سير ذاتية ومذكرات

نصوص من الذاكرة: گبَّاص وأيام الجوع

      صالح الحاج صالح

        عُرِف باسم “گبَّاص”،  أمّا الاكتشاف المتأَخّر أنّ اسمه “حسن” لم يغيّر بالأمر شيئاً، أو بالأحرى لم يوجد أحدٌ بكل الديرة مَن اقتنع أن اسمه، حسن، أو مرّ بخاطره أن يكون ” گبَّاص” مجرّد لقبٍ لحسن، رغم أنّ الديرة التي عاشوا فيها تُنتج ألقاباً للمدحِ والذّم أكثر ما تنتج غذاءها. المهم في أمر گبّاص هذا أنّ حياته، وأفعاله هي مَن منحته الاسم، وأعطت ذرّيته اسماً عائلياً ينتسبون إليه “الگُبصچيَّة”، مثل اسم بيطرچي، وخضرچي، ومعمرچي، وأكثر من ذلك ذهب كبار السِّنّ قائلين: مِن انشقت أعيننا على الدنيا لم نسمع بأحد اسمه گَبّاص قبل هذا!

وكذلك الحال في زمنٍ تالٍ

 عندما اجتاحت الديرة حمّى البحث عن معاني الأسماء في قواميس اللغة – خاصةً الألقاب منها – من قبل جيلٍ اعتقد أنّه سيُعيد ترتيب الأشياء وتسميتها؛ للتخلّص من إرثٍ أثقلهم وأخجلهم، لم يجدوا في قواميسهم، سوى كلمة  “قَبّاص” من فعل “قَبَصَ”، وتعني مَن يلتقط الأشياء بخفّةٍ ورشاقةٍ بأطراف أصابعه، وقالوا: إنّ فعل گَبَص ما هو إلا قلب قاف” قَبَصَ” إلى گ،  جرياً على ما يتمّ في كثير من الكلمات في ديرتهم، ومنها جاء اسم الفاعل گَبَّاص، ويعني بالضبط أخذ الأشياء خلسةً، كبيرها وصغيرها، بخفّةٍ ومهارةٍ، حتى لو كانت تحت أعين النواطير، وتدفيرها، والتدفير ابتداع  ابتدأه، واختصّ به گَبّاص، ببيع ما يسرقه، خارج قدرة أهل الديرة على تتبعه، إلى أسواقٍ بعيدة، إلى حلب، وحماة، وحمص، وإلى تركيا، وهي أيضاً، أي “التدفير” إضافة لغوية، إلى قاموس لغة الديرة، لا يُدرك معناها مَن هو خارجها، وأصبح  مهنة امتهن  بها آخرون، اختصّوا بالسرقة، وطوّروا التدفير؛ ليصبح نهجاً كاملاً، وحرفةً بقواعدَ مُتبعَةٍ بدقّة، واسماً يُنسَب إليه ممتهنو الحرفة، وطريقة معيشة.

وحول گَبَّاص هذا حامت الشكوك، بل انحصرت به، عندما تُفقَد النِعاج، والماعز من مراعيها، أو دَوّارِها، وحظائرها المُغلقة، وتُفقد شوالات القمح والشعير، وشلول القطن، أو الحمار، أو الحصان، أو الغسيل المنشور على حطب خلف الدور، وحتى لحف الصوف استطاع گَبَّاص أن يَگبصَها، من فوق الملتحفين بها!

الاستعانة بمُتتبعي الأثر لم يُجدِ نفعاً، ولم يعثر أيٌّ منهم، على كثرتهم  على أثرٍ يثبت على گَبَّاص أنه الفاعل، بما فيها المرّة الوحيدة التي سُرقَت فيها فرسٌ أصيلةٌ، حيث اقترب الأثر المتبوع لحوافر الفرس، من بيت گبّاص، لينحرف  فجأةً بعيداً، باتجاه مغاور “بغديك”(1) ، ويختفي على بعد خطوات داخل أكبرها.

قيل وقتها: إنّ گبّاص مظلومٌ، ومَن سرق استغلّ السمعة غير الحميدة للرجل! وقيل: إنّ السعلاة هي مَن تسرق، وتتلبّس شكل گبّاص، وتسطو على أملاك الناس! وقيل: إنّ الأتراك  “القچَقچِية”(2)، وراء كلّ سرقةٍ تقع في المنطقة. القچَقچِية يستخدمون  المغاور الممتدة  طويلاً تحت الأرض، وتصل بين طرفي الحدود، والقچَقچَية ما غيرهم يستطيعون السرقة، ولا يتركون أثراً يدلّ عليهم !

 وقيل وقتها أيضاً، ببراءة كبّاص، وتمّ سَوق حججٍ،  لم يتمكّن أحدٌ من تكذيبها، وتساءل مَن  قال ببراءة گبّاص: هل  وجدتم، ولو مرّة  واحدة ماسُرِق في بيت گَباص ؟ هل رأى أحدٌ منكم عظماً بيد ولدٍ من أولاده، أو رائحة “كتار”(3) فاحت من بيته؟!

لا، أبداً غريمكم مو گَبّاص!

وحتى عندما كان يُقتاد گَبّاص إلى المُبَشِّعين، إثر اختفاء أيّ شيءٍ من الديرة، بطولها وعرضها لإثبات جُرم بسرقةٍ لا يُشكّ أنه فاعلها، كان هو، لا غيره، يَخْتم جلسة “البَشْعَة”(4) نافضاً شليلَ ثوبه قائلاً بعنجهية: (بيّضَ الله وجه المُبَشِّع، وبيّضَ الله وجه الكفيل)، ثمّ  يدور على الحاضرين كطاووس ماداً لسانَه، دليل براءته، ليروا أنّ  مِحماس القهوة المُحمَّى، حتى الاحمرار لم يترك أثراً على لسانه، ولا ينزاح من أمام أيٍّ من  الحاضرين، إلّا بعد أن يسمع منه قول: (أشهد الله أنك  بريءٌ من ..كذا)، ويشعر مَن اقتاده أنّه بنصف هدومه؛ من شدّة الخجل، وهو يسمع تعنيف واستهزاء گَبّاص له: (شوف  لساني، شفتو ..لا تدير وجهك، شووف شووف..بس منك لله.. منك لله).

أمّا بعد مجيء مخفر الدَّرك، بمنتصف خمسينيات القرن الماضي، كان هو أيضاً، لا غيره، المُشتبَه به الدائم،  إثر كلّ سرقةٍ، أو فقدٍ لغرض ما، حتى ولو كان مربط فرس ضاع في البرية، ورغم حفلات العِقاب المشهودة التي يقيمها له رئيس مخفر الدرك، وسط القرية التي يسرق منها، لم  يعترف، ولا مرة بأنّه السارق، بما فيها تلك المرّة التي جَرَّت عليه فوق العقاب إهانةً تجاوزت كل حدٍ وعُرف؛ مما جعل الرجال الذين جمعهم رئيس المخفر؛ لمشاهدة حفلة التعذيب يُديرون وجوهم، وهم يلعنون أنفسهم، ويلعنون رئيس الدرَك في سرّهم، ولعنوا  گَبّاص، حتى سابع جَد، وخصّوا بلعنهم  سِنَّ گَبَّاص الذهبي، متهامسين في ما بينهم: “سنّ القحبة هذا”، هو من جرّ عليه كلّ العذاب، وقالوا: ما كان ضروري  يكْلَخْ،  بوجه رئيس المخفر،  وكأنه يقول ألف خيزرانة ما تعلّم على جنابي، فظنّ رئيس المخفر  ظناً صحيحاً، أن گَبّاص  يسخر منه، فجنّ جنونه، وانهال عليه بالضرب، كيفما اتفق، رفسه، عضه، داس على رقبته بحذائه، دَبَك على ظهره، لكن كلّ هذا لم يشفِ غليله، ولا حتى عندما امتدّت يده على شوارب گَبّاص، نتف، وتفّ عليها صارخاً بشكل هستري: (ولسه تضحك يا بن الكلب، تضحك مني يا كلب ابن كلب، تضحك من أبو مازن .. والله لأربّي بك ديرة الكلاب هذه)، ولما انهدّ رئيس المخفر من التعب، دون أن يأخذ من  گبّاص لا حقاً، ولا باطلاً، قرفص بجانبه صافناً لاهثاً، وأشار بإصبعيه طالباً سيجارة.

سرت في الجمع المتحلّق الحركة، بعد الوجوم والتوهان، وقطع النفس، طوال فترة الجلد، حركة سباق بلفّ سيجارة لرئيس الدرك امتدّت بها أيديهم، وتناول واحدة.

ظنّ الجمع المتحلّق الواجم أنّ رئيس المخفر قد انتهى.. راقبوه بملل، وهو ينفث دخان سيجارته متباوعاً،  معايناً ملامح گَبَّاص، حتى حسبوا أنّ رئيس مخفرهم ندم على إهانة الرجل؛ ممّا شجّع مَن التقط أبو مازن السيجارة من يده يتجرّأ  على القول:  يا جماعة رئيس مخفرنا طيّب لا يظلم.. وقبل أن يكمل جملته صدر من أبو مازن أمرٌ إلى  الدرَكيَين الواقفين بجواره:  هاتوا لي قطّاً، وليكن هاروناً كبيراً، و”مخلّاً”(5)، واجمعوا  كلّ أهل القرية، الكبير والصغير؛ ليتفرّجوا.. الفرجة اليوم  ببلاش!

 لم يحزر أحد، ماذا أراد  “أبو مازن” من القطّ والمخلّ، إلّا عندما  دسّ القطّ في سروال گبّاص، وأحكم ربط حجلي سرواله، وبدأ بفصل جديد، ومبتكر في  حفلة التعذيب..  نَخس القط  بالمخل، لكزه بالخيزرانة، وخبط گبّاص بجمع يده، وبين نخس، ولكز، وخبط، كان القط يموء ويصرخ،  يعضّ، ويخرمش، يريد الإفلات من المكان  الضيق الذي حُوصر به، وگَبَّاص يصيح مخذولاً: (دخيلك يا أبو مازن .. مشان الله .. داخل على عرضك، أكلني، اذبحني بس طالع البِس من هنا .. دخيلك إلا هذا.. يا ناس البِس مرعدني !)، ولأول مرة يرى  المتفرجون، من لحظة حضوره إلى قريتهم أنّ (أبو مازن)  يستطيع الضحك، حتى بدت لهم تصرفاته التالية  فيها تسامح،  تجاه گبّاص.. فكّ العقد المحكمة لحجلي السروال، مسّد على شعره،  وخاطبه بودّ، وبصيغة أقرب للمزاح، وهو يعاين الجروح بين فخذيه: (شايف شلون يا كلب خليتك تعرف من هو أبو مازن؟ لا تعترف بشيء، وما عاد يهمني إن اعترفت أم لا، المهم.. كسرت عينك، وربّيت بك ديرة الكلاب هذه).

كان  گَبَّاص دوّاسَ ليلٍ، كما تقول المرويات عنه…

 ويُوصف أنّه “يسرق الكحل من العين”، ويقال إنه استطاع خلال سنين الجوع، في ثلاثينيات القرن الماضي انتزاع لقمته، ولقمة أهله من فم السبع، طوال سنوات وسنوات. لم يزرع، أو يحصد يوماً، لم يمتلك أغناماً، ولم  يسرح راعياً عند أحد، لم يتاجر، أو يسافر، ورغم ذلك كانت بطون عائلته ممتلئة، ونُسجت حوله عِدّايةً حفظناها في الصغر، عداية تجمع بين إعجابٍ وكرهٍ له، وخوف منه ..عداية تقول:

آني نايم چَـبْ و چَـبْ / ونعيجاتي يَرْعن حَبْ

يا حرامي بُوگ بُو گ / بو گ العبسة أم عذوگ

حسن –  گَبَّاص- لُولَحْ دبوسو / صار الهَطل بعروسو..(المقصود هنا غير الكلام الظاهر، تورية لكلام  جنسي)

عروسو بِنت عمو / تِشرب حَفنة من دمو

دَمو دَمْ الحَصاني / اخْسن ياعروگ لساني

لأركَب وأنْحَر عمامي.

 عمامي شرچي وغربي / متحاوفين الوردِ

والورد شِنهو هَمّو

لابس گصيرة عمو

لأغسلها وأكويها، وأطلع شبااابي بيها.  

كان گَبَّاص أكثر مصادر خوفنا في الصغر، إلى جانب السعالي.. التهديد به له مفعول ناجز، (نام، نام لا يچيك  گبّاص ويگبصك)، ننام خوفاً، لكن لا ننفكّ منه، نراه في أحلامنا مقبوضاً عليه، وملقىً بحفرة نقف أعلاها، ونتبوّل عليه؛ لنصحو مُبللين، أحياناً، نصحو فزعين باكين من يدٍ تمتدّ؛  لتگَبص أحدنا من فراشه برمشة عين، وتُخفيه في الظلام، ولا يهدأ مَن حلم به، إلّا بسقية ماءٍ مقروءٍ عليه من طاسة الرعبة.

رأيناه نعم، رأيناه أول مرة، وقد خاب ظنّنا عن صورته التي كوَّناها في مخيلتنا، عن رجلٍ أشعث الشعر، ضخم الجثة، له يدان طويلتان تنتهي بمخالبَ، ظنناه حافي القدمين بوجهٍ أَخرش، تتوسطه عيونٌ حمراءُ مشرومةٌ ومائلة، وظنناه طويلاً كهرطٍ، قدماه في الأرض، ورأسه في السماء فوق الغيوم، وحسبناه يظهر ويختفي برمشة عين.

وكانت له سيرةٌ بيننا، ألّفنا القسم الأكبر منها.  إنه يقدر على أخذ أيّ شيء، من أيّ مكان، بمجرّد مدّ يده، وهو جالس في بيته!

وقلنا: لا يخاف حتى من رئيس المخفر، وكنّا متأكدين أن له رائحة ضبع!

صورته التي رسمناها له في أذهاننا، وقدرته هذه كانت أمراً مفروغاً منه، وغير قابل للمعاندة، مثل شروق وغروب الشمس الذي نراه يومياً، مثل يقيننا أنّ الشياطين هي مَن تُثير زوابع العجاج، وتجعلها تَفْتِل حول نفسها؛ كي تَنتقل من مكانٍ لآخر. نطاردها لندخل في وسطها، وبأيدينا غبطة ملح ننثرها؛ كي نرى  شيطان العجّة، لم نرَ أيّاً منها،  ولا مرّةً، ورغم ذلك ظللنا على ثقة أنّ هناك شيطاناً، داخل كلّ عجة، مثل يقيننا أن گَبّاص يُضْبِع ما يسرقه بطشِّ بوله عليه.

رأيناه نعم، رأيناه أول مرّة، في ظهيرة يومٍ لاهب، كان ماراً بإبط التّل، لم نكن نعرف أنه هو، كان على هيئة ملاكٍ هابطٍ من السماء، يشبه وصف “الشيخ علي” للملائكة الذين أسقطوا طائرات اليهود، بمجرّد البُصاق عليها، عندما حضروا حرب ذلك اليوم القائظ، قبل سنة بين العرب واليهود.

رأيناه بقامته المعتدلة، يحطّ على رأسه مركزيت مردودة الأطراف على كتفيه، “مُعَنْفصاً”(6) بعقال مرعز، يميل به على جبينه العريض، ليبدو كرجلٍ لاهٍ خالي  البال، مرتدياً  كلابيةً بيضاءَ تُهفهف بكل خطوة يخطوها، وعلى كتفه خاچِـية بيضاءُ مُقصّبةُ الأطراف، والأردان بلون ذهبي، يدسّ طرف شليلها تحت إبطه، ينتعل حذاءً أبيضَ، وجواربَ بيضاءَ، لم نملّ من النظر إليه، مبهوري الأنفاس.

سأل: إن كنت ابن فلان، وذاك ابن فلان، وهذه الأغنام أغنام أهلنا؟

نعم، قلنا.

ضحك، ومن وسط ضحكته شعَّ سِنّه الذهبي، وسط بياض وجهه المشرّب بالحمرة.

ركضنا باتجاه الأوضة، في الجانب الآخر من التل نزفّ خبر مرور ملاكٍ بقريتنا، وذكرنا إنّه عرف أبناء مَن نكون، وإنّ الدواب دواب أهلنا، وبالكاد ننهي ما أردنا قوله، وكل منا يريد أن يسبق صاحبه، بالتبشير بالملاك الذي رأيناه، وماذا قال، حتى فزّ الحاضرون، وبصوت واحد…إنه گَبَّاص ..إنه گَبَّاص، هذا گَبَّاص .. واندفع بعضهم؛ يرتقي التلّ حافياً.

خلال الدقائق التالية لم نفهم ماذا حصل، كنا مشلولين، وبالكاد استطاع كلٌّ منا رفع يده؛ لمسح البُصاق الذي ملأ وجهه متزحزحاً من مطرحه؛ ليتفادى الأحذية التي رُميت إلينا.

لَه ..لَه ،تركتم له الدّواب يا عفون؟ ..تفوو

عجيان خايسين ..تفو

عاد من ذهب للاستطلاع، وقال: كذابين.. لم نرَ أحداً على حدّ الشوف، والأغنام في دَوّارها.

حيّالين، كذبوا كذبتهم؛ ليتخلصوا من الرعي.. تفو

ما شفتم حدا، تهيأ لكم، صحيح..؟

جفّت حلوقنا، ونشف ريقنا، قبل أن نسمع صوت مَن انتشلنا ممّا نحن فيه قائلاً: صحيح گبّاص لا يظهر للناس علناً وسط النهار، لكن الأولاد وصفوا وصفاً لگَبَّاص.. أكيد شافوه يا جماعة.

لا، ما شافوه .. كذّابين-

بل رأوه؛ جاء ليخُمّ المكان .. نصيحة انطروا الحلال بالليل.

– يقال إن گَبَّاص قد تاب.

– لا تغلطوا  گبَّاص  لا يتوب؟

***

كان لگبَّاص شكل ملاك، وأفعال شيطان

 وكان متباهياً بأفعاله. يُنقَل عنه قولٌ : إنّ كلّ أغنام الديرة، وماعزها لي فيها نصيبٌ، سواء كانت في المراعي أو مغلقاً عليها في القواويش ..لي حصةٌ في  أكياس القمح والشعير، أكانت في البيادر، أو في البرية، لي حصةٌ شتاءً في براميل المازوت، هي تتدحرج خلفي، وتلحق بي،

حتى شلول القطن المدحوّة التي يصل وزن كلٍّ منها أزيد من ميتين كيلو، قال سرقتها .

ومرة ذهب في تباهيه  بسرقة البدلة العسكرية لرئيس المخفر، وسروال زوجته كردٍّ على نتف شواربه، والدوس عليها، وهي المرة الوحيدة التي لم يلمه  فيها أحد ! 

ويقال، والقول منقولٌ عن لسانه، عندما وصل لحال فقد فيها الكثير من مهارته مُغلّفاً هذا الفقد بتوبة لم يقتنع بها أحد، وذلك عندما مسكه  قريبه مسك اليد بسرقة ديك مصري /  دجاجاته يقرقر من مخبئه، تحت روشن نضيدة بيت گبّاص، وكانت هذه  آخر سرقه لكباص  ظاناً، بل موقناً، أن انكشاف سرقته هذه عقابٌ على حنثه اليمين الذي قطعه على نفسه؛ بعدم سرقة جار أو قريب، بعد سرقته الأولى، سرقة “سد الجوع”، كما أسماها.

ولما سئل ما قصة ذلك؟

قال: بأول طلعتي  كانت سنة محل، سنة جوع، وكل يوم  أسمع أمي تَتَظلهم، وتشكو القلة،  وبيوم من الأيام سمعتها  وتشتكي حتى “اللكوك”(8) ما ضل البيت، سمعها  أبوي، وكان قعيدة منذ سقوطه، من على جدار كان يبنيه يئنّ من الألم والجوع، ويبدو  قد  واتته الفرصة؛ ليصبّ غضبه على الدنيا، ويعيب عليّ: قائلاً:

 لو كنت على حيلي ما كان شيكتم الجوع، بس خليفتي خايس، يقصدني، وأكمل:

  الزلم تقطع من لحمها، وتطعم أهلها، لو تسرق ما تتركهم جوعانين، بس الخايس خايس!

لم أفهم وقتها كيف يستطيع  الأهل أكل لحم ابنهم، ومن أين أسرق؟ فكل الناس بالديرة حالهم كحالنا، لكن وضعت السرقة ببالي، فهي على كل حال أحسن من أن أقطع من لحمي، وقال:

 درت ودوّرت، لأجد ما يُسرَق من الجوار، فلم تقع عيني على شيء، الطحين والقمح والمؤن القليلة في الكواير داخل البيوت منطورة،  من قبل أهلها، وسنين المحل ما تركت من الحلال شيئاً، ورغم ذلك ظللت أتلصص على الناس من طوق بيوتها؛ حتى وقعت عيني على خيش طحين في بيت  محروس مسنود على حائط .

قلت هذا يومك يا حسن!

نطرت أهل البيت؛ ليناموا بعد انطفاء سراجهم، دخلت وقلبي بين قدمي، تحسست المكان الذي عاينت فيه خيش الطحين، لم أجده، حَبَوت  في العتمة كاتماً نفسي مُتحسساً طريقي، لكن لا شيء، كأن خيش الطحين قد تبخّر؟  أشمّ  رائحة الطحين، أشمّها،  لكن أين؟  رائحة الطحين تقودني من  أنفي، وأنا أتبعه حتى لامست  يداي  الخيش، تحت رأسي الرجل، وامرأته يتوسدانه، ويحرسانه في الوقت نفسه!  فمن يستطيع سرقته؟  عدت خائباً  زاحفاً، وأنا أرتجف، حابساً لهاثي .

في اليوم التالي لم أتحمّل نظرة أمي، ولا نظرة التشفّي من أبي المكرسح، فكلّما التقت عيني بعينه يتفل على يمينه أو يساره، ويضيف لبصاقه المتطاير قوله: “الله ياخذ العفن وعيشتو “.

  عزمت  على سرقة الطحين، مهما تطلّب الأمر، خنجري بصفحتي، والطريق أصبح معروفاً لديّ، تحسست طريقي، أنفي يقودني، حيث  تنبعث رائحة الطحين، ولمّا لامست يدي خيش الطحين، شققته بالخنجر، ونخبت بهدوء من تحت رأس الرجل وزوجته، نخبت من الطحين ملء كيسٍ حملته معي، وخرجت هكذا بكل بساطة!

ومن لحظة خطوتي الأولى خارج البيت الذي سرقته عرفت أنني أستطيع سرقة أيّ شيءٍ أريده .

هوامش  

1 – بغديك : قرية على الحدود التركية السورية فيها مغاور كاريستية بفعل تسرب الأمطار

2 – القچَقچِي: المهرب الذي يستخدم الطرق الوعرة

3 – كتار : رائحة الشواء

4 – البشعة: طريقة كانت تستخدم في الحكم على براءة شخص، أو إدانته، وذلك بكيّ لسانه بحديد محمّى بالنار

5 – المخل، خلال: مخرز

6 – عنفص بعقاله : أي أماله على جبينه، وهو دليل تكبر

زر الذهاب إلى الأعلى