أنا وزوجي الإدلبـي
بقلم: عزّة الشّرع
حدّثني الصديق العزيز الإعلامي محمد منصور أنه سيتمّ إصدار عدد من مجلة (العربي القديم) التي يرأس تحريرها، لتسليط الضوء على محافظة إدلب، ضمن خطّة طموحة لإنعاش الذاكرة السورية الجامعة. وكون زوجي رياض سفلو من إدلب الخضراء اقترح عليّ أن أدوّن معلومات عنه، أعجبتني الفكرة، وخصوصاً أن الزميل منصور أراحني من عناء البحث عن عنوان لمقالتي، حين سألني: ما رأيك أن تكتبي لنا تحت عنوان: (أنا وزوجي الإدلبي)، فيكون مقالك عن أثر إدلب في شخصية رياض؟
وأبحرت بي الذاكرة فوق الجغرافيا السورية، نحو إدلب الخضراء، هذه المحافظة التي تحوي كنزاً أثرياً غارقاً في القدم… هذه البقعة التي باركتها الخضرة، فباتت شهيرة بالتين والزيتون. إدلب التي تحوي موقعاً متميزاً، وهاماً على طريق الحرير قديماً، وطريق مهمّ للقوافل التجارية، حيث شكّلت مملكة إيبلا صلة الوصل، بين عالم البحر المتوسط، وعالم الشرق الأقصى منذ آلاف السنين… ماذا عساي أن أقول عن تاريخها، وهذه المحافظة التي أنجبت الكثير من الأدباء، والشعراء، والإعلاميين، ممّا لا يتّسع المجال لذكرهم، كما أنجبت زوجي رياض.
في هذه الأجواء التي تمتاز بها إدلب، عاش رياض ردحاً من الزمن (طفولته وشبابه) في مدينته إدلب التي أحبّها، ورفض مغادرتها لأيّ سبب كان، حيث عمل مديراً للمسرح المدرسي، وكان مايسترو للمسرح الغنائي المدرسي فيها. كان متأثراً جدّاً بالكاتب الأديب، والقاص الراحل حسيب كيالي الذي أبدع في القصة، والرواية، والمسرحية، إلى جانب التمثيلية الإذاعية، والكتابة الساخرة، حتى غدا علماً فيها على مستوى الأدب العربي المعاصر كلّه.
رياض شُغِف بالكتابة المسرحية، بتشجيع من المخرج الإدلبي أيضاً مروان فنري، كتب رياض حينها مسرحية (فرعون لا يشبه الفراعنة) التي صدرت، ضمن منشورات وزارة الثقافة في الثمانينات، ثم عمل مدرسا في محافظة الرقة وكان شغوفا باللهجة الرقاوية التي وصفها بأنها ذات جرس موسيقي وبأن اللكنة فيها نوع من الغناء الجميل… لينتقل بعدها من وزارة التربية إلى وزارة الإعلام عام 1982، بدعوة من المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون آنذاك الأستاذ الراحل فؤاد بلّاط؛ كونه كتب تمثيلية تلفزيونية بعنوان (بنت الكبة) التي أرسلها إلى التلفزيون، وقد لفت اهتمام الأستاذ بلّاط لموهبته في الكتابة.
كنت أخطو خطواتي الأولى في الإعلام، حين تعرّفت على رياض كمُعدّ للبرامج حينها. هادئ، دؤوب، ابتسامته لا تفارق وجهه، ولكنته الإدلبية المحببة تطلّ بلطف من ثنايا حديثه. ومن خلال البرنامج اليومي (غداً نلتقي) عملت مع رياض كمُعدّ، والذي كان البداية للعديد من البرامج الثقافية المنوّعة في التلفزيون السوري في الثمانينات، وكانت الانطلاقة الحقيقية الأولى في العمل مع رياض كمعدّ برنامج (مجلة التلفزيون)، ثم برنامج (واحد من أربعة)، والكثير من برامج المناسبات على مدار العام كلّه، فقد كان رياض شغوفاً بالرزنامة السورية، يعتبر مناسباتها أعياداً تستحقّ أن تضيء ليالي السوريين بالبهجة.
بعد زواجنا عملنا معاً كمعدّ، ومقدمة لبرنامج (طريق النجوم)، البرنامج الذي سعى مبكراً؛ لاكتشاف المواهب الغنائية، ضمن أسس فنية وموسيقية، وبإشراف مختصين، والذي نجح نجاحاً باهراً، وعلى موسمين، وقد كُرّم من قبل وزير الإعلام آنذاك الدكتور محمد سلمان، حيث أظهر جانباً مهماً في رياض، وهو تمكنه كموسيقي في العزف على العود، وهو كما يُقال (سمّيع خطير).
أمّا الجوانب الأخرى ككاتب سيناريو، بالإضافة إلى ما أسلفت، كتب مسلسل (الغيوم البيضاء)، ثم مسلسل (الماضي يعود غدا)، وكان إنتاجاً مصرياً، ثم الفيلم التلفزيوني (الميلاد) الذي صُوّر بالمناسبة في محافظة إدلب، ولعبت بطولته الفنانة جيانا عيد، وأخرجه محمد فردوس أتاسي، وفي عام 1996 كتب رياض (المحكوم) المسلسل البوليسي الاجتماعي الذي حقّق نجاحاً باهراً وأخرجه الأستاذ فردوس أيضاً…. أما مسلسل (العبابيد) الذي أخرجه بسّام الملا، فقد حصل على الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عام 1997.
وفي الحقيقة كان رياض يحضّر لعملين آخرين جديدين، حين خطفه الموت، ولم يدر في خلدي يوماً أن يرحل رياض، وهو في زهرة شبابه. ترك رياض في شخصه انطباعاً عاماً لديّ حول أهالي إدلب، طبعه هادئ جداً، ذكي، ولمّاح من دون استعراض، يميل للبساطة في تناول الأمور، دون أن يفتقد للعمق… ظل على الدوام مولعاً بالأكلات الإدلبية، متل اليبرق مع السجقات، والكبّة على السيخ… أمّا الشعيبيات فكانت لها مكانتها الخاصة التي لا ينازعها منازع، وبالطبع كانت ذائقته الإدلبية مرتبطة بحبّه لـ “الفليفلة الحدّة الحمراء” التي اقترح الأديب حسيب كيالي في محاضرة له بعنوان “جمهورية إدلب العظمى” أن تكون – أي الفليفلة الحمراء – رمزاً لعَلم إدلب وهي تتوسّط حبتَي زيتون!
من عاداته غير الجيدة أنه كان مدخناً بشراهة، لا أدري إذا كان مندفعاً من وراء هذا التدخين، نحو شراهة إبداعية، كانت تحاول أن تسابق عمره القصير؛ كي تحرق المراحل والأفكار… لكن من المؤكد أن جلّ تدخينه أثناء الكتابة والتفكير بإنجاز عمل، أو البحث عن فكرة. كان دؤوباً يظلّ يسعى وراء فكرة ما حتى تتحقق.. وكثيراً ما أراه في لحظة صفاء يُمسك بالعود ويعزف، وكان في عزفه حنينٌ شجيٌّ، وطربٌ شفافٌ، كأنّه كان يرسم صورة مدينته وذكرياتها، عبر دندنات الموسيقى. رحل رياض عام 1998 وهو في الثامنة والأربعين من العمر، وكان يُحبّني كثيراً ولآخر لحظة، وكانت خسارتي له خسارتَين:
على الصعيد الشخصي كزوج وإنسان،
وعلى الصعيد العملي كأستاذ لي، ومعدّ، وكاتب، وموسيقي، ورسام،
وعلى الصعيد الوطني، حين أتذكر أنه ابن مدينة تجمعنا في الجغرافيا السورية الواحدة: إدلب. رحمه الله.
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024