الدولة علمانية أو دينية… ما يهمني: من يُعيد كرامة السوريين؟
إن كانت “اللحية” أكثر نزاهة من “ربطة العنق”، فأنا مع “اللحية”.

نوار الماغوط – العربي القديم
منذ أكثر من سبعة عقود، لم يعرف السوري طعم الاستقرار الحقيقي ، إذ ظلّ يتأرجح بين ديكتاتوريات متعاقبة وشعارات كاذبة… لكن اللحظة التي كسرت جدار الصمت كانت ثورة السوريين في 2011، التي وُلدت من رحم الألم، لكنها للأسف لم تسلم من لوثة الفساد والتسلق ، حتى من داخلها
اليوم، لم يعد الحديث عن أن النظام سقط فقط، بل عن استرداد وطن منهوب، وكرامة مهدورة، ومحاسبة عادلة لا تفرّق بين فاسد في الحكم وفاسد في المعارضة.
منذ الاستقلال، لم تنل سوريا لحظة راحة حقيقية. فبين الاستعمار الخارجي والتغوّل الداخلي ، وبين الانقلابات والبعث، ثم الطغيان الذي تمدّد عقودًا ، كان السوري دائمًا يدفع الثمن من كرامته ولقمة عيشه وأمنه الشخصي
ما حدث بعد انطلاق الثورة السورية لم يكن مجرد انقسام سياسي، بل انكشاف شامل
لم ينهب السوريين فقط من تسلّط باسم “الوطن”، بل أيضًا من تسلّط لاحقًا باسم “الثورة”. وها نحن اليوم ، وبعد كل هذه الدماء والدمار وسقوط حكم الأسد ، نطرح سؤالًا بسيطًا لكنه جوهري من يعيد كرامة السوريين؟
وهل يمكن أن تقوم دولة حقيقية في سوريا، بينما الفاسدون ما زالوا طلقاء، والمال العام غنيمة، ومشاريع التقسيم تُسوَّق كـ “حقوق مكونات”؟
في الثمانينيات، حذّرت الصحفية سلوى اسطواني، مراسلة بي بي سي في دمشق، من أنّ سوريا باتت تعيش على الرشوة، وأصبحت أكثر الدول اعتمادًا عليها في تسيير شؤونها. بعد أربعين عامًا لم تتغير الصورة، بل ازداد المشهد وقاحة وعلانية، وتحول الفساد إلى ثقافة ممنهجة تخترق كل مؤسسات الدولة والمجتمع. منذ سيطرة حزب البعث ، وُلدت طبقة حاكمة حولت الدولة إلى إقطاع خاص، حيث تُمنح الثروات والامتيازات لا بناءً على الكفاءة ، بل على الولاء والقرابة. الثورة التي جاءت لتهزّ هذا النظام تحوّلت في لحظة إلى فرصة لبعض الانتهازيين لسرقة ما تبقى.
كم من ملايين جُمعت باسم الجيش الحر، أو لدعم الجرحى والمعتقلين، تحوّلت إلى حسابات بنكية، مقاهٍ راقية، عقارات ومطاعم؟ وكم من شخص لبس عباءة المعارضة ليستثمر في دماء السوريين ويتاجر بأوجاعهم من الفنادق والعواصم؟
أما عن المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، فقد ضمّ أسماء وشخصيات بارزة من مثقفين وسياسيين وناشطين، كبرهان غليون، وفايز سارة، وميشيل كيلو (رحمه الله)، كمال اللبواني وجورج صبرا، وخالد الناصر، وعقاب يحيى، وأنس العبدة وسهير اتاسي و ريما فليجان وغيرهم . هؤلاء تولوا مناصب قيادية أو رمزية في مرحلة حساسة، لكن رغم إخلاص بعضهم فشلوا في تحويل تلك المؤسسات إلى كيانات شفافة وخاضعة للمحاسبة
غابت عن هذه الكيانات آليات المراقبة على المال السياسي، وتوزيع المنح والمساعدات، ما فتح الأبواب أمام التسيّب والفساد، أو على الأقل سوء الإدارة، حتى باتت هذه الأجسام عبئًا على القضية بدل أن تكون أداة لنصرتها
في هذا السياق، ووفق تحقيقات نشرها موقع “ستيب نيوز”، وُجهت اتهامات إلى أحمد الجربا، الرئيس السابق للائتلاف، وسهير الأتاسي، بالمسؤولية عن اختلاس أكثر من 70 مليون دولار من أموال منح خارجية، وتحويلها إلى حسابات خاصة بعائلاتهم في أوروبا، كما يُذكر أن خالد الناصر، الذي كان يعمل طبيبًا في أحد المستشفيات بالسعودية براتب لا يكفيه حتى نهاية الشهر، أسس حزبًا سياسيًا ليتمكن من الانضمام إلى جسم الائتلاف، ثم بدأ في الإنفاق بلا حساب بعد ذلك.
أما عقاب يحيى، الذي تفاخر المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين السابق، صدر الدين البيانوني، بوجوده ضمن المكتب التنفيذي للائتلاف، فقد أحاط نفسه بأقاربه في سلمية والمهجر، بينما كان أنصاره يروجون لصورته كنزيه يكتفي براتبه، الذي يقدر بخمسة عشر ألف دولار، دون احتساب مخصصات السفر والإقامة في الفنادق… وفي مقابلة لم تنشر، سألته إحدى الصحفيات عن سبب عدم استقالته من الائتلاف الذي تُلاحقه اتهامات الفساد وسوء السمعة، فأجاب: “كل واحد معروف من هو، وبعدين هل تريدينني أن أقعد في البيت وأغلق باب الغرفة على نفسي؟ دعينا نواصل العمل، فإذا انسحبت سيأتي غيري.” ظل يحيى في الائتلاف حتى وافته المنية.
أكثر من ذلك، ذكر الموقع أن هناك اتهامات وُجّهت لقادة المعارضة مثل غسان هيتو، و طياره، ومصطفى ومحمود الصباغ، بادعاءات إنشاء شبكة احتيال مالية تهدف إلى جذب استثمارات وهمية من السوريين والعملاء عبر شركات وهمية في تركيا والولايات المتحدة، بما فيها فندق فاخر للتغطية على عمليات غسل أموال تبلغ قيمتها ملايين الدولارات
على الجانب الآخر، رامي مخلوف، ابن خال رأس النظام، كان رمزاً فريداً للفساد والتحكم في موارد الدولة والمعارضين على حد سواء. إذ اتُهم بدعم مظاهرات موالية للنظام وتغذية آلة إعلامية بالتبرعات لدعم السلطة، كما خسر السيطرة على أصول ضخمة في سورية ودبي عندما فرضت عليه الدولة حصرًا وعمليات حجز لأصوله المقدَّرة بالمئات من ملايين الدولارات
كما أن رفعت الأسد، عم الرئيس بشار، حُكم عليه من قبل محكمة فرنسية عام 2020 بالإدانة بتهمة اختلاس أموال الدولة بقيمة 90 مليون يورو، وتمت مصادرة أصول بقيمة مماثلة في أوروبا
ولم يقتصر الأمر على الأفراد، بل استخدمت مؤسسات تحمل أسماء إنسانية كحجاب للفساد الهلال الأحمر السوري والأمانة السورية للتنمية، المنظمتان اللتان تٌحكمان من قِبَل النظام، استُغلتا كقنوات احتكار المساعدات الدولية، واستُبدلت بمصادر تمويل للنظام ، بسبب سيطرة الأجهزة الأمنية على تعيين قياداتها وإدارة مشروعاتها الإنسانية
قائمة الأسماء هنا ليست شاملة، لكنها أضحت مقياسًا لما ينتظر السوريين من محاسبة وشفافية.
وفي نفس السياق من الجدير ذكره ، ولئن لم نستطع بإنصاف أن نقول إن كل من عمل في مؤسسات عزمي بشارة قد سرق بشكل مباشر أموال الثورة السورية، إلا أن الواقع يُظهر أن هذه الأموال لم تُوجَّه في معظمها إلى الداخل السوري المنكوب، بل خُصّ بها أفراد وهيئات تدّعي تمثيل الثورة وتتصدر واجهتها الإعلامية والسياسية. ولو خُصّصت هذه الميزانيات الكبيرة لدعم الداخل السوري مباشرة، لكان أبناء الشهداء، وأسر المعتقلين، والنازحين، أولى بها وأكثر استحقاقًا وعدلاً
حين سألت الصحفية زينة يازجي نائب الرئيس الأسبق عبد الحليم خدام عن ثروته، أجاب ببساطة ساخرة: “أولادي عم يشتغلوا”. وهي نفس الإجابة التي تكررت على ألسنة أبناء رفعت الأسد ، مصطفى طلاس ، محمد مخلوف ، محمود الزعبي ، حكمت الشهابي ،محمد دعبول بل ستُقال لاحقًا من أولاد بشار الأسد وأحفادهم دون شك.
نفس المسرحية… نفس الوجوه… نفس الاستخفاف بعقل المواطن.
آن الأوان أن تتحرك إدارة وطنية حقيقية قادمة أو حالية نحو محاسبة شاملة وعادلة ، لا تستثني أحدًا.
لا فرق بين لص في النظام ولص في المعارضة. ولا عذر بعد اليوم لمن يدّعي “الواقعية السياسية” للتغطية على مجرمين.
المحاسبة ليست فعلًا انتقاميًا، بل واجب أخلاقي وتاريخي. لا يمكن بناء وطن فوق جماجم الأبرياء ومليارات منهوبة.
نحتاج إلى فتح ملفات الفساد منذ حكم البعث وحتى اليوم، بالاستعانة بخبراء دوليين لتعقّب الأرصدة السرية ، وكشف غسيل الأموال وتوريثها تحت أسماء الأبناء أو الأقرباء.
لا يمكن الحديث عن دولة موحّدة دون الوقوف بشدة ضد كل مشاريع التقسيم ، سواء أكانت باسم “الإدارة الذاتية”، أو “الخصوصية المذهبية”، أو “التمثيل المناطقي”.
نعم، نريد إدارة محلية، وعدالة تمثيلية، وحقوقًا متساوية، لكننا نرفض تجزئة سوريا إلى كانتونات طائفية أو عرقية تُدار من الخارج… وما يُسوَّق له من بعض الأطراف الكردية أو الدرزية، لا يخدم السوريين، بل يخدم خرائط سايكس-بيكو جديدة برعاية دولية.
أنا علماني… نعم.
لكني لا أؤمن بالألقاب ولا بالمظاهر. لا يهمني إن كان الحاكم بلحية أو ربطة عنق.
يهمني فقط: من يعيد كرامة السوريين؟ من يحاسب الفاسدين؟ من يبني دولة قانون؟
إن أخطر ما أصاب سوريا، ليس فقط الاستبداد، بل اعتياد السوريين على الظلم والنهب كأمر واقع. ما نحتاجه اليوم هو ثورة أخلاقية مكمّلة، لا تُقاس بعدد الضحايا ولا تُقارن بعدد اللاجئين، بل تُقاس بقدرتنا على بناء دولة لا يُظلم فيها أحد، ولا يُكافأ فيها الفاسد بمزيد من السلطة.
لا تنتظروا معجزة من الخارج، ولا خلاصًا من مؤتمر دولي.
المعركة القادمة هي معركة وعي ومحاسبة ، وإلا فسنستبدل طاغية بآخر، وناهبًا بآخر، ونعود للدوران في نفس الحلقة الجهنمية.
فإن كانت “اللحية” أكثر نزاهة من “ربطة العنق”، فأنا مع “اللحية”. وإن كان “العلماني” أكثر شرفًا من “الشيخ”، فأنا معه.
أنا فقط مع من يعمل بضمير، ويحترم دم هذا الشعب المنكوب.
القيادة ليست في المظهر، بل في الموقف.
والمعيار الوحيد الذي يجب أن يُوَحّد السوريين اليوم هو : من سيعيد لهم وطنهم وكرامتهم وعدالتهم؟
لا نريد شعارات، بل أفعالًا. لا نريد خطابات، بل حسابات مكشوفة.
فمن خان يُحاسب. ومن سرق، يُفضح. ومن خدم هذا الوطن بصدق، يُكرّم.
سوريا لا تحتاج دولة دينية… ولا دولة علمانية… بل تحتاج دولة نظيفة.
كل الشكر للعربي القديم الذي يذكّرنا دائمًا أن سوريا بخير. مقال شجاع ونداء وطني يفضح الفاسدين من كل الأطراف بلا استثناء.
نعم، لا خلاص إلا بالمحاسبة الشاملة واسترجاع الأموال المنهوبة وبناء دولة نظيفة يحكمها القانون
نأمل من الرئيس أحمد أن يخطو هذه الخطوة وسيلتف كل الشعب السوري حوله كالبنيان المرصوص وسيكتب التاريخ اسمه بحروف من نور