العربي الآن

برومثيوس الفلسطيني: التهديد الوجودي وإغواء الزعيم الأخير

بحاجة إلى من يرى في محنة الفلسطيني إمكاناً لتجديد الذات لا اجترار التجربة؛ زعيمٌ لا يُغريه العرش، بل يستدعيه الجرح.

محمد صبّاح – العربي القديم  

حين رُبط بروميثيوس بالسلاسل إلى صخرةٍ في القوقاز، لم يكن العذاب اليومي لطائرٍ ينهش كبده هو لبّ المعاناة، بل العزلة التي لا يمكن احتمالها، والانتظار المُعلّق على وعدٍ غامض بأن أحداً من نسل زيوس سيجيئ، ذات يوم، لينهي هذا العقاب. لقد جاء هرقل، لا بوصفه بطلاً خارقاً، بل لأنه أصغى إلى صمت التيتان، واستجاب لنداء العذاب الكوني الذي يتجاوز الجسد إلى كرامة الكائن. في تلك اللحظة، لم يتحرر بروميثيوس وحده، بل استُعيدت فكرة العدالة في العالم.

هذه الأسطورة ليست سردية يونانية معزولة، بل نموذج تأويلي يصلح لفهم «اللحظة الفلسطينية »؛ فالفلسطيني، في زمانه المعاصر، لا يعيش فقط تحت نير استعمار مادي، بل في قلب محنة وجودية شاملة: نفيٌ مزدوج، عن الأرض وعن المعنى؛ لم يعُد سؤال التحرير مجرد ملف تفاوض، بل بات سؤالًا فلسفياً : كيف نحيا كذاتٍ قادرة على الاستمرار، وسط تهديدٍ لا يُحاصر الجغرافيا فقط، بل يفتك بالوجود الذاتي؟

نحن أمام ما يمكن تسميته بـ «التهديد الوجودي الفلسطيني»، وهو ليس اغتصاباً  لأرض، بل انتهاك لبنية الحياة نفسها؛ ذلك أن الشتات لم يعُد وضعاً طارئاً، بل هوية قسرية، واللجوء لم يعُد ظرفاً سياسياً ، بل قدراً يومياً يفتّت الوعي ويشتت المخيال الجمعي؛ في ظل ذلك، تتآكل شروط الوجود الإنساني الفلسطيني، ويصبح خطر الاختفاء الرمزي أشد من خطر الغياب المادي.

ولأن الإنسان، كما قال هايدغر، هو الكائن الذي يُلقى في العالم ويُجبر على أن يختار معناه، فإن الفلسطيني اليوم يُلقى في العدم بلا خيار. تتقاذفه خرائط لا تعترف بوجوده، وسرديات تُعيد إنتاجه كفائضٍ عن المعنى، ككائن لا ضرورة له؛ هكذا، يتحوّل الفلسطيني إلى بروميثيوس معاصر، معلّق لا إلى صخرة، بل إلى تاريخٍ من النكبات، تُنهشه غربان الجغرافيا والسياسة، بينما ينتظر وعد الخلاص.

عبر هذا التصور، تبرز الحاجة إلى الزعيم، لا كأداة تنظيمية، بل كجواب على الفراغ؛ الزعيم، في لحظات الخطر الوجودي، ليس اختياراً ديمقراطياً عقلانياً، بل ضرورة تأويلية؛ إنه الوجه الرمزي للجماعة، والقناع الذي ترتديه الذات الممزقة لتعيد إنتاج سرديتها؛ فحين يتصدّع المعنى، ويغدو التاريخ عبئاً لا إرثاً ، لا بد من من يقف، لا ليحكم، بل ليقول: نحن ما زلنا هنا!!!

الزعيم، حينها، لا يكون فرداً فوق الجماعة، بل تجسيداً عميقاً للوعي الجمعي، وقد تشكّل في هيئة صوت. إنه ليس منقذاً بالمعنى البطولي، بل حامل تأويل، يشكّل من الفوضى مشروعاً ، ومن التشظي وحدة متخيلة ، في حضرته، يُعاد تركيب الزمان الفلسطيني، لا كزمن مكسور، بل كإمكان للمستقبل.

لكن إعادة بناء الذات الفلسطينية لا تتم فقط عبر الزعيم، بل عبر تجديد الوعي الفلسطيني بوصفه تخيّلاً اجتماعياً متجسداً. فالوعي الفلسطيني ليس خيالاً حراً منفلتاً ، بل تخيّلٌ اجتماعي يتم بأدوات واقعية؛ هو تصوّر كلّي لجماعة متنافرة لا تجمعها قرابة طبيعية، لكنها تُشكّل وعيها المشترك من خلال اللغة، التاريخ، الأرض، والخطابات اليومية؛  من هنا، يكتسب الوعي الفلسطيني بعده الواقعي الأشد كثافة: ليس مجرّد سردية رمزية، بل شرط ضروري لإعادة إنتاج الذات الجمعية في مواجهة المحو والطمس.

وعليه، فإن إنقاذ «الفلسطيني الأخير» لا يكون بتوقيع اتفاق بل بإعادة بناء المعنى، عبر مصفوفة انتماء جديدة، تُؤسِّس لمواطنة روحية، قوامها الذاكرة والحق والكرامة. وما من سبيل لتحقيق ذلك إلا من خلال زعيم يلتقط هذا الخيط المقطوع، ويعيد غزله بخيوط المعنى، لا بخيوط السلطة.

ختاماً، لسنا بحاجة إلى هرقل جديد بالمعنى الحرفي، بل إلى من يرى في محنة الفلسطيني إمكاناً لتجديد الذات لا اجترار التجربة؛ زعيمٌ لا يُغريه العرش، بل يستدعيه الجرح.

عندها فقط، يصبح الحلم الفلسطيني أكثر من مجرد شعار: يصبح فعلاً فلسفياً من أفعال المقاومة ضد العدم، ومن أجل استرداد وإنجاز الوجود في أفقه الإنساني الأوسع.

ليس الفلسطيني ضحية نزاع، بل كائنٌ طُرد من المعنى؛ لا يطلب خلاصاً، بل اعترافاً بوجوده كحقيقة لا كخطأ تاريخي؛ في قلب التهديد لا يعود التحرر شعاراً سياسياً، بل فعل مقاومة ضد العدم.

الزعيم، حينها، ليس مخلّصاً، بل أثرٌ ناطق لكرامة مهددة، وصوتٌ لجماعة تُصارع التلاشي، لا نجاتنا في العودة إلى الأرض فقط، بل في استعادة قدرتنا على أن نحيا كذوات جديرة بالمعنى، فحين لا يبقى شيء، يبقى المعنى، بوصفه آخر أشكال السيادة.

______________________________________________________

  • كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى