الرأي العام

الثورة السورية والثورات الكبرى عبر التاريخ: مقارنة موجعة

نوار الماغوط

الثورات على مر التاريخ لم تكن مجرد حركات احتجاجية عفوية، بل كانت تحولات جذرية قادتها رؤى واضحة وقادة ملتزمون. أمثلة بارزة على هذا النوع من التحولات تتجسد في الثورة الفرنسية، الروسية، والإسبانية. هذه الثورات لم تكن حركات عشوائية بل خطط لها ونفذها مفكرون استراتيجيون كانوا على دراية بالواقع السياسي والاجتماعي، ومجهزين بالرؤية والإرادة لإحداث التغيير. من ناحية أخرى، يمكننا مقارنة هذه الثورات بالثورة السورية التي اندلعت في عام 2011، والتي رغم شجاعتها لم تتمكن من تحقيق أهدافها لأسباب متعددة

الثورة الفرنسية (1789-1799) لم تكن مجرد انتفاضة جياع ضد الظلم، بل كانت حركة تقودها رؤى فكرية وأيديولوجيات سياسية جديدة. قادة مثل روبسبير، جورج دانتون، وجان بول مارا لم يكونوا فقط خطباء بليغين، بل كانوا مفكرين استراتيجيين فهموا تعقيدات النظام القديم وسعوا لإرساء نظام جديد قائم على مبادئ الحرية والإخاء والمساواة. هذه الرؤية الواضحة والتزام القادة كانا أساسيين في تحويل الثورة الفرنسية إلى نقطة تحول في التاريخ البشري، مؤسسين قواعد جديدة للدولة الحديثة وحقوق الإنسان.

روبسبير ودانتون لم يعملوا بمفردهم، بل ضمن مجموعة من المثقفين والمفكرين الذين آمنوا بضرورة التغيير الجذري. هذه المجموعة كانت تمتلك الوعي السياسي والاجتماعي اللازم لفهم التحديات التي تواجه المجتمع الفرنسي آنذاك. على الرغم من التوترات والصراعات الداخلية، إلا أن التزامهم بمبادئهم ساعد في الحفاظ على وحدة الحركة الثورية وتحقيق أهدافها النهائية.

الثورة الروسية عام 1917 كانت مثالًا آخر على ثورة قادها مفكرون ومنظرون سياسيون. فلاديمير لينين وليون تروتسكي، مع قادة آخرين من البلاشفة، قضوا سنوات في التخطيط والتنظيم والتحليل السياسي. كانوا مدركين لتعقيدات النظام القيصري وأعدوا خططًا مفصلة لإزالته وإقامة نظام شيوعي جديد. التنظيم المحكم والرؤية الواضحة لهؤلاء القادة كانا حاسمين في نجاح الثورة وتحقيق التغيير الجذري في روسيا. لينين وتروتسكي لم يعتمدوا فقط على الحماس الثوري، بل على تحليل دقيق للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في روسيا. تنظيم الحزب البلشفي كان مثالًا على كيفية الاستفادة من الهيكل التنظيمي لتحقيق الأهداف الثورية. الأيديولوجيا الماركسية اللينينية التي تبنوها قدمت إطارًا نظريًا ومنهجيًا للتغيير، مما ساعد في توجيه الجهود الثورية نحو تحقيق نظام جديد.

الثورة الإسبانية (1936-1939) أو الحرب الأهلية الإسبانية، رغم أنها انتهت بانتصار الفاشيين، إلا أنها أظهرت كيف يمكن للثوار الحقيقيين أن يقودوا حركة مقاومة قوية. الجمهوريون الإسبان، بما في ذلك الاشتراكيين والشيوعيين والفوضويين، كانوا ملتزمين برؤية مجتمع أكثر عدالة وحرية. رغم الانقسامات الداخلية والتحديات الكبيرة، فإن التزامهم بالقضية واستعدادهم للتضحية من أجلها أظهروا قوة الروح الثورية وعمق الإيمان بالمبادئ.

القادة الجمهوريون في إسبانيا كانوا مدركين لحجم التحديات التي يواجهونها، لكنهم كانوا على استعداد لمواجهتها. التضحيات التي قدموها، رغم الخسائر الكبيرة، أظهرت مدى التزامهم بمبادئهم ورؤيتهم لمستقبل إسبانيا. هذه التجربة تعكس أهمية القيادة المؤمنة بمبادئها والقادرة على توجيه الحركات الثورية نحو تحقيق أهدافها، حتى في مواجهة التحديات الكبيرة.

في المقابل، نجد أن الثورة السورية التي اندلعت في عام 2011 جاءت كرد فعل على عقود من القمع والظلم. لكن، على الرغم من الشجاعة التي أظهرها العديد من السوريين في مواجهة النظام، لم تتمكن الثورة من تحقيق أهدافها في الحرية والديمقراطية. ضعف الوعي الثوري والثقافي، طلب الحماية الأجنبية، عسكرة الثورة، وأسلمتها كانت من العوامل التي أسهمت في هذا الفشل.

ضعف الوعي الثوري والثقافي بين العديد من الناشطين السوريين جعلهم غير قادرين على تنظيم حركة ثورية فعالة. العديد من الناشطين كانوا شبابًا متحمسين لكنهم يفتقرون إلى الخبرة في كيفية إدارة ثورة. هذا الافتقار للخبرة أدى إلى قرارات غير مدروسة وعدم القدرة على التكيف مع التحديات المتغيرة.

طلب الحماية الأجنبية، سواء كان ذلك من دول غربية أو إقليمية، أدى إلى تداخل المصالح الأجنبية في الثورة. هذا التدخل أسهم في فقدان السيطرة على القرار وفرض أجندات خارجية لا تتماشى دائماً مع مصالح الشعب السوري. الاعتماد على الدعم الأجنبي جعل الثورة تبدو وكأنها حركة مدفوعة من الخارج، مما أثر على شرعيتها وأضعف التأييد الشعبي لها.

عسكرة الثورة فتحت المجال لظهور جماعات مسلحة متعددة بأجندات مختلفة، بما في ذلك بعض الجماعات المتطرفة. هذه الجماعات لم تكن تلتزم دائماً بأهداف الثورة وكان من الصعب توحيد الجهود والتنسيق بينها. مما أدى إلى مزيد من الانقسامات والفوضى وسعت لتحقيق مصالحها الخاصة.

أسلمة الثورة وتبني بعض الفصائل لخطاب ديني متطرف أثار مخاوف العديد من الدول والمجتمعات الدولية. هذا التحول أدى إلى تراجع الدعم الدولي للثورة، حيث بدأت الدول تخشى من دعم حركة قد تؤدي إلى صعود الجماعات المتطرفة إلى السلطة. هذا التراجع في الدعم الدولي أسهم في إضعاف الثورة وعزلها على الساحة الدولية.

شهدت الثورة السورية، تحديات متعددة كان لها تأثير كبير على مسارها ونتائجها. من بين هذه التحديات كان للدور الذي لعبه بعض الفنانين ووسائل التواصل الاجتماعي أثر كبير في تحديد مصير هذه الثورة. يبرز هذا التأثير السلبي بشكل خاص عند النظر إلى الطريقة التي أثرت بها هذه العوامل على وعي الجماهير وتوجيه الاحتجاجات، والتأثير على القيادة الثورية.

في العالم العربي، يتمتع الفنانين بشعبية كبيرة نتيجة ظهورهم المستمر على شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام. هذا الظهور يجعلهم في نظر الجماهير شخصيات مؤثرة، وأحيانًا يتمتعون بتقدير يتجاوز بكثير دورهم الفعلي.

في حالة الثورة السورية، كان لهذا التقدير المبالغ فيه تأثيرات سلبية واضحة.  إن القوى الإقليمية التي دعمت بعض الفنانين والمثقفين السوريين قد أدركت أهمية استخدام “القوة الناعمة” في توجيه الرأي العام. الفن والإعلام وهي  أدوات فعالة في توجيه المجتمع وتشكيل وعيه، مما أدى إلى تهميش المفكرين والقيادات الحقيقية. فشخصيات مثل الطيب تيزيني وصادق جلال العظم ورياض الترك  لم تحظ بنفس القدر من الاهتمام، رغم أن فكرهم ورؤاهم كانت ضرورية لتوجيه الثورة بشكل استراتيجي. كان تأثيرهم  أقل وضوحاً للعامة  وأقل مباشرة مقارنة بالفنانين الذين يظهرون بشكل يومي على الشاشات.

  العديد من الفنانين الذين انضموا إلى الثورة فعلوا ذلك لأسباب شخصية أو مهنية، وليس بدافع رؤية تحمل قيم الثورة في الحرية والديمقراطية. هذا الانضمام غير المدروس أدى إلى تقديم رسائل غير واضحة للجماهير، وأحياناً تعارضت مع الأهداف الحقيقية للثورة. الاعتماد على الفنانين والشخصيات العامة في قيادة الرأي العام بدلاً من القيادات الثورية الحقيقية أدى إلى ضعف في الفكر الثوري. القرارات التي اتخذها هؤلاء الفنانون كانت غالباً غير مدروسة، مما أضعف الحركة الثورية وأثر على مسارها بشكل سلبي. كان  يجب أن يكون هناك توازن بين دور الشخصيات العامة المؤثرة، وضرورة وجود قيادة فكرية واستراتيجية قوية

كانت وسائل التواصل الاجتماعي سلاحاً ذا حدين في الثورة السورية. رغم أنها ساهمت في تنظيم الاحتجاجات وجمع الناشطين وإيصال الخبر وكسر التعتيم على الحدث، إلا أنها كانت لها جوانب سلبية كبيرة. أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مساحات لنشر الشائعات والمعلومات الخاطئة. هذا النشر العشوائي للمعلومات أدى إلى فوضى إعلامية وصعوبة في تمييز الحقائق من الأكاذيب بدلاً من توحيد الجهود، ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تفتيت الساحات. الاختلافات في الآراء وانتشار المعلومات الخاطئة أدى إلى انقسامات بين الناشطين، مما أضعف الجهود المبذولة لتحقيق أهداف الثورة. رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي قدمت منصات للتعبير والتنسيق، إلا أنها لم تستطع أن تحل محل القيادة الحقيقية القيادة القوية والمنظمة الضرورية لنجاح أي ثورة، وإن غياب هذه القيادة في الحالة السورية كان أحد أهم أسباب فشلها في تحقيق أهدافها.

زر الذهاب إلى الأعلى