إخوان سوريا… بين سطوة المجتمع والتوظيف السياسي!
إخوان الماضي يختلفون اختلافا جذريا عن إخوان الحاضر المعاصر في سوريا
د. علاء رجب تباب – العربي القديم
بعد التحرر تحول الواقع الاجتماعي السوري لميدان طليق خارجا عن سطوة التوازنات والشرعية السياسية لتقاطع المصالح الدولية لحد كبير! وإن ما لفت أنظار الفواعل الدولية لهذا الحدث التاريخي هو أن الثورة السورية لم تضع العجلة على السكة بل انتزعت السكة وتفاصيلها! فهي بطبيعتها الشعبية لم تكن انقلاب حزب على آخر أو سلطة داخلية على أخرى بل انقلاب المجتمع على السلطة وانقلاب العمق الاجتماعي على الواقعية السياسية محليا وإقليميا ودوليا! لا سيما وأن هذه العصابة المتغطرسة لم تكن نظاما أفعويا ينتهي بقطع الرأس، بل نظام سرطاني يتغلغل بكل المفاصل! أي أن استراتيجية عصابة الأسد كانت تسعى أثناء الحكم إلى عملقة السلطة وتقزيم الفاعل الاجتماعي، لأنها تدرك يقينا أن العلاقة بين الطرفين علاقة وجود أو عدم! فإذا ما تعملق المجتمع تقزمت السلطة الأجيرة وإذا تعملقت السلطة تقوض التدافع الاجتماعي! ومثل هذه الاستراتيجية هي أحد استراتيجيات الاحتلال العابر للقارات والذي يوكل الحكم بدوره في مناطق المشرق لأقليات وأدوات شعبوية مسبقة التصنيع ليسهل إدارتها وفق أجندات المستخرب السياسي، بغية تجنب خطورة التناغم الثقافي والفكري ما بين السلطة والمجتمع الذي من شأنه بالضرورة أن ينذر بولادة جنين حضاري تحرري!
ومن الواضح أنه في خضم الانقلاب السوري الجذري في الميدان السياسي والاجتماعي والمؤسساتي وانتصار القوى الشعبية ذات البوصلة والقيادة الإسلامية، يتساءل المراقبون عن الدور المستقبلي لتنظيم الإخوان في مفاصل الإدارة السورية. وإذا ما أردنا التنبؤ بالمكان المحتمل أو المناسب لهذا التنظيم في الواقع السياسي السوري، لا بد أن يتم النظر في واقع نشأته وتحولاته ودوره السياسي والاجتماعي الآني في الحراك الثوري السوري!
وفي نظرة تاريخية ومعاصرة نستطيع أن ندرك أن إخوان الماضي يختلفون اختلافا جذريا عن إخوان الحاضر المعاصر في سوريا، لأنه معلوم من الحضارة بالضرورة أن الإنسان على المستوى الفردي أو التنظيمي السياسي والاجتماعي هو ابن بيئته، وعليه لا يمكن حكما أن نساوي ما بين قيادات النشأة التي تعتبر عصارة تحررية للحراك الاجتماعي والفكري السوري، وبين القيادات الإخوانية المعاصرة التي تخلّق معظمها بواسطة الأنابيب السياسية وتم الاحتفاظ بهم في أروقة البيئة السياسية والاجتماعية الخارجية لتلقيحهم سياسيا في الوقت المناسب!
ما أثر بطبيعة الحال على استقلال منظومتهم الفكرية والأخلاقية والتنفيذية! والكارثة الكبرى أنه تم اليوم هيكلة مؤسساتهم تنظيميا بالاستناد إلى العلاقات الأسرية والروابط الشخصية لا الفكرية والاجتماعية والمبدأية! ومن حيث هيكلة الفكرة وعصبيتها فقد تم استنبات أغلب القيادات الحالية ذات النفوذ ليس انطلاقا من الفكر الإسلامي أو الاجتماعي السوري، بل استنادا إلى الفكر السياسي والاجتماعي والثقافي الغربي! ما أحدث انفصاما في البنية وحوّل العصبية السياسية لديهم من حيز الفكرة لحيز الأشخاص! ومن حيز المجتمع لحيز العوائل! وحول التنظيم ذاته من حيز الوسيلة لحيز الغاية!
وبهذا نلاحظ أن هذا التنظيم أثناء نشأته كان حركة اجتماعية تحررية، لكنه تحول نتاج تغريبه القسري جغرافيا لحركة براغماتية سياسية واجتماعية مغربة عن الفاعل الثقافي والديني والشعبي الذي كان يشكل مصدر القوة السياسية لهذا التنظيم! ما جعله بعد غرقه المطلق بالتغريب الجغرافي والبراغماتية السياسية والاجتماعية قابلا للتوظيف السياسي، وأداة اختراق تستند في فاعليتها على المتغير الخارجي اقتصاديا وسياسيا! بعد أن كان يستند أثناء نشأته إلى القوة الاجتماعية الدافعة ذاتيا ثقافيا واجتماعيا ودينيا!
إن إصرار هذا التنظيم على الولوج في هذا المنهج السياسي يجعله من حيث لا يدري عرضة للانتقال من حيز القوى الاجتماعية التحررية لحيز القوى السياسية الساعية إلى الصراع على العمالة لدى الفاعل السياسي الخارجي بهدف المحافظة على وجوده! وبهذا يتحول هذا التنظيم لدى رواده لغاية لا وسيلة ولكيان غير متوازن الأركان! خاصة بعد ارتكازه المطلق في هندسة نواته على اللوبي الخارجي اجتماعيا وسياسيا وهجر العمق الاجتماعي السوري الحقيقي! وهنا لا بد أن ننوه بأنه يتوجب على كل حركة تحررية تغربت عن محيطها جغرافيا أو فكريا أو سياسيا أن تحذر من الوقوع في حيز فخ الصراع على العمالة من حيث لا تدري!
وعليه ونظرا لتباين طبيعة تحالفات التنظيم والإدارة السورية وطبيعة المتغيرات البنيوية السياسية والاجتماعية المتباينة ما بين الطرفين رغم أن الفاعل الإسلامي يعتبر أحد القواسم المشتركة بينهما، إلا أن هذه الجزئية ليست بالضرورة أن تكون عنصر توافق! بل من الممكن جدا أن تكون سببا في الصراع أو عائقا بدل أن تكون سببا في الاندماج السياسي بين التنظيم والإدارة الجديدة!
فهذا المتغير المشترك بين الطرفين من شأنه أن يحول تنظيم الإخوان لمنافس سياسي واجتماعي، وإن خطورته بالنسبة للسلطة في المشهد السوري حسب ما يبدو أنه براغماتي على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي، وتسانده شبكة متينة من العلاقات السياسية والاقتصادية الخارجية وإحداها علاقاته مع الفاعل الإيراني وحلفائه، ما يؤهل هذا التنظيم في نظر الآخر أنه ربما يكون ثغرة وأداة اختراق واستنزاف وتنافس وابتزاز سياسي بدل أن يكون أداة استقرار! خاصة وأن الطرف المنافس في الإدارة السورية الحاكمة مازال بعضهم يصنف على لوائح الإرهاب ويسعون لمفاوضة الدول انطلاقا من الإرادة الشعبية التحررية لا البراغماتية السياسية! إضافة إلى أنهم يسعون لتمكين الدين ثقافيا وسياسيا لا لتوظيفه!
وهروبا من الوقوع في فخ الاستنزاف السياسي لا تنفتح الإدارة الجديدة سياسيا وأمنيا على الكيانات ذات الارتباطات الخارجية ولا الكيانات الداخلية ذات البنية الأمنية التي صنعها النظام السابق على عينه! وبمثل هذه الخطوات يتم تجنب الاختراق والزعزعة وتقويض الشرعية الثورية والإرادة الشعبية والاجتماعية! فإن أثناء إدارة المرحلة الانتقالية ما بعد الثورات الشعبية يتوجب الانغلاق على الذات السياسية والأمنية دون إقصاء والانفتاح على كافة النخب والمكونات الاجتماعية والثقافية والتكنوقراطية وهيكلتهم سياسيا وحزبيا ومؤسساتيا بهدف تحويل هذا الواقع الاجتماعي لميدان سياسي وثقافي متحرر من سطوة النظام السابق والفواعل الدولية الساعية لإعادة هيكلة الإرادة الاجتماعية السورية وفق قياس قفصها السياسي!
وبناء على المعطيات السابقة من المرجح استراتيجيا عدم إنشاء شراكة سياسية مع تنظيم الإخوان، والعمل على نقله من حيز النطاق السياسي إلى حيز العمل الاجتماعي المدني والانفتاح عليه اجتماعيا ومؤسساتيا وتكنقراطيا لمشاركة نخبه في إدارة المؤسسات والجامعات والمؤسسات الإعلامية والتعليمية لضمان التدافع الاجتماعي والفكري السليم الساعي لتحرير الإنسان والانتقال به من حيز المستهلك السياسي لحيز الفاعلية! وبهذه الاستراتيجية في التعاطي مع مثل هذه التنظيمات السياسية يتم تجنب الاستنزاف والاستقطاب الخارجي والتأسيس لمجتمع مستقر ومتدافع في آن واحد.
لكن الواضح أن تنظيم الإخوان الفاعل المؤثر في الكيانات الثورية، يحاول أن يزاحم الإدارة السورية في رأس الهرم السياسي معتمدا على الشرعية الدولية المحدودة للمؤسسات السياسية المعارضة التي يعتبر التنظيم جزء منها كمؤسسة الائتلاف الوطني السوري، وترتكز هذه المزاحمة السياسية على استغلال تخوف الفاعل الدولي والأقليات السورية من الصبغة الاجتماعية المطلقة والإسلامية الراديكالية لقيادات الإدارة الجديدة، وهذا ما يفسر تفعيل تواصلات الائتلاف مع الأقليات في السويداء مثلا لبناء حلف أقلوي ومنافسة الإدارة الجديدة سياسيا لدى السلطة الدولية التي مازالت تدرج بعض رموز الإدارة على قائمة الإرهاب!
إن الإصرار على استراتيجية المزاحمة السياسية بهذا الأسلوب تصرف غير موفق لأنه يهدد بتدوير فلول النظام السابق ويؤدي إلى زعزعة الحكم الحالي وإفساح المجال للتدخل الخارجي الذي أثبت الواقع أن هدفه الاستنزاف على حساب الدم السوري لا الوصول لحل سياسي يحرر السوريين! لذا ولضرورة الاندماج وتجنب التصنيف يجب أن تحل التنظيمات الآنية دون استثناء ذاتها وتنخرط في النشاط المدني الاجتماعي وتكون على قدر المسؤولية!
لكن قبل الانحلال السياسي يتوجب على تنظيم الإخوان أن يستفيد من موقعه المؤثر داخل مؤسسات المعارضة ذات الشرعية الدولية ويدفع للتنازل عن الشرعية قانونيا وبخطوات سياسية مدروسة للإدارة السورية من خلال آلية المؤتمر الوطني أحد أهم المنافذ لتحقيق ذلك، وهذا من شأنه أن يشرعن الحراك الاجتماعي السوري والإدارة الجديدة دوليا ويحافظ على الكل اجتماعيا وسياسيا، وبهذا ينقلب السحر على الساحر، ويتم استخدام الكيانات السياسية السورية المعارضة لتشريع الحراك الشعبي لا لتشريع التدخل الخارجي! وبهذا يتم الانتقال بالعلاقة بين الأطراف السورية من حيز التنافس الاستنزافي لحيز التكامل الحضاري! وعندها ننتقل من حيز سلطة الدولة لحيز دولة السلطة الاجتماعية! ويتحول الصراع لتنافس وتكامل اجتماعيا وسياسيا، بل يتحول كل فرد بمكانه مهما قَل مستواه الوظيفي في ظل هذه المرجعية السياسية الاجتماعية التحررية لسلطة بحد ذاته.