اللاذقية حكايات أجيال يجب أن تُروى!
إيمان الجابر- العربي القديم
عشت سنوات عمري الخمس الأولى، في الحي الذي يصفه حنا مينة في روايته (المصابيح الزرقاء) أنه: “يؤلف لوحة تحمل طابع الشرق القديم: أزقة ضيقة، ذات أبنية حجرية متقاربة، وأبواب صغيرة أشبه شيء بالكوى، تُفضي إلى باحات واسعة، في وسطها ماء، وزهر وشجر، ومن حوالي الباحة تقوم قاعات ومنتفعات، وعلى أطرافها إلى أعلى، شرفات ذات تخاريم أثرية، تطل على بعضها وتتداخل وتتقاطع على نحو غريب”. إنه حي القلعة في اللاذقية.
حضوره المهيب يمنحه حصانة شيخ جليل مترفعاً عن معاركه القديمة، فاتحاً ذراعيه للجميع، دون تمييز بين ساكن قديم، ووافد جديد، بين بيت أثري، وبيت بُني على عجل، مستمداً هذا الحضور من أصالة عتيقة، وبساطة فائقة الدقة.
لا تحتاج إلى صور وثائقية، إلا للمساعدة في تأكيد أن ما تكتبه ليس من اختراع خيالك؛ كونه أصبح ماضياً بعيد المنال، ممّا يُضفي عليه سحراً وهمياً، إذاً، اجعل قلبك دليلك، واكتب. وإن خدعتك ذاكرتك وأخطأت في الجغرافيا والتاريخ، لفرط كثافتها في ذهنك، دع قلبك يتولى القيادة. ما يخرج من القلب قلبك تصدقه العيون، ذاكرة القلب، وإن أخطأت تبقى هي الأصدق، قد تُصدم إذا رأيت بيتك القديم اليوم، ذاك الذي كنت تظنه قصراً، وفي الواقع كان مجرد بيت عادي صغير مؤلف من غرفة، لها باب وحيد، على يمينه ممر صغير مفصول عن الغرفة بستارة قماشية، سيكون هو المطبخ، الحمام أيضاً، حيث يمكنك تحضير فنجان قهوتك، وأنت تعجن بيديك قطع الملابس بماء ساخن؛ كي تزيل الأوساخ عنها في (وعاء يبدو كمسبح صغير لاستحمام الأطفال)، يُسمّى (اللَّقَن).
أب وأم وأطفالهما الخمسة، أكبرهم ٦ سنوات، وأصغرهم لم يتجاوز السنة. مع ذلك كان البيت كريماً وكافياً، يتسع بنوافذه المطلة على القلعة؛ ليصبح الحي كله بيتك.
غرفة النوم في الليل تصبح صالوناً أول الصباح، تستقبل فيها الضيوف، وإن ضاق المكان يمكنك فتح الباب الخارجي، ووضع كرسي آخر عند فسحة الدرجات الأخيرة المؤدية إلى السطح، فتستخدم بعض الدرجات كمقاعد للأولاد، فتبدو الصورة وكأنها مسرح وجمهور. السطح المشترك لأهل البناية باحة للعب، يمكنك أن ترى البحر، وفي الوقت نفسه ترى (جامع المُغْرَبي – الذي بُني عام 1835م)، يبدو حبة لؤلؤ صعدت من البحر، أو نجمة مضيئة سقطت من السماء، وتربعت على عرش القلعة، تمنح الضوء لبابها الأخير المستند على قلوب أهل المدينة. الباب مازال صامداً، وإن رحلت القلعة من مكانها، وبقي اسمها معلقاً فوق التلة، تشير بقايا حجارتها إلى تلك التي نُهبت، وظهرت في أمكنة أخرى، من يسرق البحر، لا يتوانى عن سرقة التاريخ واللقمة من فمك.
أقراص الشنكليش الطرية، مصفوفة في الصواني، موزعة على أرض السطح، يمكنك تذوقها دون أن تعرف من هو الجار الذي حضّرها، وينتظر تجفيفها.
بيت نديمة الخياطة وأمها، تحت بيتنا، قد نحتاج أحياناً لاستعارة بصلة أو رغيف خبز، وفي الطابق الأرضي، صديق والدي في العمل والحياة، أبو عبدو الأشتر من سد الرستن، الذي يتحول بيته لمقهى كل يوم جمعة، يجتمع عنده الجيران لمتابعة مسلسل (الجرح القديم)، أول عمل فني أشاهده في حياتي. أذكر كلمات الفنان (أحمد عدّاس)، كان أطفال الحي يقلدونه، ويقولون: “أنا أخو نزهة”.
كنت ألعب مع ابنتيه تفاحة وملك، كلما طردني الصبيان من مشاركتهم ألعابهم. جارتنا المصرية زوجة أبي صطيف اللاذقاني ابن الحي، قالت لأمي ذات يوم: (بنتك عيونها حلوين بس فمها كبير)! خجلت، صرت كلما رأيتها أزمّ فمي، وعندما تكون السهرة في بيتهم، لن يمانع أبي المتدين، الذي لا يقطع الصلاة، من رؤية كأس العرق فوق الطاولة، سيمارس حريته في أكل السمك المقلي مع كأس ماء.
