فنون وآداب

عن وفاء ياسين بقوش الذي قاسم السوريين الأفراح والأتراح

بقليل من التركيز سنجد أن طيبة وسذاجة الشخصية انتقلت لصاحبها الذي ظل يكابد ليس فقط للخروج من جلبابها بل لمجابهة واقع فني معقد لا يعترف بالطيبين

عادل العوفي – العربي القديم

من الشخصيات الأصيلة التي لا ينبغي تجاوزها بعد تحرر سوريا واهلها من أصفاد الديكتاتورية الأسدية؛ وسيكون من الإنصاف إعادة سرد تفاصيل حياتها الغنية أصلاً، والحافلة بالمحطات الدرامية من باب الوفاء… وهي الصفة الأقرب له ودفع اثمانا باهظة في سبيلها؛ والحديث هنا عن الفنان الراحل ياسين بقوش الذي ترك رحيله جرحا غائرا في نفوس السوريين والعرب لاسيما الطريقة المأساوية التي انتهت بها حياته، وهو الذي ظل يضرب به المثل في النبل والطيبة والأخلاق الحميدة .

الليبي المخلص لتراب الشام

في حارة الشراكسة بحي الصالحية الدمشقي الشهير ولد ياسين سنة 1938 ودرس في المدرسة الأيوبية الواقعة بالمنطقة نفسها، دون أن تساوره أي شكوك حول أصوله الحقيقية، جازما بأنه دمشقي الأصل ولا يعرف بقعة أخرى غيرها كمسقط لرأسه ومرتع لطفولته وصباه؛ لكن صدفة غريبة عجيبة في سنة 1976 ستجعله يكتشف حقيقة أصوله الليبية، حين راسلته إحدى عماته بعد أن تعرفت عليه حين شاهدته على شاشة التلفزيون لتقرر السفر إلى الشام، ليتعرف ياسين من خلالها على أنه من منطقة زوارة على الحدود الليبية التونسية، وأن اسم بقوش جاء من “البقاش ” {في مصر يقولون بكاش} وهي كلمة بربرية تعني “الكذاب” أو الذي يبالغ في الحديث.

تعود أصل الحكاية حين تقطعت السبل بجد ياسين وهو في رحلة الحج، حيث ألم به مرض شديد وهو في مكة مما أدى لتخلفه عن ركب رفاقه العائدين لليبيا؛ فقرر أن يتوجه صوب دمشق قبل استكمال مسيره لبلده لكنه انبهر بأجواء الشام واستطاب العيش فيها، ليقرر الاستقرار كونه غير قادر ايضا على تحمل عناء السفر على الدواب والجمال كإحدى الوسائل المتاحة للتنقل حينها .

ليتزوج “عبد القادر”  في إحدى الأحياء الدمشقية العريقة، وينخرط في الحياة هناك ويبصر أولاده النور مرتبطين بحب سوريا ولا شيء سواها.

ياسين الموهوب بصوته المختلف

بدأت موهبة الشاب ياسين تظهر مبكرا؛ ليبحث عن موطأ قدم له يستطيع من خلاله تنميتها والمضي في حلم المسرح والاضواء الذي يحتل تفكيره؛ وتأتى له ما ارد عبر عبد اللطيف فتحي الشهير بلقب ” أبو كلبشة ” في المسرح الحر بعد تأسيسه سنة 1956 برفقة اسماء مهمة في تلك المرحلة كانت تنبض بالموهبة والرغبة الجامحة في ايصال اصواتهم عبر الخشبة وسحرها.

في سنة 1958 تعرف المستمع السوري على صوت ياسين بقوش الشجي الفريد من نوعه عبر المسلسل الاذاعي “متعب افندي ” من تأليف القصاص الشعبي حكمت محسن واخراج تيسير السعدي ومن خلال الفواصل وجد ياسين ضالته في اسر المستمعين بأسلوبه الجذاب الغير مسبوق اذاعيا حينها .

نداء أبي الفنون

وحين تم تأسيس مسرح العرائس سنة 1960 وتولى الاشراف عليه عبد اللطيف فتحي واصل الاخير الرهان على موهبة ياسين لينتقل معه وقدموا عروض مسرحية موجهة للطفل وحصدت نجاحا منقطع النظر؛ وفي العام نفسه تأسس المسرح القومي فشارك في العديد من عروضه، وفي سبعينيات القرن العشرين شارك ياسين في العمل المسرحي المعروف “سهرة مع أبي خليل القباني” للمبدع سعدالله ونوس واخراج أسعد فضة.

وشكل بعد ذلك ثنائيا مميزا مع الراحل عمر حجو من خلال برامج الاطفال والبرامج التلفزيونية الاسبوعية والتمثيليات بعد ان اكتسب خبرة لا بأس بها حضوره المسرحي الذي جال به كل ارجاء سوريا.

لتبدأ في نهاية الستينات أهم تجاربه المسرحية من خلال “مسرح الشوك” الانتقادي السياسي، الذي وضع فكرته عمر حجو، وتبناه دريد ونهاد، وشكل ظاهرة هامة ضمت توليفة رائعة من اهم الممثلين في تاريخ المسرح السوري وقدموا عروضا هامة اولها “مرايا ” ثم تلاها ” جيرك ” من اخراج دريد لحام بالإضافة الى “براويظ ” ببصمة اخراجية لأسعد فضة كانت عبارة عن اسكتشات اجتماعية وسياسية ناقدة حصدت الثناء والإعجاب.

ليتوقف بعدها “مسرح الشوك ” سنة 1974 ؛ فينخرط ياسين بقوش في شراكة فنية مع يوسف حرب ويطلقان فرقة “التجمع النقابي” حيث قدما عدة مسرحيات فاقت الثلاثين أهمها “حبي ومستقبل غيري” و “زوجتي مليونيرة” و”الليلة عرسي” وغيرها.

ياسين بقوش مع رفيق دربه المسرحي المخرج يوسف حرب، أثناء مهرجان دمشق المسرحي عام 1988 (العربي القديم)

نجومية التلفزيون وميلاد “ياسينو”

مهد التألق المسرحي لياسين كي يستهل مشواره التلفزيوني حيث بلغ اقصى درجات الانتشار المحلي والعربي ايضا ؛ وكانت اولى مشاركته من خلال مسلسل ” رابعة العدوية ” سنة 1961 ثم مسلسل بعنوان “مساكين ” عام 1969 ؛ ثم مسلسل “زقاق المايلة ” 1972 مع المخرج شكيب غنام وحقق نجاحا كاسحا .

لتبدأ المرحلة الاكثر اهمية في ذروة بروز مسلسلات دريد لحام و نهاد قلعي ؛ ليدخل ياسين بقوش في “فخ” الشخصية التي استحوذت عليه كليا وهي كاركتر “ياسينو ” الساذج الطيب حيث استهلها بمسلسل “صح النوم ” سنة 1972 ثم “ملح وسكر ” في العام الذي يليه وايضا ” وين الغلط ” و “لكل الناس ” و “تلفزيون المرح ” و “وادي المسك ” ثم “عريس الهنا” سنة 1984 .

وعن هذا الدور صرح ياسين سابقا ”  في البداية اعتذرتُ عن أداء دور ياسينو لانشغالي بمسرح الشوك، لكن الفنان نهاد قلعي تحدث معي وقال لي إن هذا العمل مثل مسرح الشوك، فقلت له: كيف ذلك؟ فقال: حسني البورظان يمثل الفكر العربي، غوار يمثل الفكر المتآمر على الفكر العربي، أبو عنتر يمثل عضلات الفكر المتآمر، ياسينو يمثل الشعب العربي الطيب الذي يصدق كل شيء، وفطوم هي الأرض العربية التي سيتم التزاحم عليها في المستقبل”.

تجارب سينمائية بمضمون واحد

في الفن السابع واصل ياسين حضوره كعنصر رئيسي في ثنائية دريد ونهاد وظل مواظبا على الشخصية ذاتها التي عبر من خلالها نهاد قلعي عن حالة الشعب العربي من حيث الطيبة والبساطة ؛ وقدم رفقة هذه المجموعة افلام مثل “غزلان” سنة 1969 و “الثلعب ” 1971 و “مقلب حب ” و”شقة ومليون مفتاح ” و “رحلة حب ” و”عروس من دمشق” و”عنترة فارس الصحراء ” ثم “غوار جيمس بوند” و”الغجرية العاشقة ” و”النصابين الخمسة ” و”غراميات خاصة ” بالإضافة لـ “الاستعراض الكبير ” و”صح النوم ” و”العندليب ” و”المزيفون” و”تفضلوا ممنوع الدخول” و “حارة العناتر ” و”امطار صيفية”

لينحصر ياسين في قالب وشخصية واحدة وتبدأ مجموعة الرفاق بالتفكك في منتصف الثمانينات وتتضاءل فرص العمل؛ ليصارع وحيدا فيضطر للقبول بأعمال بسوية فنية ضعيفة مثل مسلسل “ياسين تورز” سنة 1996 وغيرها؛ ويدخل ياسين بقوش منعطفا صعبا في حياته ومشواره الفني.

“ياسينو” الوفي المخلص

حين قرر دريد لحام العودة بعد فترة توقف طويلة ؛ ارتأى اعادة استحضار شخصيته المعروفة “غوار الطوشة” في مسلسل “عودة غوار: الاصدقاء ” في سنة 1998 برفقة “ابو عنتر ” بعد رحيل شريك نجاحاتهم نهاد قلعي؛ جاء رد ياسين على مقترح العودة بالقول “هل تريد للناس أن يبصقوا علي في الشارع؟”.

والسبب أن الدور المكتوب لشخصية “ياسينو ” يستلزم خيانة صديقه “غوار” وإدخاله السجن ؛ ليرفض كسر صورة الشخصية المحبة الطيبة في اذهان الناس؛ ومنذ تلك الفترة أضحت الفرص أمامه شبه منعدمة، حتى عاد في أدوار صغيرة بمسلسلات ” البطرني” و”تلاميذ اخر زمن” سنة 2001 ؛ ثم أبدع في دور حاخام يهودي بالمسلسل التاريخي “سيف بن ذي يزن” ليؤكد أنه ممثل من الطراز الرفيع كلما سنحت أمامه فرص لإثبات ذلك؛ كما وشارك في العمل التاريخي الآخر “بهلول أعقل المجانين” الجزء الثاني سنة 2008 و”صايعين ضايعين” سنة 2011 .

وعاد للسينما من بوابة فيلم “حارة الطنابر” و”الرجل الضاحك”؛ وتألق مع المخرج محمد عبد العزيز في فيلم “نصف ميلغرام نيكوتين” وفيلم “دمشق مع حبي”.

“ياسينو” ومقالب غوار بين الحقيقة والدراما

مفارقة ساخرة هي العلاقة بين “ياسينو” و”غوار”؛ لكنها في الحقيقة أعمق من ثنائية تلفزيونية استحوذت على حب المشاهدين لأنها بقليل من التركيز سنجد أن طيبة بل وسذاجة الشخصية انتقلت لصاحبها الذي ظل يكابد ليس فقط للخروج من جلبابها بل لمجابهة واقع فني معقد لا يعترف بالطيبين ويستوجب شروطا اخرى من النفاق الاجتماعي والتملق للسلطة لكسب ودها وبالتالي ان تفتح الابواب امامها ؛ وهذا ما لم يقوى ياسين او بالأحرى “ياسينو ” على مسايرته ليعاني الامرين في سنوات عمره الأخيرة ويكافح لكسب قوت يومه والحفاظ على الابتسامة التي ظل الجمهور يعرفه بها.

ظل ياسين وفياً لحياته البسيطة وقريبا من الناس والشارع حيث نجح عبر هذه العلاقة الوثيقة في تبنى مصطلحات المواطن العادي البسيط وعبرها دخل قلوب المتلقي بسلاسة؛ والملفت أنه بقي مخلصا لسوريته وحبه لهذا الشعب حيث صرح سابقا “لم أشعر يوما أني من ليبيا، فهذا البلد الأمين لم يعلمني سوى الخير والمحبة، هذا البلد عشت فيه كل حياتي، تربيت وكبرت وعملت وتزوجت وأنجبت في كنفه، ولن أغادره إلا إلى الموت، ولن أغدره ولو مت أنا وأطفالي من الجوع”.

جنازة متواضعة لياسين بقوش الذي حجد الوسط الفني قدره حياً وميتاً (العربي القديم)

قذيفة غادرة ونهاية مأساوية

قرب مخيم اليرموك وتحديدا في حي “العسالي” استهدفت قذيفة “آر بي جي” سيارة ياسين بقوش في الرابع والعشرين من شهر شباط سنة 2013؛ لم تثني الأحداث العظيمة التي يحيياها السوريون في تلك الايام عن وداع وبكاء ورثاء ابن ليبيا الذي يصر على أنه ابن الشام والصالحية البار الذي لم يعرف بلدا غيرها وحينها اكتشفت وسائل الإعلام متأخرة كالعادة معاناة ياسين في أيامه الاخيرة من الاهمال والتهميش؛ لكنه كما سبق ظل وفيا لكلماته انه لن يغادر سوريا الا الى الموت.

ونال مراده بالفعل؛ ولعل من النقط الملفتة التي اميط اللثام عنها بعد رحيله واقعة مريرة عاشها مع نقيب الفنانين حينها صباح عبيد الذي “إهانة” فقط لأنه طلب تعديل وثيقة تسمح لابنه بولوج المعهد الفندقي؛ والغريب ان الفارق الزمني بين رحيل الاثنين لم يتجاوز 24 ساعة فقط.

رحل ياسين بقوش الليبي الاصل والسوري الهوى وحتى الهوية متلحفا تراب الشام الذي عشقه، دون ان يتمكن من رؤية لحظات انعتاق سوريا من عهد الظلم والقهر؛ لكن من حقه علينا ان نستحضر سيرته من باب الوفاء وهو من قدم لنا دروسا في الإخلاص والطيبة طوال حياته.

رحم الله “ياسينو” الاصيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى