللنصيحة جانبان؛ مادي وعملي، فقد برهنت الأيام أنه أحسن طبيب أسنان في المدينة، وأن ما يتقاضاه من أتعاب هو الأقل، وأحيانا يقدم خدماته مجانا للسجناء الذي لا يملكون مالا، هذا ما يعتقده السجناء، وهذا ما اكتشفته شخصياً.

كان تصليح الأسنان مناسبة لتصحيح الكثير من المفاهيم السياسية التي كنت أعتقد بصحتها، فقد تحولت جلساتنا أنا والدكتور عادل زكار في عيادته، في طلعة الدباغة، إلى جلسات أسبوعية مفتوحة.

كان يزعجني فيها ويشعرني بتأنيب الضمير انتظار الزبائن الذين كانوا بعدي، واضطراري إلى الصمت أثناء العمل بأسناني، بينما هذا الشرط لم يكن ملزما للدكتور عادل الذي يستمر في العمل والكلام. عرفت خلال تلك الجلسات أيضا أن الدكتور عادل كان عضواً في قيادة فرع حماة للبعث عام 1963، وأنه ترك هذا الحزب في العام نفسه بعد أن رفضت القيادة، في ذلك الزمن، الرد على مذكرة رفعها لها فرع حماه، وكانت عمليا من عادل زكار، وتنتقد فكرة الجيش العقائدي؛ المفهوم الذي بدأت القيادة في دمشق الترويج له، وكان احتجاج فرع حماة عليه: إنه يقود ويؤدي إلى الديكتاتورية والاستبداد حتما. وبذلك سجل الدكتور عادل زكار موقفا وطنيا كبيرا، وسابقة، في رفض الجاه السياسي على حساب القناعات الفكرية ومصلحة الوطن.

الموقف الآخر الذي عرفته عنه فيما بعد، أثناء مذبحة حماه 1982، أنه سمع أن أحد الأئمة في حماه قد حرض المسلمين في خطبة جمعة، ضد النصارى الكفار، فما كان منه، إلا أن توجه إلى بيت الشيخ طالبا منه أن يدله على المصدر الذي استقى منه معلوماته والتي تقول إن النصارى كفار، في القرآن الذي هو كلام الله، أو في الحديث الذي هو كلام الرسول، وعندما عجز الشيخ عن تقديم الدليل، قال له عادل: في خطبة الجمعة القادمة عليك أن تتراجع علنا عن كلامك السابق، وإلا سأضطر أن أقف وأقول للحمويين إنك تفتري على الله ورسوله. وكان ما اراد، فقد وقف الشيخ وأعلن أنه كان مخطئا فيما قاله عن النصارى، طالبا من الله أن يغفر له ذنوبه.

قد لا يكون الحمويون كلهم مثل الشرطي “أبو عبدو” والدكتور عادل زكار، في مواقفهم الجريئة والمناصرة للحق، ولكن المدينة التي تكون أخلاقها وقيمها ومقياس الرجولة، عند غالبيتها، كما هي عند هذين النموذجين، تكون هدفا للتدمير، من قبل نظام كنظام الأسد الذي كان قد حصل على مباركة دولية ليفعل بسوريا والسوريين ما يشاء بعد اتفاق الهدنة مع إسرائيل عام 1974، الذي تم بموجبه إطلاق يد المجرم في ذبح سوريا وشعبها. كان يمكن أن تنتهي مشكلة حماة بموت عدة مئات وتهديم بعض البيوت، ولكن الأسد أراد بوضوح وتصميم أن تكون حماة درساً وعبرة للسوريين أجمعين، وعلى جماجم أبنائها ودمائهم أسس ممكلته التي استمرت ثلاثة وثلاثين عاما والتي تتساقط الآن.!!!

في ذكرى مذبحة حماة، لنتذكر أن صمتنا عنها هو ما أسس لمذابح اليوم المستمرة منذ أربع سنوات (*)بحق السوريين وسورية، ولنحاول أن لا نصمت الآن عن الاخطاء القاتلة التي ترتكب بحق الثورة، ولنعمل على نتجاوز كل العقبات الداخلية والدولية لتحقيق الانتصار وإسقاط هذا النظام البربري، وتأسيس سوريا الديمقراطية.

_____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

(*) كتب هذا المقال عام 2015

زر الذهاب إلى الأعلى