مقامات أمريكية | يا له من صباح
كم هو سهل إيجاد الأعذار لأنفسنا عندما نريد وكيفما يحلو لنا.
د. حسام عتال
رفعت ُستارة النافذة ونظرت إلى الخارج، إنها السادسة صباحاً، وهناك 30 سنتيمتر من الثلج قد تكومت أمام كراج البيت وفي الطرقات، الذهاب إلى العمل لن يكون ممتعاً اليوم.
عملي بعيد، يستغرق ساعة للوصول في الأيام العادية، اليوم سيستغرق أكثر من ساعتين دون شك. أدرت محرك السيارة كي تحمى قليلاً، لأنه من المستحيل الجلوس في السيارة في هذا البرد، فكل شيء قاس متجمد كالعظام الميتة. بالإضافة هذا يعطيني وقتا لصنع القهوة في البيت بدلاً من شرائها من الخارج. الذهاب إلى العمل لن يكون ممتعاً اليوم.
أخرجت السيارة من الكراج مراعياً أكوام الثلج المحيطة، ووقفت أقلب صفحات السپوتيفاي… ماذا سأستمع إليه اليوم في طريقي الطويل؟ لن استمع إلى الأخبار لأني أريد التركيز على الطريق. ماذا عن بعض الموسيقى… ربما شوبان. شوبان سهل المراس، كالصديق القديم، يمكن التنبؤ بما سيقوله دون عناء، وقلما يفعل ما هو غير متوقع، وأنا لا أريد مفاجآت مثيرة، لأن الطريق إلى العمل لن يكون ممتعاً اليوم.
قبل الوصول للطريق السريع اختبرت مكابح السيارة فضغطت عليها بشدة وأنا أقود بسرعة 50 ميل في الساعة… انزلقت السيارة أكثر من 30 مصدرة صوت القرقعة المألوف عند حقن المكابح المتكرر… مثلا هذا غير جيد، الطريق إلى العمل لن يكون ممتعاً اليوم.
انضممت إلى الطريق السريع وتركت مسافة 50 مترا بيني وبين السيارة التي أمامي. بعد دقائق رأيت في المرآة الخلفية ضوء سيارة يتقدم بسرعة نحوي كأنه نمر وراء طريدة، ثم بسرعة كبيرة تجاوزتني سيارة هذا الرجل المجنون، لا بد أنه يسير بسرعة 80 ميلاً في ساعة، والطريق بسبب تراكم الثلج الذي ارتص بسبب عجلات السيارات هو أشبه بحلبة التزلج، لا يهمّ نوع الإطارات أو إمكانيات السيارة، هناك حدود تحكمها عوامل فيزيائية لا يمكن لأي سيارة التغلب عليها.
بعد قليل بدأت السيارة الذي تجاوزتني تتأرجح كأنها سمكة تقاوم تياراً عنيفاً في نهر، لابد أنها قد مرت على ما يعرف بالثلج الأسود (كتل الثلج المرصوصة كالحجر)، ثم انحرفت عن الطريق وانتهت في الخندق الجانبي المخصص للأغبياء من السائقين، نصفها الآن تحت الثلج. خففت سرعتي بعد أن شغّلت أضواء الخطر، ونظرت إلى المرأة التي خرجت من السيارة وفي يدها هاتفها المحمول، كانت تلبس معطفاً رمادياً بقبّة من الفرو تغطي شعرها الأشقر. هل كانت يا ترى تتكلم على الهاتف بالإضافة إلى سرعتها الجنونيه؟ رفعت قبضتي في الهواء وصرخت: خرجك الله لا يقيمك! بنفس الوقت الذي كانت كونشيرتو شوبان flat E Op 9 في ذروة الكريشندو.
مرت دقائق وأحسست بالخجل وأنا أفكر بتلك المرأة: في البداية، ما الذي جعلني أظن أن الذي تجاوزني كان رجلا، ألا يمكن للمرأة أن تكون متهورة في القيادة أيضا… أين ذهبت أفكاري “النسوية” التي درّبت عليها نفسي لسنوات كي أتغلب على “ذكورتي” الموروثة؟ أكثر من ذلك، لماذا شعرت بهذه النشوة عندما رأيتها في الخندق، ألم يكن من المفترض أن أشعر بالتعاطف معها لما حلَّ بها؟
يومها سيكون عصيباً دون ريب: ربما كانت ذاهبة لمقابلة مهمة وهي الآن ستعتذر، وربما تخسر عملا جيداً كانت تحتاجه لرعاية عائلتها. أو من المحتمل أنها كانت ذاهبة لزيارتها أمها المريضة في المشفى الصغير في قريتها القديمة، أمها التي تعاني من مرض عضال وليس هناك من يعتني بها. أو لعلها كانت ذاهبة لالتقاط أولادها من بيتها القديم وأخذهم إلى مدارسهم، لأن اليوم هو دورها مع الأولاد بعد طلاقها مع زوجها سنة الماضية، الطلاق الذي حطم حياتها وجعلها تتناوب على شؤون الأولاد مع زوجها السابق. وعليها أيضا أن تجد شاحنة تخرجها من الخندق، كم سيكون ذلك صعباً لأن اليوم مُثلج، والشاحنات كلها مشغولة بأناس حالتهم مثل حالتها… هل ستقضي ساعات في هذا الطقس المتجمد قبل أن تصلها المساعدة؟ وستكون أسوأ حظا إن مرّ بها شرطي وأعطاها مخالفة بسبب سرعتها، لأنه يريد زيادة واردات دولارات إلى خزينة البلدية. قلّبت تلك الأفكار في رأسي وخجلي بدأ يتحول لإحباط، وظل يعاودني السؤال: لماذا نشعر بالتشفي (حتى الغبطة) حين نرى شقاء الآخرين؟
في الأسبوع الماضي كنت أتابع على صفحات السوشيال ميديا الناس يعربون عن فرحهم وهم يرون حرائق لوس أنجلس في كاليفورنيا. قبل الحرائق بيومين كان ترمب قد توعد الفلسطينيين ب “صب نار جهنم” عليهم إن لم يُرجعوا المختطفين الإسرائيليين. الكثير من هؤلاء كانوا ممن رأوا الحرائق كعقاب إلهي، بسبب صفاقة ترمپ وغروره “ها قد صُب جحيم جهنم عليه” قالوا.
لا أدري كيف يعرفون ماذا يفكر به الله، لكنهم لم يكونوا الوحيدين الذين شعروا بالتشفي والانتصار، فقد كان هناك كثير من الناس، الذين هم غير متدينين، والذين أعربوا عن مشاعر مماثلة. وهذه صفة نفسية معروفة اسمها Schadenfreude وهي المتعة التي يعانيها شخص بسبب سوء حظ أو شقاء شخص آخر، ويعزوها أطباء النفس إلى مشاعر الحسد أو الاستياء، أو إلى شعور لا إرادي بالرضا عن حالة النفس بالمقارنة مع الآخرين، فرؤية إنسان آخر في وضع غير جيد يشعرنا بأننا نسبيا في مكان أفضل، كما أننا عند رؤية شخص آخر يخفق، يجعلنا نشعر بأننا نحقق شيئاً أكثر منه، فنفخر بذلك بأنفسنا. والبعض يعزو ذلك الشعور للمعرفة العميقة داخلنا (لا شعورياً) إن ما هو في الآخرين من صفات غير حميدة، هو أيضا موجود داخلنا، رغم أننا الآن نتظاهر بعكس ذلك.
إنه اختبار صعب حقاً أن نشعر بالتعاطف مع شخص حصل على ما يستحق. دعنا نفكر مثلاً بأحد أعوان مجرمي نظام الأسد المخلوع، إن الارتقاء هذا المستوى صعب جداً، لكننا رغم ذلك يجب أن لا نتوقف عن المحاولة. هذا تبرير جيد لشعوري اليوم، وأستطيع العودة الآن للاستماع بكونشيرتو شوبان.
لكنني تذكرت أنني، وضعت مشاعري جانباً، لم أقف لمساعدة تلك المرأة، فيجب عليّ أن أجد تبرير لذلك أيضا: هممممم، لقد خرجت من سيارتها وتبدو سليمة معافاة ودون كسور، وفي يدها هاتفها وهناك تغطية في المكان، بالتأكيد ستجد من سيأتي لمساعدتها، أحد الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء أو ربما من رجال (أو نساء) شركات التأمين أو حتى عناصر الشرطة. هذا يكفيني الآن كي استمر في السير في طريقي، أشرب قهوتي، واستمع إلى شوبان.
كم هو سهل إيجاد الأعذار لأنفسنا عندما نريد وكيفما يحلو لنا. بقية الطريق إلى العمل ممتعة اليوم.