فنون وآداب

نصوص أدبية || قطار منتصف الليل (قصة قصيرة)

قصة قصيرة كتبها: ناظم الصغير*

قطار منتصف الليل حتماً كان هو السبب، ذلك القطار الذي يجتاز بلدتنا متجهاً جنوباً نحو الحجاز، ومحدثاً جلبةً وصفيراً هائلاً يوقظ الجميع، فيدفن العُزّاب رؤوسهم تحت الوسائد، فيما يلفّ المتزوجون زوجاتهم؛ ولأنني كنت أنتمي إلى الفئة الثانية، فقد تسبّب صفيره في ليلة حبّ أثمرت ولدي أحمد. كان شيئاً رائعاً، كتلة من النشاط والحركة، حتى إنني غالباً ما كنت أشاركه اللعب، في تلك اللعبة التي تعوّد أبناء بلدتنا على اللعب بها.

كانت لعبة بسيطة، تنتهي بأن يُعلن الحكم فائزاً واحداً على المتنافسين جميعاً، ويطلب من الجميع أن ينتظموا في نسقين متوازيين، حين ذاك سيتقدم الفائز مختالاً مثل الطاووس، بينما يُطأطئ الباقون رؤوسهم الخفيضة ويُلوّحون بها، ويصرخ الحَكمُ عالياً: هكذا تفعل الأبقار، عندما يمرّ القطار! القطار سيمرّ شامخاً برأسه، مزهواً بمشيته، أمّا الأبقار النائحة المهزومة التي لم تملّ من التلويح برؤوسها. أتُراها تفعل ذلك احتجاجاً، أم اعترافاً بالخسارة، أم تعبيراً عن فعل شيء آخر، أمام عظمة تلك الكتلة الحديدية، واندفاعها وجبروتها؟

ويصرخ الحَكَم عالياً: هكذا تفعل الأبقار عندما يمرّ القطار!

كانت اللعبة الأكثر إثارةً لولدي أحمد، والتي لم يكن يقبل بأقلّ من الفوز بها. كنت أرقبه يغمرني شعورٌ بالغيرة؛ ذلك أنني الخاسر الأكبر، عندما كنت في مثل سنّه، ولطالما وقفت في رتل الأبقار النائحة.

كلّ شيء له علاقة بولدي، أستجديه اليوم من ذاكرتي الهرِمة، والمقصّرة في استحضار المزيد من صوره. صارت صورُه فقط هي التي تشغل ذاكرتي! وينتابني شعورٌ بالندم، على أنني كنت مهمِلاً لتفاصيل كثيرة في ملامحه، وفي حواره؛ ذلك أنني لم أتوقّع أن تجري الأمور على ما جرت عليه.

كان كثير السؤال، وغالباً ما يحاصرني بأسئلته المُحرجة، والتي أصبحت اليوم جزءاً من الذاكرة التي لا أملّ من اجترارها، وأعيش فيها، وأعيش عليها.

أمّه أيضاً لها ذاكرتها ذات الخزينة الواسعة، والتي تُسبّب لها الدموع التي يبدو أنها لن تجفّ أبداً.

لم يكن لأسئلته جوابٌ شافٍ، وأعترف اليوم أنني كنت دقيقاً في اختيار أجوبتي؛ ذلك أنني سأستبعد منها ما يمكن أن يشوّش تفكير ولدي البكر،

أو ما يمكن أن يسبّب له الحرج أمام معلّميه، أو حتى ما يمكن أن يسبّبه لي من مساءلة، أمام أصحاب النفوذ في بلدتي التي تملك آذاناً كبيرة، وأنا الخاسر المُعترف بخسارتي، حينما يمرّ ذلك القطار من أمامي.

كنتيجة طبيعية لخيبتي؛ ولأنه ولدي الذي بدأ الزغب الناعم ينمو على ذقنه، ودماء الشباب تتدفّق في عروقه، فقد بدا مُصمماً على ألّا يكون في أحد الصفّين (الرتلين).

كنا نتابع يومها (ريبورتاجاً) عن الحرب المفترضة، تظهر بها البوارج، والسفن والطائرات، ورجال شقر يضحكون ويصفقون،

عندما قال: ألم يكن من الممكن تجاوزها؟

قال ذلك، دون أن ينظر إليّ، فلم أعتبر ذلك سؤالاً.

اعتبرته شيئاً من التفكير بصوت مرتفع، وتجاهلت الإجابة،

فتابع: لماذا حدثت؟

صار ذلك سؤالاً، ولكنها طريقته في التحرّش بي واستفزازي، تابع: ألم يكفِهم مليونٌ ونصف من الأطفال ؟! مجدداً اعتبرت أن ذلك ليس سؤالاً، وامتنعت عن الإجابة، ولكنه أمعن في استفزازي،

سأتظاهر مع رفاقي غداً!

