العربي الآن

دمشق وأهلها وتجارها-2: مدينة للجميع إلا لأبنائها!

أصبحت هي المدينة الأكبر للسنة، والأكبر للأكراد، والأكبر للعلويين ...و ...و... و، لكن استمرّ الدمشقيون يعرفون بعضهم البعض

مصعب الجندي – العربي القديم

دمشق نموذجاً تاريخياً لما يجب عليه أن تكون العواصم في أقاليم شديدة التنوع البشري (عرقي ومذهبي)، حتى خلال الغابر من أيامها حين غابت خلالها عن الصدارة، ولغاية يومنا تتقاسم فيها الملل أسماء الحارات (حيّ اليهود، النصارى، الأكراد، الشيعة……) وجميعهم دمشقيون لا يختلفون فيما بينهم إلا بطرافتهم ونكاتهم التي تروى عمّن من داخل السور ومنّ من خارج السور، والتي حافظوا عليها في أقسى ظروفهم.

إقـــــرأ أيضاً:

وإن كان العام 2011 ناتجاً طبيعياً عن تراكمات سابقة، إلا أنه مختلف في شموليته عن كل ما سبقه داخلياً وخارجياً. في مجال الإعلام ونبش صراعات كانت بعيدة عن السطح، عدا عن دموية ردّ النظام على المنادين بالحرية والكرامة ورفع الظلم، كان عام الدخول في مرحلة النزع الحضاري بين حقبتين (التخلف والمستقبل) وما نزال فيها. وحلّقت دمشق بجناحيها (الغوطتين) وعملت بفطرتها فحيّدت القلب عن السعير مرغمة أمام انحياز القلّة منهم الذين سقطوا في تراتبية المذهب”1″ (شيعة دمشق والتابعية الإيرانية) مع أن هذه القلّة تعاملت بشكل مباشر بكثير من الحذر والاحترام مع باقي أبناء المدينة (منزلي في حي يجاوره حي أبناءه من الشيعة)، لكن رفض الغالبية لموقفهم كان قاسياً رغم صمتهم، كحالة بائع الأجبان والألبان الشيعي الذي كان محله مكتظاً بالزبائن لجودة بضاعته، وما إن علّق صورة حسن نصرالله مع بشار حتى خلا الدكان من زبائنه إلا من أبناء ملّته والمستأجرين عندهم من إيرانيين ولبنانيين!

 وقد تقصدت يوماً أن أمرّ عليه بحجة الشراء وتصنّعت التوتر لمشاهدتي الصور مغادراً، والتفت إليه لأشاهد وجهه ممتلأً حسرةً وندامة، وفي أواخر العام 2012 (لا أذكر التاريخ بدقة) وفي إحدى الليالي الأليمة بدأ صوت قصف المدافع المرابطة في جبل قاسيون باتجاه الريف القريب (على الأغلب جوبر وداريا) كنّا نشاهد ظلالنا خلف النوافذ بحسرة إلى أن صرخ أحد الشباب (الله أكبر…) وتتالت التكبيرات عبر باقي النوافذ… إنه القهر والعجز الصامتين بهدف تجنب الاحتكاك. كان الدمشقيون يراقبون ورشات الهدم المنظم (صفة أطلقوها على الطائرات المروحية وهي تلقي البراميل) دون أن يغيب عن ذاكرتهم تهديد رفعت الأسد (ما بترك حجر على حجر بالشام).

كم ظُلمت (برضاها) دمشق حين أصبحت العاصمة في نظام حكم مركزي منذ رحل العثمانيون، مع ما يحمله هذا الموقع الإداري من عبء عليها، والذي جعلها طموح الطامحين جاهلين أو متعلمين، وأصبحت مدينة غير قادرة أن تكون كمثيلاتها. مدينة تتمسّك بتقاليدها وعاداتها وإرثها وبالآن نفسه تحمل مسؤوليتها التاريخية والسياسية وتتقبل الجميع. فُرض على أبناءها أن يولدوا بعينين يتوزعان البكاء الصامت والإبصار ببصيرة، وفي القهر يحنّون للرؤية فيغمضون كلتا العينين. يعرفون ما أصاب مدينتهم، ولا يتهربون من أخطائهم بحقها وإن واربوا في الحديث عنها.

جميع المدن الشامية يُقرأ ماضيها وحاضرها ومستقبلها من خاصّتها وعامّتها، إلا دمشق حُرمت هذا الترف منذ غادرت السياسة التي كانت منغمسة فيها ببصيرة التاجر الحذق، كانت تُسيرها دون الغرق فيها، وهو الأمر الذي فشلت الأحزاب والقوى السياسة غير التقليدية عن استيعابه، بسبب صعوبة التعامل مع الدمشقيين مع سهولة في التعامل مع غيرهم:  (كان جلّ المنتسبين للحزب في دمشق من العناصر الشابة الطلابية القروية التي كانت تؤم الجامعة والثانويات بين 1940_ 1950 …… كانت الشروط الاجتماعية في الريف مؤاتيه لنشوء الحزب وامتداده فتضخم فيه وظلّ هزيلاً في المدن وخاصة دمشق، ومع الزمن أصبح جسماً كبيراً برأس صغير……. كانت تقتضي حتمية العمل السياسي الجديّ ترسيخ الحزب في دمشق…….. إنها مدينة التاريخ العربي لا تسلس قيادها إلا لعاشق على قدّ فتنتها_ البعث_ سامي الجندي_ دار النهار_ بيروت 1969)، لم يكن فيها تياراً سياسياً واحدا، هي كانت الجميع على تنافرهم (بعثية، ناصرية، إسلامية، سورية قومية….) لكنها غادرت الجميع في اليوم الأسود الدموي حين اقتتل رفاق الأمس (محاولة انقلاب جاسم علوان، تموز 1963) ولم تعد معنية بالسياسة بسلبية وقرف اليمين (يلي بتجوز إمي بقله يا عمي) إلا في النادر من الأحداث، وكان المؤلم على الدمشقيين أكثر هو تتالي إبعادهم تصاعدياً عن إدارة مدينتهم كعاصمة للبلاد الشامية عدا عن قدوم الآلاف المؤلفة من الوافدين حتى أصبحت هي المدينة الأكبر للسنة، والأكبر للأكراد، والأكبر للعلويين …و …و… و، لكن استمرّ الدمشقيون يعرفون بعضهم البعض وتسلسل عائلاتهم وعاداتهم جيداً.  مع سقوط النظام عادت سريعاً لهم الحيوية والحياة على الرغم من أن المراقب جيداً يجد خيبات أمل متقاطعة مع ظروف وحالات عدّة ومن الجميع بلا استثناء……. لماذا النسيان للمدينة التي لم تعترض عبر تاريخها على أيّ من المشاريع السياسية للآخرين؟ لماذا يحقّ لأبناء المناطق الأخرى المطالبات بالمركزية أو اللامركزية أو الفدرالية ولا يحقّ لدمشق؟ الجواب بسيط سهل، لأنها للجميع…! الجميع ولعقود خلت أرهقتها. لنراها جميعنا نحن أبناءها الغرباء بعين المصالح لا العواطف ونسأل أيّ الحلول الإدارية الوطنية (لا الطائفية العرقية) أصلح لواقع (وطني/سياسي/اجتماعي) توارثناه مع ظلمه وقسوته؟ وما هو موقع دمشق في تلك الحلول، هل هي الحجارة بدون الدمشقيين لأنها العاصمة؟

 لا غرابة أن بعض اليساريين عند تحليلهم تركيبة سلطة النظام الساقط، بحسن نية أو سوئها، يدرجون تحالف البرجوازية (تجار دمشق)، مع السلطة وأبناء الجيل الثاني منها، جذور الحالة صورة نمطية مسبقة تخص تنافر الريف مع المدينة، طبعاً لا يمكن نفي هذا التحالف لكن واقعه الحقيقي هو صورة أشمل وأعم، إنه تحالف طبقة فاسدين من جميع المدن بما فيها دمشق كواقع فرضه النظام نفسه على كل من أراد أن يحتفظ بثروته: مع الإشارة هنا أن أغلب الأرستقراطية والبرجوازية التقليدية لدمشق باشرت مغادرة سوريا ونقل نشاطاتها الرئيسية ورؤوس أموالها مع بداية عهد الوحدة السورية المصرية ولم يعملوا في سوريا إلا بالقليل كنوع من ارتباط عاطفي (طبيعة رأس المال البحث عن الاستقرار).

كعادتي خاطئ من الخطّائين، أستسمح الجميع عن هفواتي، لكني أسردها كما أؤمن وبما وفرته لي معرفتي على تواضعها. (أهل مكة أدرى بشعابها) وقس على ذلك جميع المدن والمناطق التي عاشت تاريخ من فشل المركزية الحادّة عامودياً مع قاعدة هرمية محدودة على الرغم من تحقيقها بعض التطور في مراحل كانت فيها البنى (الاقتصادية/ الاجتماعية/ السياسية) تفرض ذلك، حالة لم تعد تتوافق مع أغلب نماذج الدول في عصر الحداثة لما تسببه من تركز بشري مديني خصوصاً في حالة عدم وجود تنمية متوازنة مع الريف، فكيف وسوريا التي أخفقت سلطاتها المتعاقبة من تحقيق أي تنمية أفقية مع وجود تنوع متناحر ومخيف عرقي ومذهبي فشلت جميع القوى السياسية والثقافية في التعامل معه إلا في وجهة استغلاله لمصلحتها.

مخاضنا عسير اليوم تحت وطأة ركام الخراب وتشتت المواقف وغياب وضوح الرؤية، مع حدث آني يستهلكنا حتى يكاد يسحقنا بأنيابه ويغرقنا بتفاصيله ويفرض استسهال في استخدام المفاهيم وأولها (الدولة) جامعة الأرض والإنسان وليس العرق والطائفة.  

جميع البدايات مطروحة (على بساط أحمدي2) صغيراُ لكنه يتسع الجميع. دمشق التي لم تعترض على أيّ من المشاريع السياسية التي (يلوكها) جميع السوريين (ظاهراً أو باطن) في البيانات والتجمعات المدنية التشاركية….! أو النضالية الثورية…..!. وتغيب عن الجميع (من أين؟) رغم البديهية التي تكاد تُعمي أبصارنا لشدّة وضوحها (بدايةً أو مشاريع). لا مركزية الدولة (الإدارية/الوطنية) بتراتبية الخطوط الواضحة بما يحقق مصالح الكتلة الأكبر من السوريين وفق توزعهم على المساحة الجغرافية الأوسع، والحالة هنا توازن في استرداد الحقوق وتقاطع وإيثار لا اقتسام وثارات، والبداية من القلب (العاصمة)، وهنا الإبداع في المنتج حين ندع (العاصمة دمشق) أمانة في عنق أبناءها بعد التخلص من ضغط المركزية الإدارية. لا انتقاص من قيمة مدن البلاد الشامية الأخرى بل هو رفع من شأنها في المشاركة بإدارة الدولة من خلال الاستفادة من عدم معاناتها تراكم الضغط البشري والسياسي، والمراقب اليوم يلاحظ الراحة بنشاط الحلبيين وبراعتهم من خلال مشروعهم (الوفاء لحلب3) مستغلين الراحة التي تعيشها المدينة.  

وإن اعترض عليّ الكثيرون كلٍّ على هواه وما خزّن في قلبه، حين أعبر عن مخاوفي من تكرار (وانتشرت القاف المقلقلة في أروقة الدولة) بصورة أخرى وبمرجعية أخرى تتعايش مع منهج التفكير نفسه. مع تأكيدي احترامي لاعتراضهم، لكني من الحالمين بسوريا (دولة/ وطن/إ نسان).

 هوامش:

1_ تراتبية المذهب الشيعي يفرض حالة متماسكة بين أتباعه وهي تصاعدية من العامة إلى رجال الدين وفق مرتبتهم الدينية.

2_ أصل المثل مصري: إن بساطه هذا كان صغيراً ومع ذلك فهو يتسع لمن حضر من الناس.

3_ لم يكن مقترح الموفد الدولي ديمستورا عام 2014 (حلب أولاً) إلا بهدف ذر الرماد في العيون وإطالة أمد الصراع الدموي واستكمال تدمير سوريا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى