الرأي العام

العدالة الانتقالية – 3 : تطهير أم معاقبةٌ للصامتين؟

إن المشاركة بالثورات لا تزيد نسبها عن 5-6 بالمائة من الشعوب في أحسن الحالات، فهل نعاقب الباقين على صمتهم!

عبد الرحمن ريا – العربي القديم

عندما قرر التلفزيون السوري إنشاء قسم خاص للرسم بالحاسوب “الغرافيك” في أواسط تسعينات القرن الماضي، كانت هناك عقدة أخرت إطلاق القسم، فالمهندس المقترح لإدارة القسم غير حزبي (لم يتميز ذلك المهندس بشيء سوى اهتمامه بالكومبيوتر ومتابعته لبرامجه، بينما لم يهتم بقية مهندسي التلفزيون بالعالم الرقمي). كانت القوانين تقتضي أن يكون مدراء الشعب والدوائر والمديريات في الهيئات العامة حزبيون ينتمون لحزب البعث “القائد للدولة والمجتمع” كما جاء في دستور حافظ الأسد. استمرت المفاوضات والاجتماعات طويلاً، تارةً يحاولون إقناع المهندس للقبول برئاسة مهندس آخر، امتلك دوماً مؤهلات سيادية في دولة البعث تمثلت في قرابته لأحد مدراء فروع الأمن، وتارةً يحاولون إقناع المهندس الأول بالانتساب للحزب كحل أخير دون جدوى. في النهاية قررت إدارة التلفزيون، تغيير التسمية الادارية لقسم الرسم بالحاسوب ليصبح وحدة بدلاً من شعبة، وبذلك يمكن أن يديرها مهندس”ضال” غير حزبي!

ما سبق غيض من فيض التجاوزات الهائلة والتغوّل الذي مارسه حزب البعث على مؤسسات الدولة. يكفي أن تكون حزبياً أو قريباً لأحد “المدعومين” لتضمن التوظيف حيثما أردت، ثم تنهال عليك المكافآت، وسفرات المهمات والدورات، دون أي اعتبار لكفاءة أو التزام أو حتى تواجد على رأس عملك.

كل ما سبق يشرح طبيعة مؤسسات الدولة قبل قيام الثورة عام 2011، أما بعد ذلك فحدّث ولا حرج؛ حيث أصبحت الوظائف العامة حكراً على المدعومين والمنتسبين لطائفة رأس هرم الطغيان، خصوصاً في بعض المؤسسات والمديريات كالتلفزيون نفسه، لقد أذهلني أحد مدراء التلفزيون السابقين حين أكد لي أن نسبة موظفي تلك الطائفة فاقت النصف بكثير “جداً” خلال السنوات السابقة.

يعتبر “التطهير” واحداً من أهم غايات العدالة الانتقالية، إن تطهير المؤسسات من الكوادر التي ساومت على مبادئها وانضوت تحت لواء الطغيان أو التي جاء بها الفساد والمحسوبيات، أو حتى تجريد البعض من حقوقهم السياسية يندرج ضمن ما يسمى “الجزاء المخفّف”[1]. فعلت كل ما سبق دول أوربا الشرقية بعد تخلصها من الأنظمة الشيوعية، وذهب بعضها خطوة إلى الأمام حين حظر نشاطات الأحزاب الشيوعية وصادر أملاكها.

هذا ما قامت وتقوم به الحكومة الحالية منذ سقوط الأسد، وأعتقد أو أرجو أن نتفق على أن حل بعض المؤسسات كالجيش والأمن، وإعادة بناءها بأسس جديدة كان ضرورة لا يمكن المساومة أو النقاش بها. لكن يجب علينا النظر بأساليبها من أجل تحقيق أسمى معاني العدالة الانتقالية وهي ضمان عدم تكرار ما فعلته المؤسسات السابقة من انتهاكات.

لقد قوبل قرار إلغاء التجنيد الاجباري (على سبيل المثال) بارتياح شديد من كافة أطياف المجتمع السوري، ولكن ما هي معايير قبول المتطوعين في الجيش الجديد، بعضهم يقول إن القبول مرهون بشهادة تزكية من “جهةٍ ما”، إن كان ذلك صحيحاً فهو يعني إعادة انتاج ما سبق بانتماءات جديدة، وإن كان مجرد إشاعة فهو يعني التقصير في وضع مجموعة قوانين ونظم عامة وواضحة، تسير من خلالها عمليات بناء المؤسسات، ثم نشرها والاعلام عنها بشفافية تُشعر المواطن بالارتياح، وتلعب دور بتهدئة النفوس بشكل لا يقل عن المحاكمات ومعاقبة مجرمي النظام السابق.

إن ملف التطهير، رغم خطورته، شائك، يستدعي الكثير من الهدوء والدراسة لكل حالة، فقطع الأعناق ولا قطع الارزاق كما يُقال، تنتشر الكثير من الشائعات عن أساليب فصل موظفين أو قبول آخرين وفقاً لانتمائهم للبيئة الثورية وذلك مؤشر خطير يهدد بإعادة إنتاج الانتهاكات بعد تغيير الوجوه والانتماءات، إن المشاركة بالثورات لا تزيد نسبها عن 5-6 بالمائة من الشعوب في أحسن الحالات، فهل نعاقب الباقين على صمتهم! وهل درسنا ظروفهم وأسبابهم قبل أن ندينهم؟عد

ثم إن “جبر الضرر” أو “إعادة التأهيل” التي تندرج ضمن آليات العدالة الانتقالية، وسنتكلم عنها في الجزء الأخير من هذه السلسلة، لا يعني أن يتم تعويض المتضررين وجبر خواطرهم من خلال توظيفهم في أماكن لا يحققون متطلباتها المهنية والفنية.

لا يوجد، أو أننا لم نجد، أي آليات واضحة تحكم آلية التطهير التي تجري حالياً، نرجو ألا تكون موجودة فذلك أقل سوءاً من وجودها دون علمنا نحن الشعب بآلياتها، فقد مللنا ثقافة السرّية التي عاملتنا بها عصابة الأسد.


[1]  معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية – نويل كالهون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى