دموع جدتي وسيارة سميرة توفيق الحمراء
ذكريات تستعيدها: هبة عز الدين
“بدنا نروح ع البيت، هلق بتطلع سميرة”
ماتزال هذه العبارة بصوت جدتي أم قاسم رحمها الله ترن في أذني، ورغم أني لست من هواة النوع الغنائي لسميرة توفيق إلا أنني أشعر بانتماء لها، أو الأصح قولاً أحب أن أسمع ما كانت جدتي تحب سماعه!
جدتي أم قاسم لم تكن متعلمة، وأصر هنا ألا أقول أميّة ربما لرفضي اشتقاق النقص المعرفي من الأم وبالتالي من النساء، وأؤمن بأن هذا جزء من البنية السلطوية للمجتمع وللنظام السوري معاً. لم يمنع عدم ارتياد أم قاسم لدور الكتّاب، أو حلقات التعليم أن تكون ذوّاقة للفن والغناء، ورغم أنها كانت حجّة وتصلي، لكن لا أتذكر أنها قالت يوماً إن الغناء حرام، على العكس تماماً اعتادت أن تردد حينما تظهر فقرة سميرة توفيق على التلفاز الأبيض والأسود حينها: “دخيل الله اللي خلقها، ما في حدا ما بيحب سميرة”، وكأنها فعلاً تبتهل لله عبر جمال صوتها.
***
على فكرة، منذ أشهر كتبت منشوراً عبر فيسبوك، أستذكر به أعراس سرمدا، والطبل والزمر في المرسح أو المسرح، وهي الساحة الواسعة في الشارع التي يقيمون فيها الأعراس. قلت في المنشور، بأني أشتاق لتلك الأيام، وأعشق قرع الطبل، وصوت الزمر، و”الدرجة”، ورقصة شباب الطبول والعربية، الرقصات التي اعتاد السرامدة عليها خلال الأعراس.
علّق لي أحدهم، ومحسوبكم أحد أعضاء مجلس الإدارة في أكبر المنظمات الإنسانية التي تعمل في سوريا، منتقداً وبأنه لا يُحن إلا لما فيه خير للأمة والإسلام، وما يرضي الله. قلت له وقتها “حنين على سنة الله ورسوله”، وطبعاً حظرني بعدها. حقيقة نحن السوريين بارعون جداً في وضع حدود للنقاش، عبر الحظر طبعاً، دون وجع رأس أو نقاش.
وددت وقتها أن أكتب له قبل كلمة حنين، لكني لم أجد ذلك مناسباً حفاظاً على صورتي المجتمعية، لكن أود هنا أن أتوجه له مجدداً وأقول: اخرس!
***
عودة إلى سرمدا، القرية التي نشأت وتوفيت فيها أم قاسم، حيث دخل التلفاز بأواخر السبعينيات حسب روايتها، وكان جدي من أوائل المُلاك للتلفاز، حيث يتوافد الجيران في الحارة الغربية على بيت جدي السيَاف، يتسمرون قرب الآلة العجيبة، ولو توفرت كاميرات لالتقطوا الصور التذكارية، وكأنه مَعلم أثري! لم توفر جدتي مرة أي حفلة متلفزة لسميرة توفيق، حتى وإن كانت في سهرة عند إحدى بناتها، أو حتى في عمل مهم، حيث تشكل الساعة التي تعرض فيها حفلة سميرة مفترق وقت، تنتهي على حافة بدئه كل الأشياء المهمة.
“نسم هوا شمالي وقلي مرحبا، وأني حزينة وقلت أهلا ومرحبا. نسم هوا العشاق واخضر القلب يا نار قلبي تبشري بنسمة صبا”.
تصدح سميرة وتميط جدتي طرف “الغطا” عن فمها، لتخفي ارتجاف شفتيها ترافقاً مع البكاء، ثم تمسك أحد أطراف “الغطا”، وتمسح دموعها.
لا أعتقد أن جدتي كانت لديها قصص حزينة فعلاً، حتى تهيّج كلمات الأغنية شجونها، إلا أن الحزن أصبح عرفاً وتقليداً، وكأن الأدالبة أو السرامدة خصوصاً يقومون ببروفة للبكاء، في حال احتاج الأمر ذلك، أو ليكونوا متأهبين للمصائب، وما أكثرها في بلادنا.
حول جدتي يتحلق شباب الحارة وكذلك الصبايا، ينفث الرجال التبغ، وكأنهم يقتصون من السيجارة، وربما يتذكرون الصبايا اللواتي أغرمن والتقين بهنّ عبوراً في درب العشاق، الطريق الذي يصل سرمدا بصرفوت، ومن ثم كفردريان وتختبئ النساء خلف بعضهنّ، تخفين التأثر بمطلع الأغنية، حتى تصل سميرة إلى نهاية الموال.
“بسك تجي حارتنا يا عيوني وتتلفت حوالينا، عينك على جارتنا ولا عينك علينا”.
تقرأ سميرة هذه الكلمات دون موسيقى، وكأنها تشهر بداية ملحمة غنائية، ثم تسأل بمنتهى الغنج، وتميل رؤوس الحضور معها، وتقول: “علينا ولا على جارتنا؟”، فتتصاعد الأصوات في بيت جدي “طبعاً عليكي، دخيل الله اللي خلق هالخال ع وجك”.
***
بعد سنوات طويلة، كبرت أنا، وفي جعبتي حب جدتي والجيران لسميرة، ولدي حلم أن أركب سيارة حمراء، علّي أنتشي بشعور كل أولئك الذين طربوا لسماع سميرة. كنت أود أن أقودها، وأم قاسم قربي في آخر أيامها، وأدير لها أغاني سميرة، ونتجول في الجبال، وتروي لي الفروق بين سرمدا وكفر يحمول، وكيف أن سرمدا تتفوق على كل القرى الأخرى بكل شيء، وتقول لي:
“يا بنتي حتى المعز بسرمدا غير!”.
في عام 2007 بعد وفاة جدتي، اشتريت سيارة حمراء، وكنت كلما مررت بجموع من الناس يغنون، أو “يلطشوني”، “من بيروت لجوني مرت سيارة حمراء، هي سيارة محبوبي يا عيوني وأنا عرفتا من النمرة”. أصبحت نمرة سيارتي تمثل جزءاً من أرشيف جدتي وذاكرتي وسميرة، حتى إني حفظتها غيباً وكأنها رقم هويتي.
ثم بعد قيام الثورة، وعدم توفر البنزين، ركنتها في الكراج، وبعد تتالي التيارات الإسلامية والتقييد على قيادة المرأة للسيارة بالإضافة إلى لساني الطويل الذي جعلني عرضة للمشاكل اليومية معهم على الحواجز، قررت ألا أقودها حتى يحدث الله أمراً، كما يقول “الإخوة”.
***
منذ سنة تقريباً قررنا كعائلة إعادة استعمال السيارة، وقرر أخي أن يصلحها، لكننا لم نتوقع بألا نجد قطع تبديل لها في المحرر، وبأن استيراد قطع التبديل قد يكلف سعر سيارة “سنتافي” جديدة! خصوصاً بعد انتشار آلاف السيارات الأوربية الفارهة غير المجمركة في إدلب. وفي غمار البحث عن قطع التبديل، ارتطمنا بطلب الحكومة في إدلب بتغيير النمرة؛ لأنها تابعة للنظام.
رفضت قطعاً، كيف أبدل نمرة سيارة سميرة الحمراء هكذا بسهولة؟ ألا يعلمون بأنها جزء من ذاكرتي، وبأن سميرة قد تموت داخلي إن ذهبت النمرة؟
مضى الوقت، وباءت كل المحاولات لإيجاد قطع التبديل، وإبقاء النمرة بالفشل، فقررنا قبل أشهر أن نبيعها كما هي.
اليوم، وبينما أتصفح الفيسبوك، ظهر لي منشور في أحد صفحات إدلب، يعرض قطع سيارتي الحمراء للبيع! يا إلهي لقد فكوها وقطّعوها! يا ربي قتلوا جدتي، وسميرة!
لم يبقَ لي سوى الذكريات التي أسكبها في هذه الكلمات القليلة ، فهل يقتلونها أيضاً، أو يبيعونها بالمفرق؟
لله درّك يا هبة