مقامات أمريكية | فولسفاغن بمليون دولار
هل يمكن للإنسان أن يتغير، وبالتحديد، هل يمكن لإرهابي أن ينقلب ويصبح رجل سياسة؟

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
جلس على طاولة صغيرة قرب النافذة في مقهى The Madison في وسط مدينة مونتوفيديو، يكتب بقلم حبر پاركر في دفتر صغير. الدفتر يبدو من صنع يدوي فله ورق خشن اصفر وغلاف جلدي مزخرف عسلي اللون. لا بد أنه أديب، شاعر، أو ربما كاتب قصة. خمّنته يكبرني بخمس عشرة سنة أو ما يقارب ذلك. جسده مكدّس على شاكلة رجال القرى، ووجهه محتقن احمر كمن قضى ساعات طويلة في الشمس. شارباه اللذان خُط فيهما الشيب امتدا ليحضنان شفتين رفيعتين. ثيابه خشنة المظهر لكنها عملية، تشبه لباس أولئك الذين يحبون المشي في الطبيعة، يبدو كأنه اختارها بسرعة ودون محاولة جادة لتنسيق ألوانها.
انتظرت حتى رفع عينيه عن الورق فأشرت إلى قلمه قائلاً: قلم جميل، أنا أيضاً من عشاق أقلام الحبر الأصلية.
- لكن هذا له ثمن. ردّ عليّ وقد فتح راحة يده الملطخة بالحبر الأزرق.
- لكل شيء ثمنه. أجبته.
- هذا صحيح، خصوصاً الأمور التي تجلب السعادة. اسمع، أنا مسرور بالتحدث معك لكني اعتذر فعليّ العودة للعمل.
وضع كوب قهوته في السلة المخصصة للأكواب المستعملة، ومسح طاولته بمنديل ورقي، ولوح مودعاً صاحب المقهى، ثم خرج ليركب سيارته الڤولسڤاغن السلحفاة الزرقاء، منطلقاً في الطريق فيما محرك سيارته يعنّ بضجيج كالطفل الذي تجرّه والدته خارج حديقة المراجيح.
- يبدو أنك تعرف هذا الرجل، هل هو كاتب أو أديب؟ سألت صاحب المقهى.
- نعم ولا.
رفعت حاجبيّ مستفهماً.
- اعتقد أنه كان يكتب في زمان مضى، لكن لديه الآن عمل أهم، إنه رئيس بلادنا الأوروغواي.
- أنت تمزح.
- لا، هذا هو هوزيه موهيكا بلحمه وعظمه.

بحثت عنه في الإنترنت بواسطة هاتفي المحمول. ووجدت أنه يكبرني بخمس وعشرين سنة، أكبر كما خمنت، فقد ولد عام ١٩٣٥. وعندما قرأت عنه أكثر اكتشفت سر نضارته ونشاطه، إنها طبيعة حياته البسيطة فهو يعيش في بيت صغير في الريف من طابق واحد مع زوجته لوسيا وكلبه ذو الأرجل الثلاث، يزرع الورد، ويأكل مما ينمو في حديقته ومن نتاج مواشيه.
هوزيه بدأ حياته ثورياً شيوعياً متطرفاً، منتمياً لميليشيا مسلحة اسمها توپوراموس. فصائلها جاهدت ضد الحكم العسكري الديكتاتوري في الستينات في اورغواي وكانت تسطو على البنوك وتهاجم المباني الحكومية. مرة سرقت مجوهرات بقيمة ستة ملايين دولار في عملية أكسبتها إعلاماً ذائعاً. مرة أخرى اختطفت مبعوثاً أمريكياً اسمه دان ڤيروني، ثم قتلته بعد أن رفضت السلطات مقايضته برفاق في السجون. اعتُقل هوزيه عدة مرات وقضي أربعة عشرة عاماً في السجون، وحكم عليه بالإعدام لكنه نجح بالهروب من السجن بعد أن حفر نفقاً تحته؛ لكنه أصيب بستة رصاصات، واعتقل مجدداً ووضع في سجن انفرادي مكون من أخدود في الأرض كان يستخدم لسقاية الخيول، أمضى فيه سنتين كاملتين كاد يصاب خلالها بالجنون.
عندما عادت الديمقراطية لأورغواي عام ١٩٨٥ أُفرج عن هوزيه بعد أن أُعطي الثوار “الارهابيون” عفواً عاماً. مع دخوله السياسة السلمية ترفع هوزيه في المناصب المنتخبة في البرلمان، ثم أصبح وزيراً للزراعة والثروة الحيوانية، حتى وصل الرئاسة عام ٢٠٠٩ فائزاً بنسبة ٥٢٪. كان شعاره خلال حملته الانتخابية “حكومة شريفة. بلد من الدرجة الأولى”. في خطابه الأول قال “ليس هناك من رابحين وخاسرين…من الخطأ الاعتقاد أن السلطة تأتي من الأعلى، في حين أنها تأتي من قلوب الجماهير، لقد قضيت عمري كله كي أفهم هذا.”
“كوّع” هوزيه مفاجئاً الجميع حين تخلى عن أفكاره الشيوعية متبنياً سياسات ليبرالية اجتماعية واقتصادية. قال أنه “بالرغم من أن النظام الرأسمالي مخيف ومرعب، لكنه يوّفر التقدم والازدهار.” لكنه كان بنفس الوقت ظلّ منتقداً لنمط الحياة المادي الاستهلاكي، حاثاً الشعب على العودة للبساطة في الحياة، والتسامي بالحب والصداقة وأواصر الأسرة المتضامنة، مستعيراً القول من الفيلسوف سيكينا الروماني “ليس الرجل الفقير هو الذي لا يملك الكثير، إنه الذي يرغب دوماً بالمزيد”. وبدأ بنفسه واضعاً عمله مكان قوله عندما تبرع ب ٩٠٪ من راتبه الشهري لبناء بيوت للمحتاجين. وعند تخليه عن الرئاسة (لأن دستور اورغواي لا يسمح بالرئاسة مرتين متتابعتين) هاجم القادة اليساريين في نيكاراغوا وفنزويلا وبوليفيا لتعطليلهم الانتخابات وتشبثهم بالسلطة المطلقة متى وصلوا للحكم ،مخاطباً إياهم: “كم هو صعب عليكم أن تتخلوا عن قالب الحلوى؟”. وكان داعية سلام فعندما سئل عن حرب پوتين على أوكرانيا قال عن پوتين “ابن الشرموطة” قبل أن يدرك أن كلامه مسجّل بالمكرفون، فوضع يده على فمه متداركاً نفسه في حركة لقطتها كاميرات الصحافة. وهو كان أول رئيس يقبل ترحيل سجناء غوانتانمو لبلده لأسباب إنسانية. وأدخل قانوناً يسمح بتداول الماريغوانا دون تجريم، لذلك، بالمقارنة مع جيرانها، نعمت أوروغواي بسلام ولم تعان من جرائم عصابات المخدرات. ومن النوادر أنه قد عُرض عليه مليون دولار ثمناً لسيارته السلحفاة لكنه رفض (ثمنها الحقيقي لايتجاوز ألف دولار)، قائلاً إن بعتها فسأعطي المبلغ للفقراء.
هوزيه توفي اليوم. لم يكن مؤمناً بالله ولم يذهب إلى الكنيسة، وكان الرئيس الوحيد من جنوب أمريكا الذي غاب (وزوجته) عن احتفال تنصيب البابا فرانسيس عام ٢٠١٣ قائلاً: نحن لسنا مؤمنين. عندما سؤل عن ذلك قال “شكّي بالله أمر فلسفي. ربما أؤمن بالله، ربما لا أفعل، لا أعرف. ربما مع اقترابي من الموت سأحتاج للإيمان.”
سيرة هذا الرجل قد تجيب على عدة أسئلة نطرحها نحن السوريون اليوم: هل يمكن للإنسان أن يتغير، وبالتحديد، هل يمكن لإرهابي أن ينقلب ويصبح رجل سياسة؟ هل يمكن للحكومات أن تعمل خلال دوافع إنسانية، وتتحلى بالتواضع والطيبة والأخلاق؟ هل يمكن لإنسان لا يؤمن بالله ولا يمارس الدين أن يكون أخلاقياً ويحمل دوافع إنسانية؟
هذه الأسئلة جالت في ذهني وأنا أقرأ سيرة هوزيه في المقهى. سألت صاحب المقهى أن يحضّر لي كوب قهوة من النوع الذي يشربه هوزيه، دفعت ثمنه بالدولار (الذي جعله هوزيه العملة الرسمية لأوروغواي)، وجلست في كرسيه عساني أرى من وجهة نظره. جال بصري بالمكان وعبر النافذة إلى سهول الريف ومن وراءها الجبال. لم أر ما هو مميز وغير اعتيادي. يبدو أننا كلنا إن شئنا يمكن لنا أن نكون هوزيه، أو إن اخترنا أن نكون غيره، يمكن لنا، بطريقة ما، أن نكون أدوات في سبل الصلاح والخير والحب.