قلت: لن يفيد ذلك في شيء.

قال: نريهم أننا غير موافقين على ذبح الأطفال.

قلت: لن يحترموا رأيكم .

قال: سنحطم كلّ شيء، ونحرق أعلامهم، وندوسها بأرجلنا.

قلت: لن تستفيدوا شيئاً.

قال: معك حق.. معك كلّ الحق، لن يصدقونا ولن يحترموا رأينا؛ لأنكم ذهبتم مثل النعاج.

كيف حدث ذلك؟! كيف رضيتم أن تطيعوا مَن يريد ذبح أطفالكم؟

قلت: لم نكن نملك غير الموافقة.

لا أعرف، لماذا أثار جوابي كلّ ذلك الضحك، حتى إنني اعتبرت ضحكه إهانةً لي ولجوابي، ولكنني لم أكن راغباً في كبحه.

مع ذلك سأخرج في مظاهرة غداً!

قلت: إن ذلك لن يفيدك في شيء!

بعد جوابي هذا استشعرت إحباطاً، اكتست به ملامحه، وغرق في صمت، حتى إنه حينما عاد لسؤالي، نسيت عن أيّ شيء يسأل.

وحكّامنا ماذا يفعلون؟

غير موافقين.

حقيقة هم غير موافقين؟

قالها بطريقة تدلّ على السخرية؛ لذلك كان عليّ أن أعيد للوضع جدّيته.

هكذا أراهم أنا على الأقل، والحقيقة

أن اللعبة انتهت، وهكذا تفعل الأبقار عندما يمرّ القطار!

عندما لم يخرج ولدنا أحمد في تلك المظاهرة المقررة في اليوم التالي، انتابتني نوبة فرح، فلقد استطعت الانتصار عليه، ويبدو أنه اقتنع أخيراً، بأن لا جدوى من إحراق الأعلام، وشتم الحكّام، فلن يغيّر ذلك في شيء.

لكن ما لم أكن أتوقعه قد حدث، فقد أقلع ولدي عن أسئلته تلك، وصار أكثر عزلةً، فأقام في غرفته أغلب الأوقات، لا يغادرها إلا نادراً، حتى إن صوت المسجلة لم نعد نسمعه، أمّا أمّه فقد علّقت على ذلك: بأن (ولدنا قد هداه الله)، صار يصلّي الفروض بأوقاتها، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن، وصار له لحية سوداء ناعمة، وامتلأت غرفته بكتب التفاسير والسيرة، ثم إن أصحابه تغيّروا، صاروا جميعهم من ذوي اللحى والجلابيب القصيرة، حتى اللوحة المعلّقة في غرفته انتزعها من مكانها، وألقى بها في حاوية القمامة (الحرية تقود الشعوب، دولا كروا)،

واستبدلها بآية كريمة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).

كل ذلك لم يثر قلقي؛ ذلك أن ما عهدته بولدي هو كثرة تقلّبه، فقبل لوحة (دولا كروا)،

كان يلصق صورة جيفارا، حتى حينما كانت تصدر عنه بضعة تعليقات على مشاهدة بعض الجنود المارينز القتلى (يبدو أن ذلك هو الحل).

لم يكن ذلك يثير هواجسي، أو شكّي وخوفي؛

ولأنني كعادتي لا أملك جواباً، أو رداً على تعليقه، فكنت أفضل السكوت.

غاب بعدها ولدنا عنّا، غاب دون أن يترك لنا شيئاً يدلّ عليه، حين تراكضنا إلى غرفته نتفقدها، كان كل شيء مرتباً ونظيفاً، لكن لا شيء منه قد بقي، حتى رائحته سرقتها النافذة، وصوره في ألبوم الصور، يبدو أنه انتزعها وأحرقها، ولم يكلّف نفسه بكتابة شيء، يمكن أن يهدِّئ من روعنا، لم يبقَ لنا سوى تلك الصور المخزونة في الذاكرة!

تراكضنا إلى مَن اعتقدنا أنهم أصدقاؤه، لا أحد لديه جوابٌ شافٍ، آخر ما توصلنا إليه من أفكار، بأن ننشر له إعلاناً في جريدة، ولكننا لا نملك صورة له، ماذا يمكن أن نقول؟

شابٌ أسمر في مقتبل العمر، ذو لحية سوداء وعيون واسعة، يُدعى أحمد بن عبد الله العربي، خرج من بيته ولم يعد.

___________________________________

* ناظم الصغير قاص وفنان تشكيلي سوري

زر الذهاب إلى الأعلى