ألعاب الصبيان، تحتاج لمهارات عالية، المنافسة والمتعة التي كانت تجعل الصبيان يصرخون بأعلى أصواتهم فرحاً أو غضباً، كانت تجذبني. يسمحون لي باللعب أحياناً، أقف بجانب أخي أراقبه، بنات الحارة يطلقون ضحكاتهم سخرية مني، إذا مررت بهم، يغنون: (حسن صبي، قومي العبي بالكـلال)، لم أحب ألعاب البنات، تلك المملكة الغبية التي نرسمها على الأرض، ونقفز فوقها برجل واحدة، لدفع قطعة من البلاستيك (بقايا نعل حذاء)، باتجاه الهدف، سرعان ما يأخذني الملل منها؛ ليقودني إلى الخسارة.
مع الصبيان كنت أكتشف الزواريب، نصعد الأدراج العالية، نجمع أعقاب السجائر، ثم نصل لجامع المغربي، نستريح قليلاً، ثم نهبط سريعاً في سباق جميل.
من فوق القلعة، نرمي الأحجار الصغيرة.
كنت أمارس دور الأم، وأنا في الخامسة من عمري. أمسك يد أختي وأخي الأصغر، ونمضي في الطريق الذي يبدأ من سفح القلعة إلى البحر، يوصلنا إلى حديقة صغيرة قرب الميناء، نراقب المراكب الصغيرة (الفلوكات)، نعد أنفسنا برحلة جديدة؛ لنركبها برفقة أهلنا بربع ليرة، ونعود وأمي ما زالت تنظف هذا البيت النظيف. جارتنا الجسرية (نسبة لجسر الشغور)، زارت هذا البيت مع عدد من نساء الحي؛ لتقول لهم: “تعالوا اتفرجوا على بيت “المتقّنة”، تفتح خزانة أمي العروس، “كل شيء مكوي وفي مكانه”! أخبرتني أمي تلك القصة، يوم أخبرتها أنني أمثّل مع الفنان نضال سيجري في فيلم الترحال، وأنني أخته في الفيلم، قالت أمي: كانت هذه السيدة الجسرية أم نضال. إذاً كان نضال ابن حارتي، ربما لعبت معه، عندما كان برفقة أخي ذات يوم.
لطالما كانت تحنّ إلى بيتها في حي القلعة وكذلك نحن. كانت اللاذقية أقرب لقلب أبي، من حلب، من القرية، اختارها مكاناً للعيش والعمل والاستقرار، ولكن المرض المبكر أجبره على مغادرتها، تزامناً مع هجرة أهله من الريف إلى المدينة سنة ١٩٧٣.
كل الطرق كانت تؤدي إلى البحر لكن!
ثمة نظام غيّر روح المدينة إلى الأبد، صار هو الأبد بعد مرور سنوات عشر على تثبيت حكمه.
عروس البحر، جمالها في بساطتها، انسيابية طرقاتها، حاراتها المفتوحة على بعضها، زواريبها لا يضيع فيها أحد، كلما اعتقدت أنني ضعت، أجد نفسي قريبة من البحر، هو بوصلة المدينة وروحها، صوت الزمور المميز للسفن، يجعل الأطفال يقفزون فرحاً، يصعدون إلى الأسطحة؛ ليراقبوا وصولها البطيء.
حتى في بيت جدي المؤلف من طابقين، في حي الأزهري، كان البحر قريباً جداً، نراه كل صباح ومساء، عشر دقائق مشياً على الأقدام تصل إليه.
سألت أبي في الحلم: أين ينتهي البحر، أجاب: “إنه يبدأ من هنا ولن ينتهي. ذات يوم سيتمرد البحر على من اعتقله، وحبسه خلف أطماعه لامتلاكه، سيحطم كل الأسوار التي حجبته عن عيون أهله، وجعلت مجرد السباحة فيه، وصيد سمكه حلماً”.
ثم يضحك أبي، ويرمي بي في الماء، بلعت الكثير من الماء، بكيت وغضبت، وقلت له لا أحب البحر، كذبت عليه حينها، عشت عمري كله أحب البحر، وأخاف أن تغمرني المياه، إن تجاوزت طولي، أعود مسرعة إلى الشاطئ. نجحت طريقة أبي العسكرية مع أخي، وأصبح سباحاً ماهراً، أما أنا فلم أُحسنها.
ذات يوم سأعود إلى اللاذقية، أصبّح على حاراتها، أرمي السلام على مساجدها، كنائسها، مقدساتها، وألمس بروحي آثارها، أزور قبور الأحبة، ثم أرمي بكلّي إلى البحر، أغرق في سلام أبدي أخير، وأنا أغني: “يا محلا الفسحة يا عين، على موج البحر”.
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.